يعمل فريق علمي من معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” على اختلاف تأثيرات تغير المناخ في الأقاليم في العالم ونسبة التفاوت من إقليم إلى آخر. وتأتي منطقة البحر الأبيض المتوسط من بين الأقاليم الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية بحسب ورقة علمية جديدة نشرت في بعنوان: “لماذا البحر الأبيض المتوسط نقطة ساخنة لتغير المناخ؟”. كتبها عالمان بيئيان وهما الفاتح الطاهر وأليكسندر تويل من المعهد المذكور. على رغم اختلاف نماذج المناخ العالمي من نواح عدة، والتوقعات بمزيد من هطول الأمطار في العالم بسبب التغيرات المناخية، يتوقع أن يشهد مناخ منطقة البحر الأبيض المتوسط انخفاضاً حاداً في الهطول المطري شتاءً جراء التغيرات ذاتها، وهي ناتجة عن ازدياد الغازات الدفيئة في الجو بحسب هذه الورقة العلمية الجديدة.
ومن شأن انخفاض المواسم المطرية في هذه النقطة الساخنة في المناخ العالمي، التأثير في الموارد المائية التي تعتمد على الأمطار الشتوية لتزويدها خلال فصل الصيف الحار والجاف. قد تفقد منطقة البحر الأبيض المتوسط ما يصل إلى 40 في المئة، من هطول الأمطار في فصل الشتاء، الأمر الذي يقوض قدرة المنطقة على التطوير وزراعة الغذاء، ويؤثر على حياة ملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل من الإجهاد المائي، ناهيك بالتهديد الذي يلقيه على كاهل المنطقة ويزيد من التوترات الموجودة فيها، تحديداً في شرق البحر الأبيض المتوسط. حتى يومنا هذا، لا تزال هناك نظرية تشرح الطبيعة الخاصة لهذه المنطقة باعتبارها نقطة ساخنة على خارطة تغير المناخ.
وأظهرت دراسات في النمذجة والرصد، أن معظم مناخات البحر الأبيض المتوسط التي تتميز بصيف حار وجاف تميل إلى أن تصبح قليلة الأمطار مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، لكن من دون شرح الظروف المناخية والآليات التي تتمخض عنها القلة في الهطول المطري. إنما في الورقة البحثية الجديدة، وهي واحدة من مجموعة الدراسات العالمية التابعة لمجموعة أبحاث جامعة MIT، يقوم الباحثون بمحاولة محاكاة التغيرات المناخية المستقبلية وتوصيفها على المستوى الإقليمي، أي من إقليم إلى آخر عبر تتبع الطريقة التي تساعد على فهم محتوى التغيرات المناخية. وجاء اختيار MIT لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بحسب العالم في الهندسة المائية وعلوم المناخ، البروفيسور الفاتح الطاهر، لأن هناك دراسات علمية من مراكز تخصصية حول العالم تعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط من المناطق التي ستتأثر أكثر من غيرها بالتغير المناخي وتحديداً من ناحية الهطول المطري في الشتاء، وهو الفصل الممطر في هذه المنطقة. والهدف من الدراسة هو تحديد كيفية حصول التغير المناخي في هذه المنطقة والإجابة تالياً على سؤال لماذا تتأثر أكثر من غيرها بالتغير المناخي.
