كتب حازم الامين في “درج “
أين “البعث” من رشاقة الدمشقيين؟
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لم يحتج الدمشقيون أكثر من يوم واحدٍ لكي يقتلعوا كل مظاهر “البعث” التي كانت متفشّية في كل نواحي حياتهم. وبعد أقل من أسبوعين على هرب بشار الأسد، لم يعد من أثر في الشام لحضور نظامه إلا في أماكن تجميع النفايات.
النظام فعلاً كان “أوهن من بيت العنكبوت”، هذه العبارة التي ساقها حزب الله ليصف إسرائيل، ترافق المتجوّل في أحياء دمشق بعد تحريرها السهل من أبشع نظام يمكن أن تبتلي به مدينة أو بلد أو جماعة.
تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة، ودمشق استأنفت حياتها على رغم الغموض الكبير الذي يلفّ مستقبلها.
الناس هنا تعيش من دون نظام البعث. لا وجهة واضحة لمسار يومهم إلا أنهم سيستيقظون غداً من دون تلك الصخرة الهائلة التي كانت تجثم على صدورهم. لا شيء أبشع مما كانوا يعيشونه. النظام كان يتعقب كل تفصيل صغير في حياتهم.
بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته.
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لا عودة إلى زمن آل الأسد. إنها الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يجزم فيها المرء أثناء تأمّله في مستقبل سوريا. والدمشقيون إذ يحارون بما لم يتمكنوا من “اجتثاثه” من آثار العائلة، ابتدعوا أشكالاً من العلاقة مع ما لم يتح لهم إزالته مستعينين بالسخرية. ورقة العملة السورية من فئة الألف ليرة تتوسطها صورة بشار الأسد، فاستبدلوا اسم هذه الفئة من العملة بعبارة “جحش”.
ثمن السندويش جحشان، وسائق التاكسي يطلب 12 جحشاً لكي يوصلك إلى منطقة المزة. إنها ما تبقى من صور بشار، وأكثر ما يستعجله أهل دمشق هو استبدال هذه العملة، فهي ما تبقى من “الأبد” الذي تخلصوا منه.
المدينة تسير غير آبهة بما ينتظرها. كل شيء عاد لينتظم من دون ناظم واضح. المهم بالنسبة الى الناس أن “البعث” انزاح عن صدورهم. المدينة تشتغل على وقع الغبطة بالحدث. الغبطة قوة دافعة للانتظام. إنها الأيام الأولى للانفراج، والناس راغبة في استئناف حياة ما بعد “البعث” وما بعد آل الأسد.
هذا الفندق مثلاً كان يملكه رامي مخلوف، والأخير هرب مع من هربوا. الفندق يشتغل، ولكن لمصلحة من؟ لا أحد يسأل، فالمهم أن هذه المرافق تؤدي وظائفها. لا يريد الدمشقيون أن يعرفوا من يتولى تشغيل مرافئ العائلة وأصولها. لا يريدون أن ينتقموا من غير وجه بشار.
أما الجانب المظلم من المدينة فيتمثل في هذا الكم الهائل من صور المفقودين الملصقة أينما وليت وجهك في أحياء دمشق. استبدل الناس صور الرئيس المخلوع وصور العائلة، بصور أحبائهم الذين أخفاهم النظام في سجونه.
العائلات هي من ألصق الصور، وكتبت عليها عبارات معتمدةً ضمير المتكلم. “هذه الصورة لشقيقي أحمد الذي اختفى في سجن المزة بتاريخ 15 – 11 – 2014، فمن يعرف عنه شيئاً الرجاء الاتصال بالرقم …”.
جدران دمشق كلها مغطاة بهذا النوع من الملصقات. أهل المخفيين اللبنانيين أيضاً وجدوا طريقاً إلى جدران الشام وألصقوا عليها صور أحبتهم.
آثار “البعث” التي لم تُزل، مبثوثة في أماكن لم تصلها بعد يد الدمشقيين، ففي شركة الهاتف مثلاً وفي صف الانتظار، عليك أن تضغط على جهاز يحدد لك دورك لشراء الخط. الجهاز يسألك ما إذا كنت “مدنياً” أم غير مدني! في الفندق يسألك الموظف إذا كنت ترغب في مخاطبتك باسمك مسبوقاً بعبارة “الحاج”، فـ”البعث” في أيامه الأخيرة استقدم “الحجاج الإيرانيين” بدل “الرفاق البعثيين”، وموظف الاستقبال في الفندق عليه أن يسأل الزبائن الجدد.
