لنبدأ بالنهاية. بتعبير الشاعرة روث فينلايت: «الجميع يعرف نهاية القصة». في صباح يوم 11 من فبراير (شباط)، 1963، في عامها الثلاثين، دخلت سيلفيا بلاث مطبخها في شقتها بلندن وأغلقته بالورق اللاصق، فتحت الغاز وأسندت رأسها على باب الفرن المفتوح. استعداداتها للموت كانت محسوبة واستجدائية. تركت طفليها الصغيرين في غرفة نومهم، باب الغرفة مغلق تماماً وشباكها مفتوح، مع بعض الخبز والزبدة والحليب. ورقة صغيرة في عربة الأطفال تضمنت طلباً مهذباً، بالأحرف الكبيرة، بالاتصال بالطبيب الذي كتب لها وصفة المهدئات. وحين وصل الدكتور هوردر كانت قد ماتت منذ عدة ساعات. مع أن هوردر كان يحاول إدخال بلاث إلى قسم العناية النفسية قبيل انتحارها، فقد أعلن «كنت مندهشاً جداً أنها فعلت ذلك بنفسها».
إلى جانب الملاحظة المتعلقة بالطبيب – التي قد تدل أو لا تدل على أنها كانت تأمل أن يعثر عليها حية – تركت بلاث ملفاً أسود على مكتبها. تضمن الملف المجموعة الشعرية الريادية، المهداة لطفليها فريدا ونيكولاس، والتي عنونتها «أرييل». كانت بلاث قد استمرت تكتب الشعر حتى قبل وفاتها بستة أيام (يومياتها الأخيرة، التي ظلت تكتبها حتى قبل وفاتها بثلاثة أيام، أتلفها زوجها تيد هيوز)، وعملها الأخير فسره العديد من القراء بنهم على أنه إعلان عن الكيفية التي ستنتهي بها حياتها. وقد صادق هيوز على ذلك التفسير. أعلن عام 1998، قبل وفاته بفترة قصيرة، أن القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها «أرييل» كانت «نبوءة بانتحارها»، وهي قراءة تستدعيها الأسطر الأربعة الأخيرة:
قطرة الندى التي تطير
منتحرة، متوحدة بالنزعة
نحو العين
الحمراء، مرجل الصباح.
ومع ذلك فإن بلاث نفسها وصفت عملها بعبارات تمزج الهزل بالكآبة، حين قالت: «قصيدة أخرى حول ركوب الخيل هي التي عنوانها (أرييل)، اسم حصان فتنت به». إذا قرأت بهذه الطريقة فإن الأجزاء المبعثرة للقصيدة، «الأعقاب والركب»، «الرقبة» و«الأفخاذ» و«الشَعر»، بتعرجاتها وسهولة الإلمام بها، تبدو صلتها بنهاية عنيفة مفاجئة أقل من صلتها بالحياة إذا ما نظر إليها بسرعة هائلة من زاوية متحدث يعدو باتجاه شمس الصباح. رؤية بلاث لنفسها على أنها «غودايفا بيضاء» (كما في الأسطورة الإنجليزية) رؤية مشبعة بالبهجة والانتصار. لقد أضاف هيوز معلومة تقول: «كان أرييل اسماً لحصان كانت تركبه كل أسبوع. قبل ذلك، حين كانت طالبة في كمبردج (إنجلترا)، ركبت الخيل مع صديقة أميركية باتجاه غرانتشيستر. اندفع حصانها، وسقط الرِكَاب، فقطعت الطريق عائدة إلى الإسطبل الواقع على بعد حوالي ميلين، الحصان بأقصى سرعته، وهي متمسكة بعنقه».
ما لم يذكره هيوز هو أن تلك الحادثة (ديسمبر/ كانون الأول، 1955) كانت المرة الأولى التي تركب فيها بلاث الحصان. حسب التفسير الذي أوردته هيذر كلارك في سيرتها الجديدة لبلاث، اندفع الحصان المتمرد في الطريق المعاكسة، وكانت السيارات تنحرف عن مساره والنساء يصرخن. كانت بلاث متمسكة بعنق الحصان مندهشة من «قوتها» هي؛ ربما لكي تدهش الجمهور على الأقل. كتبت: «أشعر كما لو كنت صاعقة بشرية تنتقم». في القصيدة التي كتبت لاحقاً تظهر المتحدثة بلغة قاتلة أيضاً: «وأنا/ أكون السهم».
