مناهل السهوي – كاتبة وصحفية سورية نشرت في “درج”
ما جرى في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر لا يُكتب في مادة أو مقال أو كتاب، يُعاش كل يوم، وسيبقى معنا لعقود. سنحكي لأبنائنا عنه بالحماسة نفسها، عن رحلتنا قبل الأسد وبعده. سينظرون إلينا بأعين مندهشة عندما نحدثهم عن تلك الأيام الثقيلة، عن الظلمات التي عشناها.
شهر مضى على سقوط الأسد. أصبحنا الآن قادرين على حساب الزمن بعده، بعد أن كنا نتساءل: متى سيرحل؟ عقد؟ ربع قرن؟ هل سيأتي ابنه من بعده؟ هل سنظل ندور في الحلقة ذاتها؟ لكنه سقط أخيراً، وصارت الأيام تُحسب بما بعد الأبد، بما بعد سقوط الأسد.
قبل شهر، كنا ننشد الخلاص ونحن نحمل قلقاً يُثقل صدورنا. يومها، شغّلت ترتيلة “لأن الله معنا” وسمعتها مراراً وتكراراً. كانت قوات المعارضة قد دخلت حلب بالفعل، والأمل قريب منا، يكاد يُلمَس. لكنه كان أملاً هشاً، مثقلاً بالدم والبراميل ومعتقلات الأسد.
كيف لا نخاف؟ وكل واحد منا إما هو، وإما قريبه، وإما صديقه، قد ذاق الاعتقال أو التعذيب أو التغييب القسري. كنا نعيش الخوف بكل تفاصيله، خوفاً مكتمل الملامح.
لم أسمع الترتيلة في ذلك الوقت لأي سبب ديني، بل لأنها عكست ما كنت أمرّ به من أكثر لحظات الأمل والخوف التي اختبرتها في حياتي. كنت أريد أن أصدق أنهم سيُهزمون، وأن الله أقوى من الأسد الذي جعلنا ننطوي على مخاوفنا لأجيال.
كانت ترتيلة “لأن الله معنا” تتحدث عنا نحن السوريين قبل سقوط الأسد: نحن “الشعب السالك في الظلمة”، نحن من يعيش “في بلد الموت وظلماته”، ونحن من “أشرق عليهم نور”. في تلك الليالي الطويلة قبل سقوطه، كانت هذه الترتيلة أكثر ما يعبر عن كل مخاوفي، وعن أمل كنت أخشى أن يكون وهماً.
يقول أحد المقاطع: “إن الشعب السالك في الظلمة قد أبصر نوراً عظيماً… لأن الله معنا
أيها السكان في بلد الموت وظلمته نور يشرق عليكم… لأن الله معنا”.
شهر اختبرنا فيه مشاعر لم نعِشها طوال 54 عاماً، كنا فرحين حد البكاء، خائفين ومتحمسين، أحراراً ومكتملين، مترددين ومتأهبين، منتصرين وقلقين. عشنا شهراً حافلاً بالمشاعر المتناقضة والمنهكة. أحزاننا كاملة على من رحلوا، وعلى أولئك الذين لم يُتح لهم أن يشهدوا بأعينهم سقوط من ظنناه لا يسقط.
بالنسبة إلى شعب ذاق صنوفاً لا تُحتَمل من الظلم، كان رحيل الأسد أشبه بالأعجوبة. كنا مستعدين للإيمان بأي شيء أو أي شخص، فقط لنخفف جزءاً صغيراً من ألمنا، أو نمحو من ذاكرتنا وحش سوريا. كنا نتعلق بأي أمل، ولو كان ضئيلاً، قد يفتح أبواب تلك المعتقلات المغلقة منذ زمن طويل.
ما جرى في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر لا يُكتب في مادة أو مقال أو كتاب، يُعاش كل يوم، وسيبقى معنا لعقود. سنحكي لأبنائنا عنه بالحماسة نفسها، عن رحلتنا قبل الأسد وبعده. سينظرون إلينا بأعين مندهشة عندما نحدثهم عن تلك الأيام الثقيلة، عن الظلمات التي عشناها.
كيف لا نخاف؟ وكل واحد منا إما هو، وإما قريبه، وإما صديقه، قد ذاق الاعتقال أو التعذيب أو التغييب القسري. كنا نعيش الخوف بكل تفاصيله، خوفاً مكتمل الملامح.
سيسأل أبناؤنا عن تفاصيل تلك الليلة، كيف فُتحت أبواب السجون والمعتقلات، وانفتحت معها قلوب السوريين، وكيف خرج الألم ممتزجاً بالفرح بطريقة جعلت من المستحيل التمييز بينهما. في ذلك اليوم، كان الفرح والألم شيئاً واحداً. لن يعرف السوريون الفرح من دون ألم، لأن هذا الالتصاق العميق بينهما هو ما جعل الفرح في ذلك اليوم فريداً، ولّدته أقصى درجات الألم.