غادر الأسد مخلفاً دمشقاً متخفّفة من وجهه ومن عائلته ومن حزبه. المدينة التقطت أنفاسها غير آبهة بالغموض الذي يلف مستقبلها. لم تنهر المدينة على نحو ما انهارت بغداد بعد سقوط “بعثها” مثلاً. كل الشوارع تؤدي وظائفها على نحو غريب. الأمر محيّر فعلاً! لا أحد يسوق الناس إلى أدوارهم ومهامهم هنا. يؤدونها بما يوحي بأن النظام لم يكن أكثر من شعيرة قتل، ولا حاجة إليه بما يتعدى تلك المهمة.
شارع الشعلان التجاري في وسط دمشق لا تقفل متاجره قبل منتصف الليل على رغم الظروف التي تمر بها المدينة، والأحياء في الشام القديمة تعج بآلاف العابرين والمتسوقين، والتجار الشاميون يتنافسون على إذهالك برشاقة طاقاتهم التسويقية، إلى حد تسأل نفسك أثناء تجوالك بين المتاجر، كيف لم يخلف “البعث” بهؤلاء ثقل ظله على رغم أنه خلف كل هذه الدماء؟
مناهل السهوي – كاتبة وصحفية سورية:كيف نقنع بشار الأسد أنه لم يعد رئيساً؟
يثير البيان الأخير المنسوب إلى بشار الأسد سخرية لاذعة، لكنه في الوقت نفسه يوقظ غضباً وحنقاً تجاه الوحشية التي حكمت السوريين لعقود، والتي لم يجرؤ الأسد على الإشارة إليها بكلمة واحدة.
تزامن نشر صفحة “رئاسة الجمهورية العربية” السابقة لما تم تداوله بوصفه بيان بشار الأسد الأول بعد سقوط نظامه، مع اكتشاف عدد من المقابر الجماعية. إنها الصورة المختصرة لحكم الأسد، عظام تخرج من تحت الأرض وكلمات فارغة تخرج من فم “الشيطان”، فهل فكّر بشار فعلاً قبل نشر بيان كهذا، أم أنها فرصته الأخيرة ليمارس شرعيته التي صيغت من حياة السوريين وأرواحه، وهل هو فعلاً من نشره؟ خصوصاً أن البيان تحيط به شبهات كثيرة تشكك في مصداقيته.
احترمْ آلام السوريين واصمتْ الى الأبد
بينما تقف أمهات وأبناء على مشارف مقابر جماعية، سنحتاج الى سنوات لاكتشاف هوية من فيها، يعود بشار ويتّهمنا بالإرهاب، شعب كامل يصدقُ الأسد أن سكانه إرهابيون، فيما الإرهابي الوحيد هو من دفن كل هذه الجثث فوق بعضها…
يثير البيان سخرية لاذعة، لكنه في الوقت نفسه يوقظ غضباً وحنقاً تجاه القسوة التي حكمت السوريين لعقود، والتي لم يجرؤ الأسد على الإشارة إليها بكلمة واحدة.
لا عن آلاف المعتقلين، ولا عن سرقة البلاد، ولا عن التعذيب، أو القمع، أو الحرق، أو المقابر الجماعية. وكما يُقال، لا يزال الجرح ساخناً، ودماء المأساة تتدفق بين السوريين. ومع ذلك، أبدع الأسد، أو ربما أحد أفراد حاشيته المسؤولين عن صفحات التواصل الاجتماعي، في صياغة بيان الهروب.
وفي مقابل هروب الأسد “الميمون” مع طنّين من الأوراق النقدية وقبلها الملايين، وتركه خزينة دولة شبه فارغة، أتحفنا ببيان ركيك اللغة والإحساس. جاء في البيان: “لم أغادر الوطن بشكل مخطط له كما أشيع، كما أنني لم أغادره خلال الساعات الأخيرة من المعارك. بل بقيت في دمشق أتابع مسؤولياتي حتى ساعات الصباح الأولى من يوم الأحد 8 كانون الأول 2024”.