تحدث “درج” عبر منصة “الزوم” مع البروفيسور الفاتح الطاهر حول النتائج والاجابات العلمية التي توصلت إليها الدراسة الجديدة حول التغيرات المناخية الشاذة التي ستشهدها منطقة البحر الأبيض المتوسط في العقود الآتية. يشير الطاهر في الشرح الذي يقدمه لنا إلى أن “هناك عاملين أساسيين يتضافران مع بعضهما ويساهمان في التغير المناخي في هذه المنطقة أكثر من غيرها وهما: العامل الأول هو حصول تغيرات في المنطقة تسمى بـTropopause في الغلاف الجوي على بعد 10 كيلومترات من الأرض، وهي المنطقة التي تحصل فيها التغيرات المناخية والطقسية ناهيك بتغيرات في دوران الهواء. وتفرض طبيعة التغير ضغط هوائي عالي في إقليم البحر الأبيض المتوسط. العامل الثاني هو أن البحر الأبيض المتوسط بركة كبيرة من المياه ومحاطة بالأراضي من كل النواحي. ومع التغيرات المناخية تسخن الأراضي أكثر من مياه البحر المتوسط في الشتاء، بينما هذه المياه، أدفأ من الأراضي في الظروف المناخية الطبيعية شتاءً. تالياً، ترتفع درجة حرارة الأرض أكثر من درجة حرارة مياه البحر، وسيكون البحر الأبيض المتوسط أبرد مما حوله نسبياً، ولن تكون سخونته بمستوى سخونة الأرض، ما يؤدي إلى تشكل منطقة ضغط هوائي عال في البحر أيضاً”. وتتكاتف هذه العوامل ناهيك بالتغيرات الحاصلة في قمة الغلاف الجوي، لخلق منطقة فيها ضغط هوائي عال حول البحر الأبيض المتوسط.
ويشرح الطاهر طريقة دوران الرياح في حالة وجود منطقة ضغط هوائي عال، ويشبهها بدوران عقارب الساعة وفقاً لفيزياء المناخ الطقس. ووفق هذا الأساس العلمي، ان رياح شرق البحر الأبيض المتوسط تأتي من تركيا، ومن غربه تأتي الرياح من الصحراء الكبرى. والرياح الآتية من تركيا هي تلك التي تنزل من منطقة عالية إلى أخرى أكثر انخفاضاً وعلى هذا الأساس تؤدي الرياح الآتية من منطقة عالية إلى منطقة منخفضة إلى تقليل مستويات هطول الأمطار. ويقول في هذا السياق: “حين تتقدم الرياح نحو المرتفعات وتتخطاها، نلاحظ تشكل السحب والهطول المطري في المنطقة التي جاءت منها الرياح، أما المنطقة التي تقع خلف المرتفعات حيث تفقد الرياح الجزء الأكبر من حمولتها من بخار الماء فوق سفح الجبال المواجهة لها، تقل الأمطار”. وبالتالي، يصبح إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط نتيجة التغير في دوران الرياح منطقة Rain Shadow، أي صحراء الظل المطري وتقل فيها مستويات الأمطار، أما الرياح الآتية من الصحراء الكبرى إلى المغرب وإسبانيا، فتؤدي إلى تقليل مستويات الأمطار أيضاً، ذاك أنها رياح ساخنة وجافة. وعلى هذا الأساس، يشرح فريق البحث العلمي في MIT للمرة الأولى كيف تتفق الدراسات في أميركا وأوروبا على أن التغيرات المناخية تؤدي إلى انخفاض الهطول المطري في منطقة البحر الأبيض المتوسط وبالتحديد شرق المنطقة، بخاصة لبنان وسوريا وفلسطين والمغرب واسبانيا. وليست هذه الدراسة كما يقول الفاتح، تنبؤات بقدر ما هي تفسير للتغيرات الحاصلة كي يكون الناس على الثقة بتغير المناخ وآليات حصوله، وذلك من أجل رسم السياسات لمواجهة التغيرات المناخية.
ويضيف العالم الفاتح الطاهر أن التغيرات لا تشمل أجزاء من المنطقة بعينها، بل تشملها بالكامل، انما تختلف مستويات التغير من منطقة إلى أخرى، والمنطقة الأكثر تأثراً هي شرق البحر الأبيض المتوسط وغربه، ولكن ستقل نسبة الأمطار في عموم المنطقة شتاءً، ونحن نعرف بأن مناخ المنطقة حار وجاف صيفاً ودافئ وممطر شتاءً. ومن المهم أن يعرف الناس ما سيحصل، لأنه تغير يحصل في الفصل الممطر والدافئ.
