يسجَّل لإسرائيل في حربها على غزة خرق جديد للقانون الدولي، وقوانين حقوق الإنسان، ليس فقط بإبادة جماعية باستخدام الذكاء الصناعي، بل بالتطفّل على حياة المواطنين في الشرق الأوسط.
لم يكن رد إسرائيل على حادثة مجدل شمس، والتي زعمت أن “حزب الله” هو من يقف وراءها، مفاجئاً. لكن المفارقة كانت دقتها في تحديد مواقع قياديي “حزب الله” و”حماس” الذين اغتالتهم. وكثرت الأحاديث عن “اختراق حتى النخاع” لأمن إيران وحلفائها في المنطقة، وعن وجود “عملاء” لإسرائيل يمدّونها بتقارير عن القادة وأماكن وجودهم وتحركاتهم. لكن إسرائيل تسوّق منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر لجيل جديد من الاعتداءات المسلّحة يعتمد على القصف بالخوارزميات.
استهدفت إسرائيل ليل 30-31 تموز/ يوليو منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتالت فؤاد شكر كبير مستشاري الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ومقراً خاصاً لقدامى المحاربين تابعاً للحرس الثوري شمال طهران، حيث اغتالت إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”.
عام 1992، كانت عملية تحديد المواقع معقّدة نظراً الى “الحالة البائسة للاستخبارات الإسرائيلية عن حزب الله”، كما يصفها الصحافي في “نيويورك تايمز” رونين برغمان في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية”.
يشرح برغمان صعوبة جمع المعلومات الاستخباراتية عن مكان إقامة الأمين العام السابق للحزب السيد عباس الموسوي. إذ بدأت الاستخبارات الإسرائيلية بمتابعة أخبار الصحافة اللبنانية، واستعانت بكاتب أطروحة دكتوراه عن “حزب الله”، ثم جندت عملاء وجمعت معلومات استخباراتية عن الموسوي تمهيداً لاغتياله.
إنها ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل الذكاء الصناعي، إذ سبق لها أن استخدمت هذه التقنيات في حربها على غزة عام 2021، وفي حربها الحالية.
تملك إسرائيل “مصنع اغتيالات جماعية” كما يقول ضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي، الذين كشفوا أن الأطفال في غزة ليسوا “خسائر جانبية”، إذ يكشف الذكاء الصناعي أن كل ضحية تُقتل، تُقتل بناء على خوارزميات وحسابات معروفة لدى الجيش.
يستخدم جهاز الاستخبارات السري الإسرائيلي، الموساد، الذكاء الصناعي لتنفيذ اغتيالات في إيران، مستفيداً من غرق الأخيرة في العقوبات الدولية، التي تقيّد قدرتها على وقف مثل هذه البرامج.
وقال مصدر أمني إيراني لـ The Atlantic، “إن إسرائيل استخدمت تكنولوجيا الذكاء الصناعي لتتبّع إسماعيل هنية تمهيداً لاغتياله، وهو النظام الذي استخدمته عام 2020 لاغتيال مسؤول أمني رفيع المستوى بالقرب من طهران”.
اغتالت إسرائيل محسن فخري زاده، وهو ضابط في الحرس الثوري الإيراني وعالم نووي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، برصاصة أطلقت عبر أوامر من قمر صناعي. وأكدت “نيويورك تايمز” نقلاً عن مسؤول استخباراتي مطّلع على المخطط آنذاك، أن “إسرائيل اختارت نموذجاً خاصاً من رشاش FN MAG البلجيكي الصنع، مُرفقاً بجهاز روبوتي متقدم، وأعين متعددة الكاميرات لاغتيال العالم النووي، ويتم تشغيل هذا “الروبوت القاتل” القادر على إطلاق 600 رصاصة في الدقيقة، عبر الأقمار الصناعية”.
وقالت وسائل الإعلام إن إسرائيل اغتالت إسماعيل هنية بعبوة كانت مخبأة في غرفته منذ قرابة الشهرين.
ونقل موقع Axios عن مصادر، أن القنبلة كانت في جهاز عالي التقنية يستخدم الذكاء الصناعي، وتم تفجيرها عن بُعد بواسطة عملاء الموساد الذين كانوا على الأراضي الإيرانية.
لا تستطيع الدولة اللبنانية التطور في مجال التكنولوجيا وعالم الاتصالات والأمن السيبراني نظراً الى ضعف إمكاناتها المادية، ما يعرّض المواطنين لتسريب بياناتهم، ولأن يصبحوا بالتالي، على قائمة الاغتيالات التي يحددها الذكاء الصناعي.