في الحقيقة، لا ينتظر السوريون تبريراً أو اعترافاً بالخطأ، ومن الواضح أن الرجل لا تهمّه البلاد ولا القضية ولا حتى الأخوّة، هو الذي ترك ماهر شقيقه وهرب، الرجل يريد مصلحته الشخصية والشخصية فقط والتي سيتخلى مقابلها حتى عن عائلته إن لزم الأمر، فهل لهذا البيان من معنى، سوى “أمل إبليس بالجنة”، وربما بوابة لدخول في المفاوضات المقبلة في سوريا.
محاولات ركيكة لحفظ ماء الوجه!
يُذكّرنا البيان المنسوب إلى الأسد الهارب برسائل الـ “الصديقة السابقة” التي تصلنا بعد انتهاء العلاقة، بحيث يعاند البعض بنشر رسالة تُظهر أنهم هم من اتخذوا قرار الرحيل، فلا يقبلون ولا يقتنعون بأن أحداً قد يتخلى عنهم.
بشار الأسد في رسالته بدا مقتنعاً فعلاً بأن السوريين يحبونه.
نشر الأسد البيان ثم حذفه، ما أثار تكهنات حول ما يحدث، هل هو من نشره؟ هل اختُرق الحساب؟ بيان تحيط به السخرية وإشارات الاستفهام، إذ تم استباقه بعبارتي تعريف وامتعاض بسبب رفض كل وسائل الإعلام نشره، ما اضطر الرئاسة السابقة لنشره على صفحات التواصل الاجتماعي. الطفل الكبير بشار بدأ يبكي ويشتكي، فأحد ما أخذ دميته من يده، فلطالما عامل الأسد سوريا على أنها دميته، يحق له رميها، تكسيرها، إغراقها بالطين والماء أو حتى بيعها، من منطلق “أنها لي”.
يشير عنوان البيان “تصريح للرئيس بشار الأسد حول ظروف خروجه من سورية”، إلى أن الأخير ما زال يعتبر نفسه رئيساً، وأن هروبه مجرد خروج مؤقت، وما حصل مجرد ظروف لا ثورة شعب. الأسد سيد الالتفاف على الحقيقة بلا منازع ونكران الوقائع والتكبر على جراح الآخرين، لا بأس، فأولى مراحل الفقدان هي النكران، والرئيس الهارب سيكون في مرحلة نكران طويلة وعميقة.
وليقول إن قصته لم تنتهِ، تحدث الأسد الهارب عن “قصة سيرويها حين تسنح الفرصة”. إذ قال: “ثمة ما يستدعي توضيحه عبر بيان مقتضب، لم تسمح تلك الظروف وما تلاها من انقطاع تام للتواصل أمنية بالإدلاء به، والذي لا يغني بنقاطه المختصرة عن سرد تفاصيل كل ما جرى لاحقاً، حين تسنح الفرصة”.
كيف نقنع بشار الأسد بأن ديكتاتوريته انتهت ولا يهمنا أياً من تفاصيل ليلته الأخيرة في دمشق، ونتمنى ألا تسنح له الفرصة ليقول شيئاً إلا في محكمة عادلة يأخذ فيه عقابه العادل.
وهم أن تكون بطلاً حتى في هروبك!
يخبرنا بيان الأسد، غير المؤكد حتى الآن، الكثير، والذي ندعو ألا يكون حقيقياً لأنه سيثبت لنا أن جباناً حكم هذه البلاد لـ 24 عاماً وقتل أكثر من نصف مليون شخص، ثم وضع بياناً وتردد بشأنه ليغير خصوصيته مرة only me ومرة الجميع، بشار الأسد هو الوحيد الذي يريد أن يقرأ بيانه.
أبدى الأسد الهارب اهتماماً واضحاً بتوقيت فراره، فهو لم يهرب قبل سقوط كل سوريا بيد المعارضة، إنما بعدها، عندما تأكد “المسكين” أنه استنفد جميع أسلحته، بحسب البيان غير المؤكد. وفي هذا تأكيد من جانبه على استبسال “منقطع النظير” في الحفاظ على البلاد، التي تشهد أبواب السجون فيها على هذا “الاستبسال”.
ليس هذا وحسب، فالنبرة العاطفية العالية في البيان تهدف الى استجرار ما تبقى من عواطف في حال ما زال البعض يؤمن به. أما التغني بالبطولات الغامضة للأسد، فهي مجرد إرضاء لذات مهزومة، ظهرت هذه البطولات فجأة، في حين كان يزج بأبناء الطائفة العلوية إلى موتهم المحتوم ويقتل من يرفض الامتثال لأوامره.