وطوال أيام ما قبل السقوط رافقتني تلك الترتيلة، وحيدة في منزلي وسط بيروت، أتابع الأخبار وأستمع إلى “إن الله معنا”، أعيد مقطع: “أيها الأقوياء انغلبوا… لأن الله معنا. لأنكم وإن قويتم أيضا ستغلبون… لأن الله معنا” وأصدق أن الأقوياء ينغلبون في النهاية.
كانت كلمة “ستغلبون”، بكل غموضها وغيبية معناها، يقيني الوحيد الذي سند هشاشة الخسارات المتتالية. كنت أفكر بالمعتقلين، أولئك الذين ربما لا يعرفون شيئاً عما يحدث خارج جدران عزلتهم. كيف عاشوا في ظلمة حقيقية، محاطين بصمت خانق، يمر الوقت عليهم بلا يقين أو أمل. ثم جاء ذلك اليوم، حين سمعوا الأغلال تتحطم. حتى تلك اللحظة، كنت أظن أن حكاية الأغلال التي تكسّر مجرد خرافة، لا تمت إلى الواقع بصلة.
أذكر أول حاجز رأيته قبل 14 عاماً على طريق دمشق – السويداء، وكيف ارتجف قلبي خوفاً في تلك اللحظة. كان ذلك الخوف يوازي كل ما عشته لاحقاً من رعب، لأنني في تلك اللحظة أدركت شيئاً عميقاً ومروّعاً: أن النظام قد حسم طريقة المواجهة، وأن بطاقاتنا الشخصية أصبحت تهمتنا في بلدنا. لم يكن الحاجز مجرد نقطة تفتيش، بل رمز للسيطرة والقهر، حيث صار الخوف جزءاً من هوية كل منا.
شهر على السقوط، حدث قد لا يتكرر إلا بعد سنوات طويلة مقبلة، لا لأن الحكام لا يسقطون، بل لأن نظام الأسد ليس كغيره من الديكتاتوريات. السقوط كان بداية التعافي الطويل، إذ وجدنا أنفسنا بلا نظام الأسد، أمام مرحلة جديدة. ومهما كانت صعوبتها، نحن مستعدون لها. فعبارة “لا شيء أسوأ من نظام الأسد” حقيقية، ليس لأن الظلم أو الديكتاتورية غير موجودين، بل لأن السوريين وصلوا إلى قاع الألم، حتى باتوا يعرفون جيداً قاتلهم وكيف ينتفضون في وجهه. شعب خسر أكثر من نصف مليون شخص في 14 عاماً، يدرك تماماً معنى الاستمرار ومعنى النهوض من بين الركام.
بعد فرار الأسد، واجهنا واحدة من أعقد مشاعرنا: ماذا سنفعل الآن؟ كيف تُعاش الحياة من دون نظام طغى على تفاصيلنا لعقود؟ أدركنا أن النظام لم يكن مجرد سلطة سياسية، بل كان قيداً يلف حياتنا بأكملها، يحدد مساراتها ويخنق احتمالاتها ويتركنا للبحار والمعتقلات ومخيمات اللجوء. نعم، كنا نعلم أن هناك حياة ممكنة من دونه، لكننا لم نعشها من قبل، ولم نعرف كيف نخطو أولى خطواتنا نحوها. كيف نبني عالماً جديداً من رحم الخراب؟ كيف نتحرر من مخاوف أصبحت جزءاً من تكويننا؟ كان السؤال الحقيقي الذي يطاردنا هو: هل يمكننا حقاً أن نصبح أحراراً، لا فقط من النظام، بل من ظله الثقيل الذي ما زال يطارد ذاكرتنا؟.
وأدركتُ فجأة أن جزءاً كبيراً من اكتئابي الذي رافقني لسنوات، كان نتيجة لنظام الأسد، ولشعوري العميق بالظلم واستحالة الحصول على العدالة. كانت تلك الثقلات النفسية التي عشتها، لا سيما الإحساس المستمر بالعجز، هي ما كبلني لسنوات. كنت أظن أن هذا الاكتئاب جزء من تكويني الشخصي، وأن الأدوية وحدها هي ما ستسيطر عليه، إلى أن اكتشفت أن الأسد كان السبب الرئيسي لهذا الاكتئاب. كان وجوده هو مصدر تلك الظلال الثقيلة التي خيمت على حياتي، وعندما سقط، شعرت أنني قد تخففت من عبء ثقيل كنت أظن أنه مستمر إلى الأبد.
شهر على السقوط، وما زال أول ما نفكر به عند الاستيقاظ هو فرار الأسد، وهو لحظة بداية حياتنا الجديدة التي نراها ممتدة إلى ما لا نهاية. لقد تخلّصنا أخيراً من ثقل الأسد الذي كان يثقل كل تفاصيل حياتنا. الآن، أصبحنا نرى العالم بطريقة مختلفة، ونشعر أن القادم يحمل لنا فرصة للتغيير. أصبحنا نمتلك يقيناً بأننا سنظل أقوياء، لأنه رغم كل محاولات النظام للبقاء، نعلم أنه سيُهزم.
والآن، نستطيع أن نقول بكل إيمان: “أيها الأقوياء انغلبوا، لأنكم وإن قويتم ستنغلبون أيضاً، لأن الله معنا”.