أظهرت دراسات أن معظم مناخات البحر الأبيض المتوسط التي تتميز بصيف حار وجاف تميل إلى أن تصبح قليلة الأمطار مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
بخصوص العوامل البيئية التي تؤدي إلى تقليل نسبة الهطول المطري في المنطقة، يؤكد الأكاديمي أنها ترجع إلى الغازات الدفيئة على المستوى الكوني ولذلك يجب أن تكون الحلول وسبل مواجهة التغيرات كونية لتفادي تركيز الغازات ولا تجدي المحاولات الإقليمية وحدها، إنما تظهر حدة التغيرات في منطقة معينة وهذا هو تخصص الدراسة والفريق العلمي الذي أعد الدراسة، أي تحديد الإطار الإقليمي للتغيرات المناخية وتأثيراتها. ولو وصلت درجة القياس الحراري الكوني إلى درجتين بينما تكون في منطقة البحر الأبيض المتوسط ثلاث درجات، ومن هنا يجب أن تعرف المجتمعات والناس التأثير المباشر للتغيرات المناخية واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للتأقلم مع التغير الذي سيحصل. ويحاول فريق MIT شرح مستويات تغيرات المناخ على المستوى الإقليمي. وكانت التجارب العلمية الأخرى قبل هذه الورقة العلمية، “عبارة عن أدوات المحاكاة Models لمستقبل مناخ الكرة الأرضية تتنبأ بحصول انخفاض الأمطار في البحر الأبيض المتوسط، انما دون شرح الآليات والمسببات التي تؤدي إلى حصول التغيير، لذلك أردنا أن نفهم من خلال الورقة العلمية أسباب وآليات التغير”، يضيف الأكاديمي.
المسألة الثانية المتعلقة بالبحر الأبيض المتوسط، هي أنها تتميز بندرة المياه والصراع عليها حتى من دون حصول التغير المناخي، وقد تؤدي إلى آثار مجتمعية كبيرة، لذلك من المهم وضع تنبؤات دقيقة عما يحصل في المستقبل. ويقارن الباحث هنا بين أناس يتأثرون بفايروس “كوفيد-19” أكثر من غيرهم، لأنهم يعانون أصلاً من أمراض مزمنة وبين مجتمعات تعاني من مشكلات مائية وبيئية موجودة، وتالياً ستكون حدة التغيرات المناخية على هذه المجتمعات أكثر من غيرها.
ستؤثر هذه التغيرات المناخية الشاذة في الزراعة والتخزين المائي في منطقة تعاني أساساً من ندرة المياه والمصادر الطبيعية الأخرى، بشكل ملحوظ وقد تجلب المزيد من عدم الاستقرار فيها. تالياً، ما هي الحلول المقترحة لمواجهة هذه التغيرات؟ مثلاً يتحدث كثيرون عن الحلول القائمة على الطبيعة ويتحدث آخرون عن استخدام التكنولوجيا الحديثة لتأقلم المجتمعات مع الظروف المناخية المقبلة. يرى عالم المناخ أن طريقة التخفيف أو ما يسمى Mitigation هي إحدى الوسائل لتفادي الأزمة. وتقتضي هذه الطريقة تغيير نمط الحياة على المستوى العالمي من خلال تقليل الاستهلاك وتخفيض الغازات الدفيئة، وذلك عبر تخفيض استخدام السيارات واستهلاك الكهرباء والطاقة. ومن شأن تطبيق خطوات جادة على المستوى العالمي برأيه، تقليل حدة التغيرات المناخية، مشيراً في هذا السياق إلى أهمية دور الإعلام لإيصال النتائج العلمية للأبحاث العلمية إلى المجتمعات، بغية التعامل مع الأزمات المناخية بجدية. ولكن ذلك يستلزم الخطوات على المستوى العالمي وليس الإقليمي. الطريقة الثانية هي التكيف مع الظروف المناخية وهذا يتطلب التعامل مع المياه عبر إدارة رشيدة من جانب، ووفق الازدياد السكاني واستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة للزراعة والاكتفاء الذاتي الفعّال (الاستخدام الذكي للمياه) من جانب آخر. اقتضاباً، من شأن تغيير نمط الحياة والاستهلاك بناء سياسات فعالة للتعامل مع التغير المناخي.