يتحدث بشار عن بطولاته فيقول: “وهو ذاته من وقف مع ضباط وجنود جيشه على خطوط النار الأولى، وعلى مسافة عشرات الأمتار من الإرهابيين في أكثر بؤر الاشتباك سخونة وخطراً”.
“البطولة” التي نتذكرها لبشار الأسد هي ذهابه قبل سنوات وتناوله البطاطا المسلوقة مع بعض الجنود على أبواب حي جوبر على أطراف العاصمة. يبدو أنه شعر بالبطولة حقاً حين تناول البطاطا المسلوقة، هو الذي كان ينعم بحياته بينما السوريون جائعون. وفيما كانت طائراته تقصف البيوت، كان يبتلع لقمة البطاطا المسلوقة متسائلاً: كيف بإمكان هؤلاء الشبان تناول مثل هذا الطعام؟
“البطولة” الثانية لبشار هي حين قاد سيارته بنفسه وسط دمشق، غير خائف من شيء، مؤكداً للسوريين أنه يقود سيارته في الشوارع ذاتها التي يمشون فيها متعبين… “بطولات” الأسد لا تنتهي حقيقة.
بشار “لم يكن من الساعين إلى المناصب”، والطريقة التي كان يُجبِر فيها السوريين على التصويت له لم تكن سوى أمر يحدث على الهامش، وتنصيبه بعد موت والده وتغيير الدستور لأجله ليسا أيضاً سوى تفصيل يؤكد نفوره المطلق من المكاسب الشخصية. ليس هناك رجل تكذّب أفعاله كلامه مثل بشار الأسد.
بشار، هذه الشخصية النرجسية، يعتقد أنه الوحيد المؤهل والقادر على قيادة سوريا. على مدار 14 سنة لم يثنهِ شيء ولم تقنعه لا المجازر ولا تقسيم البلاد بإعادة التفكير ولو مرة، هل سأل نفسه ولو في أمسية ما: ربما لست الرئيس المناسب؟ بعد بيانه لا يبدو أنه سأل نفسه إن كان أخطأ، ولن يسأل حتى!
لم يمتلك الأسد يوماً خطاباً قريباً من الناس أو يعبر عنهم حتى، كان يخاطب شعباً وهمياً في رأسه وما زال يخاطبه، في ما لو كان البيان حقيقياً.
أشك في أن الأسد يتابع الأخبار أو “السوشيال ميديا”، فلو شاهد مسيرة واحدة خرجت بعد رحيله لما كان أصدر بياناً ساذجاً كهذا.
أخذت لغة بشار الأسد مع السوريين خلال سنوات حكمه شكلين، فإما كانت وعيداً وتخويناً للمعارضين أو تذكيراً بأنه صاحب الفضل والمنقذ للشعب الواقع تحت سلطته. لم يتحدث يوماً كسوريّ يعرف هذا البلد حقاً، أو يمتلك هموم السلطة ولغتها وحيلها إلى أن هرب بصفته سارقاً للبلد وقاتلاً لأبنائه.
بعيداً من كون البيان حقيقياً أو مجرد لعبة من أحد ما، لكنه فرصة ليقول السوريون إنهم لا يريدون أي بيانات من هذا النوع، ما نحتاجه فعلاً هو أن يصمت بشار الأسد الى الأبد أو أن يعترف بجرائمه في محكمة عادلة تعيد الاعتبار الى دماء من قُتلوا على يديه.
خروج مثل هذا البيان فرصة ليرى الأسد ردود فعل الناس، ممن كانوا تحت سلطته وقمعه، وكم أنهم كانوا بحاجة ليقولوا: “لا نريدك” وحسب.
في ظل غياب ظروف موثوقة أو مؤكدة لنشر البيان، يبدو ألّا شيء يمكن الوثوق به أو تصديقه حين يتعلق الأمر بالأسد. كلّ ما يحيط به إما أكاذيب أو تحريف للحقائق. لذا، لا يمكن أن نؤمن بأي شيء صادر عنه سوى الحقيقة الوحيدة الثابتة: الدمار الذي خلّفه وراءه، والمقابر الجماعية، والمعتقلات، والمغيبين. تلك هي الصورة الحقيقية والأكيدة للأسد.