إن السيرة لا تقدم تفسيراً نهائياً ولا تستنفد التفسيرات المحتملة لما يحدث في «أرييل». معرفتنا بأن بلاث انتحرت بعد كتابة المجموعة بوقت قصير لا يعيننا كثيراً في فهم صور القصيدة وإطارها الشكلي. أما العنوان فقد أشار الشاعر روبرت لووِل أن «أرييل يذكر بالشبح الشكسبيري اللطيف (في مسرحية «العاصفة»)، الثنائي الجنس، والمرعب قليلاً، لكن الحقيقة هي هذا الأرييل هو حصان الكاتبة». موت الشاعرة بيديها إحدى «الحقائق» (قال لووِل لإليزابيث بيشوب إن قصائد بلاث كانت «كلها حول» «انتحارها»). حقيقة أخرى هي أن الاسم «أرييل» هو لشكسبير كما هو لبلاث. أرييل شبح يفتتح «العاصفة» مستعبد البروسبيرو، ولكنه يتحرر في النهاية بقدراته الخلاقة. بعد تركه آثاراً سحرية في الآخرين ينطلق ويصير هو نفسُه، كما يقول «أرييل» بلاث، «شيئاً آخر».
لقد أشارت بلاث أكثر من مرة إلى «تكيفها» بعبارة توحي بالكيفية التي حولت بها الأحداث في حياتها إلى «شيء آخر». كتبت حول قصة محاولتها الأولى للانتحار في شبابها عام 1953 وذلك بعد عام من تلك المحاولة قائلة: «لقد تكيفت مع محاولتي الصيف الماضي إلى حد أنني سأكتب بحثي الروسي حول موضوع الانتحار». وقد أثنت كلية سميث، حيث كانت تدرس، على «تكيفها الجميل» مع الحياة بعد تلك المحاولة الأولى للموت. الدليل الأفضل على شاعر متكيف بشكل جيد كان إحساسها حول كيفية تحويل التجربة إلى فن. أخبرت بلاث أمها أوريليا بما شعرت أنه كان يجب أن يحدث قبل تحويل حياتها هي إلى أدب: كان على الواقع أن يكون موضوعاً «لتحويرات» الشاعر، كان على الشخوص أن يمروا بعملية «دمج» يصيرون بموجبه «مركبين»، وعلى الحقيقة أن «يعاد ترتيبها».
لقد نظر كتاب سيرة بلاث إلى الشاعرة في الغالب كما لو أن أعمالها ليست أكثر من تعبير ذاتي ومباشر. عمليات التحويل التي وصفتها لأمها قد تغيب عن تلك السير أيضاً، وإن أثبتت فإن عمليات كتلك تُفهم على أنها عوائق في وجه الحقيقة المتمثلة في كشف الكاتبة عن نفسها. لكن لا بد أن تكون القصائد شيئاً آخر غير الاعتراف المباشر لكي تستحق أن تسمى قصائد، كما تدرك كلارك. في حين تستخرج كلارك مصادر لمادتها أوسع مما ظهر في أي من السير النقدية العديدة التي كتبت عن بلاث، فإنها تؤكد بحرص ما لدى الشاعرة من مواهب وطاقات شعرية. نتيجة ذلك تقييمٌ يراها كاتبة نمو وإبداع، ليس كما لو كانت امرأة محكوماً عليها بالانتحار، وإنما بوصفها شخصاً يصارع باستمرار، كما عبرت هي بتواضع، ليكون «أكثر نجاحاً في الكتابة مما ظننت في البداية». بتعبير كلارك، كان التزام بلاث «ليس للموت، وإنما للفن».
كان معنى النجاح في الكتابة، كما رأته في سنوات صباها، أن تكتب قصصاً وترسلها إلى مجلات منتشرة فتكسب المال وتحصد الجوائز. بعد الموت المفاجئ لوالدها (أوتو) حين كانت في الثامنة من عمرها، كانت عائلة بلاث دائماً على شفا كارثة من الإفلاس المالي. كانت سيلفيا، التي قالت عن نفسها إنها كانت في طفولتها «ذكية بصورة خطرة»، تحب المنافسة، متحمسة ومصممة وطموحة بلا حدود. اكتسبت الثناء من الجميع بسبب تفوقها الدراسي، بإيمانها بالإنجاز، ومظهرها المتسق على نحو بديع. كانت أشياء عظيمة تُنتظر منها وكانت تعمل بلا هوادة. بمناسبة مرور 30 عاماً على انتحارها، وصفت جانيت مالكوم في «النيويوركر» حياة بلاث بأنها «قصة مميزة للخمسينيات المخيفة والمزدوجة الوجوه». أما أم بلاث، الجادة في عملها، فقد روت نكتة قاسية هي أن «الانهيار العصبي» شيء لا يستطيع أحد من أسرة بلاث أن «يحتمله».