وكشف الخبراء عن اختراق إسرائيل شبكة الاتصالات اللبنانية واستخدامها الداتا مثل الـ Voice recognition أو “التعرف على الصوت” لتحديد الأهداف.
آلات تقرّر من سيموت ومن سيعيش
كشفت إسرائيل منذ بداية اعتداءات “7 أكتوبر” عن ثلاثة أنظمة لتوليد الأهداف، هي: The Gospel للأهداف التي تطاول البنية التحتية، وLavender الذي يولد أهدافاً بشرية فردية، و?Where is Daddy، وهو نظام مصمّم لتتبّع الأفراد المشتبه بهم واستهدافهم، عندما يكونون في منازلهم مع عائلاتهم.
عام 2021، قدم يوسي ساريل، القائد الحالي لوحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200، في كتابه، حجة لتصميم آلة يمكنها تحليل كمية هائلة من البيانات لتوليد آلاف الأهداف العسكرية. ونقلت The Guardian عن تحقيق صحافي، أن هذه الآلة موجودة فعلياً تحت اسم “لافندر”.
ومنذ اعتداءات “7 أكتوبر”، حوّل “لافندر” جنود الجيش الإسرائيلي إلى مجرد “ختم”، إذ عليهم تكريس 20 ثانية فقط لمراجعة الهدف والتأكد من أنه “ذكر وليس أنثى” قبل أن تتم عملية القصف.
صممت الوحدة 8200 التابعة للاستخبارات الإسرائيلية هذا النظام، لتحديد الأشخاص المشتبه بارتباطهم بالأجنحة العسكرية لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، بمن فيهم الأفراد ذوو الرتب المنخفضة، كأهداف محتملة للضربات الجوية.
ويصيب البرنامج 90 في المئة من الأهداف، ولديه إمكانية التمييز ما إذا كان الأشخاص على علاقة ضعيفة بالجماعات المستهدفة كـ “حماس” مثلاً، أم أنه ليست لهم علاقة بها على الإطلاق. وتعطي الآلة لكل شخص تقريباً في غزة تقييماً من 1 إلى 100، يعبر عن مدى احتمالية أن يكون هذا الشخص مقاتلاً.
يقيم “لافندر” الأفراد عبر مجموعة من البيانات، مثل مشاركتهم في مجموعة “واتسآب” مع مقاتل معروف، وتغيير الهاتف المحمول كل بضعة أشهر، الصور، الأرقام الهاتفية، والصداقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتغيير العناوين بشكل متكرر.
يضيف”لافندر” أفراداً لديهم أنماط تواصل مشابهة لتلك الخاصة بعناصر “حماس” أو حركة “الجهاد الإسلامي” كالشرطة والدفاع المدني إلى قائمة الاغتيالات، وبالتالي، يمكن اغتيال مدنيين عن طريق الخطأ لأنهم يحملون اسماً أو لقباً مطابقين لأسماء وألقاب خاصة بمقاتلين، أو فقط لأنهم استخدموا جهازاً خليوياً كان يخص يوماً واحداً منهم.
وتختلف نوعية الأسلحة المستعملة في عمليات الاغتيال بعدما يحدّد “لافندر” الأهداف بين الصواريخ غير الموجّهة والمعروفة بـ”القنابل العمياء” أو تلك “الموجهة”. ويصنّف “لافندر” المقاتلين التابعين لـ”حماس” بالصغار والكبار، ومقابل كل “مقاتل صغير” يُسمح بقتل ما يصل إلى 15 أو 20 مدنياً.
تنقل The Guaridan عن تحقيق صحافي، أن الجيش الإسرائيلي يسمح بقتل أكثر من 100 مدني، في حال كان الهدف مسؤولاً كبيراً في “حماس” أي برتبة قائد كتيبة أو لواء. وينقل التحقيق عن ضابط في الاستخبارات قوله إن الجيش الإسرائيلي “لا يهدر القنابل المكلفة على أشخاص غير مهمّين- فهذا مكلف للغاية للبلاد وهناك نقص في تلك القنابل”.
وسبق للجيش الإسرائيلي أن أعلن استخدام The Gospel أو “جوسبل” في الحرب، وهو تقنية ذكاء صناعي صممتها الوحدة 8200 التابعة للاستخبارات الإسرائيلية، وبإمكانها تسجيل 100 هدف يومياً للقصف مقابل 50 هدفاً يسجله الجيش سنوياً.