حين عادت سيلفيا ذات العشرين عاماً إلى البيت، مرهقة، من ماساشوستس بعد تدريب رفيع المستوى ولكنه مرهق جداً في نيويورك لدى مجلة «مادموازيل»، لتجد نفسها عاجزة عن الكتابة (وهي تجربة سجلتها في روايتها «جرة الجرس»، التي نشرت بعد شهر من وفاتها)، تم تشخيصها على أنها مصابة بالاكتئاب. سلسلة العلاج التي تلت جعلت الأمر أسوأ إذ تصاعدت في صدمات كهربائية مرعبة. تقول كلارك إنه ربما كان الخوف من تكرار هذا العلاج في لندن عام 1963 هو الذي أدى إلى انتحار بلاث.
في عام 1955 أحضرتها منحة من فولبرايت إلى كمبردج شديدة البرودة وإلى تيد هيوز شديد الحرارة (أو تد هيوج (أي الضخم)، كما سمته آن سيكستون). المواجهة العنيفة لهذين الشاعرين في حفلة طلابية – عضت خده وانتزع هو ملفعها وقرطي أذنيها تذكاراً – تحول بسرعة إلى مادة أسطورية متداولة استمتع الجميع بتضخيمها. لاحظ أحد الحضور أنهما «استحق كل منهما الآخر» وتساءل: «هل ستتمكن سيلفيا من ترويض تيد وتدجينه… أم أنه بدلاً من ذلك سيحرر سيلفيا من عواطفها المكبوتة سلفاً؟» تزوجا في لندن في كنيسة سانت جورج، في بلومزبري، في السادس عشر من يونيو (حزيران) 1956 – يوم بلوم (يوم الاحتفال بذكرى الكاتب الآيرلندي جيمس جويس) – الحدث الذي صعق أوريليا بلاث (أم سيلفيا)، الشاهدة الوحيدة على الزواج. بعد شهر عسل قضياه في فرنسا وإسبانيا… عاد الزوجان إلى كمبردج، لتبدأ بلاث سنتها الثانية في كلية نيوهام ويبدأ هيوز التدريس في مدرسة للأولاد. وصفهم أحد المعارف بأنهما «متوهجان بالسعادة». لكن أحد معلمي بلاث في كمبردج رأى أيضاً أن تلك الفترة كانت تشير إلى بداية «الغضب العاطفي الذي هيمن منذ ذلك الحين على شعرها».
مر عامان من التدريس والكتابة في ماساشوستس؛ هنا عانت بلاث بشكل متقطع من عقدة الكاتب والاكتئاب (الذي بحثت له مرة أخرى عن علاج)، لكنها أيضاً احتفلت بسلسلة من الاختراقات الإبداعية والشعرية المنتشية. عاد الزوجان إلى إنجلترا عام 1960، حيث أنجبت بلاث (في لندن) ابنتهما فريدا. بعد ذلك بعامين ولد نيكولاس. وفي ذلك الوقت كانت العائلة قد انتقلت إلى مزرعة في ديفون. حاولت بلاث بمشاعر من الابتهاج أن تتكيف لكن ولادة أطفالها تسببت في أشهر من العقم الإبداعي والبؤس، وأزعجتها كذلك ذكريات والدها المتوفى. خيانة هيوز أدت في النهاية إلى انفصال الزوجين عام 1962. الأمر الذي أطلق لدى بلاث سيلاً جارفاً من القصائد الكئيبة والمزعجة حول الشر، والتعذيب، والتضحية، والموت. هذه الأعمال المنتصرة والمروعة صنعت اسمها.
غير أن صوت بلاث في الأخير يمكن أن يرى منسجماً بصورة جميلة مع العالم الطبيعي أيضاً. رسمت مشهد قصيدة بعنوان «خراف في الضباب» (1962) مع ملاحظة شارحة تقول إن «حصان المتحدث يمضي بمشية بطيئة وباردة وهو يتحدر على تلة من الحصى نحو إسطبل في الأسفل». في مفتتح هذه القصيدة تلال «تصعد نحو البياض»، يراها المتحدث الذي «تمسك عظامُه بالسكون». إنها تعيد تصور الإدراك المتنامي لدى شخص أو شيء يجدها ناقصة («الناس أو النجوم/ تنظر إليّ بحزن، أخيب أملهم»)، لكن قدراتها المرهفة اللماحة على الملاحظة تلتقط الطريق أمامها لكي تخالف خيبتهم. أو أنهم بالأحرى سيلتقطونها بطريقة تضفي المعنى على شيء يقصر دون التوقع (أحد الأسطر يتألف بأكمله من «أوه هدئ») وهو إنجاز عُبر عنه بما هو أقل منه.