ويعتمد البرنامج على معلومات وصور تلتقطها المسيرات، وتستخدم “جوسبل” بيانات أبراج المراقبة لرصد تحركات الأفراد المستهدفين، وبيانات حول عدد الضحايا المدنيين في القصف.
وغالباً ما تقوم إسرائيل باغتيال قادة خصومها بمجرد دخولهم إلى منازلهم وليس على الجبهة، وصممت وحدة الاستخبارات تقنية Where is Daddy? التي توجه ضربات قاتلة للجهاديين فور دخولهم منازلهم، ويرسل نظام “أين هو أبي؟” إشعاراً لضباط الاستخبارات فور دخول شخص إلى مكان إقامته.
تستحوذ إسرائيل على برامج ذكاء صناعي مثل المراقبة البيومترية وأنظمة الشرطة التنبؤية، وتقنيات تحديد الموقع (GPS-based Targeting) وتقنيات الاستشعار الحيوي (Biometric Sensing) وتحليل السلوك (Behavior Analysis.
وبحسب “نيويورك تايمز“، تستخدم إسرائيل المراقبة البيومترية، وهو نظام يستخدم بيانات من الشركة الإسرائيلية “كورسايت” وGoogle Photos لاختيار الوجوه من الحشود، وحتى من لقطات الطائرات المسيرة ذات الجودة المنخفضة.
وقالت Time إن الحكومة الإسرائيلية وقعت على اتفاق “نيمبوس” مع شركات تكنولوجيا عالمية مثل “غوغل” وAmazon AWS بقيمة 1.2 مليار دولار أميركي، ووفرت هذه الشركات إضافة إلى شركة Microsoft Azure، خدمات حفظ البيانات وخدمات الذكاء الصناعي لإسرائيل منذ اعتداءات “7 أكتوبر”.
و”كورسايت” شركة إسرائيلية لديها برنامج “فورتي فاي”، وهو نظام ذكاء صناعي متقدم للتعرف على الوجه، يوفر الدقة حتى في الحشود والبيئات الصعبة كالمطر ويعمل في الظلام التام تقريباً، ولديه القدرة على التعرف على الأشخاص، حتى وإن كانت وجوههم مغطاة جزئياً وصورهم منخفضة الجودة، بحسب موقع الشركة. ولدى الشركة برنامج آخر هو API، تزعم أنه يستطيع كشف هوية الأشخاص حتى وإن ارتدوا أقنعة أو معدات الوقاية الشخصية PPE، وحصلت “كورسايت” من صندوق “أوز فينتشرز” الكندي على تمويل بقيمة 5 مليون دولار عام 2020 لمساعدة إسرائيل على كشف أهدافها “البشرية”. وتذكر الشركة على موقعها، إنها موثوق بها من شركات عالمية مثل Apple StoreوGoogle Play.
من تستهدف إسرائيل؟ كيف؟ وكم سيكون عدد الضحايا؟ أسئلة تجيب عنها آلات الذكاء الصناعي التي تستعملها الوحدة 8200. إذ حدد لها هذا الذكاء قائمة بـ”أهدافها” و”أماكن” وجودهم. وبغض النظر عن مزاعم شركة “كورسايت” مثلاً، بأن برامجها مطابقة للمعيار رقم 25 لـ “النظام الأوروبي العام لحماية البيانات”، فهذا لا يعني أن الحق في الخصوصية مصان ومحفوظ. في حين تشير أنظمة الاتحاد الأوروبي إلى “ضرورة أن يحدد المصمم والمتحكم وسائل لحماية بيانات الأفراد، منها اتخاذ تدابير كـ “تشفير البيانات”.
تُطرح أسئلة عدة حول معنى “التشفير”، وما إذا صُممت برامج الذكاء الصناعي أساساً لكشف هوية أصحاب البيانات؟ وحتى إن لم توقع إسرائيل على أنظمة الاتحاد الأوروبي، تبقى مسؤوليتها قائمة في ظل أن معظم الذين تراقبهم من المواطنين المدنيين الذين لا علاقة لهم بـ “أهدافها” يمتلكون جنسيات أجنبية، منها أوروبية.
يسجَّل لإسرائيل في حربها على غزة خرق جديد للقانون الدولي، وقوانين حقوق الإنسان، ليس فقط بإبادة جماعية باستخدام الذكاء الصناعي، بل بالتطفّل على حياة المواطنين في الشرق الأوسط.