إن هذا ليس صوت الانتقام الذي يحمل الموت كما بالغ البعض في وصفه؛ إنها رائعة من نوع آخر.
لم ترد بلاث لأي شيء أبدعته أن يذهب سدى، كما كتب هيوز في مقدمة أعمالها الكاملة: «حسب علمي، لم تتخلص من أي محاولة شعرية لها». بدلاً من التخلص من نص اتضح لسبب ما أنه غير ناجح، ستحاول أن تجد له شكلاً أو صيغة تجعله يعمل، محولة إياه إلى شيء، بتعبير هيوز، «أرهق قدراتها الإبداعية مؤقتاً». عادة أخرى كانت أن تتصور قصائدها المفردة كما لو كانت أعضاء في مجموعة، ربما أسرة، مجتمعة في كتاب يتغير اسمه وعلاقاته الداخلية باستمرار. لو أنها عاشت فستستمر في تكييف ومضاعفة الأعمال التي وصفتها ذات مرة بأنها ذريتها.
على النقيض من العديد من أولئك الذين كتبوا عن بلاث وهيوز، تتفادى كلارك أن تكون جزءاً من قصتهما. كتابها «المذنب الأحمر»، الذي تزيد صفحاته عن الألف صفحة، يحبكُ بتأنٍ الحياة القصيرة التي يوثقها. نغمته واقعية، متعاطفة بصمت (وليس مع بلاث فحسب)، وبعيدة عن الإثارة. فصول كاملة منه كُرست لإعادة بناء شهر واحد يوماً بيوم، مدمجة في الغالب شهادة من مصادر غير مشهورة. رواية كلارك لحياة بلاث هي الأولى التي استطاعت الاعتماد على كل مراسلاتها المتبقية، سواء التي لم تنشر أو التي اكتشفت مؤخراً، وعلى العشرات من المقابلات التي أجراها معاصروها ونشرتها هارييت روزنشتاين (تهيئة لسيرة لم تكتمل)، المقابلات المحفوظة في أرشيف جامعة إيموري.
تركز كلارك أيضاً أكثر من غيرها على الخلفية العائلية لوالدي بلاث، أوتو (الذي هاجر من بروسيا إلى أميركا في سن السادسة عشرة) وأوريليا (المولودة باسم شوبير)، التي كان والداها نمساويين. هذه سيرة مرخص لها: ورثة بلاث وهيوز سمحوا لكلارك بالاقتباس كما تشاء ومباشرة من المادة المنشورة وغير المنشورة، لذا لم تحتج إلى إعادة صياغة الأقوال المؤكدة أو إلى ما هو غائم في الذاكرة. «المذنب الأحمر» ليس تبجيلاً بصورة مبالغ بها لموضوعه، ولا هو بالمدفوع إلى تقديس التفاصيل المتعلقة بأيام بلاث الأخيرة. إنه سيرة حياة بأفضل وبكل ما في الكلمة من معنى.
* مراجعة لكتاب «المذنب الأحمر: حياة سيلفيا بلاث
القصيرة والملتهبة»
المصدر مجلة «بروسبكت»
(يناير/ فبرير 2021).
الأغنية الوطنية… من رفاهية القصور إلى خنادق الحرب وحكايةانشودة دمشق
لا يبدو «الغناء بين الفن والسياسة» عنواناً دقيقاً في التعبير عن مضمون هذا الكتاب الصادر في القاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة للباحثة د. ناهد عبد الحميد، فللوهلة الأولى تظن أنه يتعلق بالعلاقة الشائكة بين فن الأغنية وبحور السياسة بأمواجها المتلاطمة ومناطقها المحرمة، لكنك ما إن تبدأ في قراءة العمل وتتصفح الفهرست حتى تجده يتحدث عن منطقة أخرى أكثر دفئاً وأماناً هي الأغنية الوطنية مع بعض الإشارات الخاطفة لحكاية هنا أو واقعة هناك، عبر صفحات الكتاب التي تبلغ 279 صفحة من القطع الكبير. والغريب أيضاً أن الغلاف لا يعبِّر عن مضمون العمل، فهو يحتوي على صورة مكبَّرة لأم كلثوم رغم أنه لم تَرِد الإشارة إليها إلا في وقائع عابرة، على عكس محمد عبد الوهاب الذي تناولت المؤلفة تجربته في هذا السياق باستفاضة.
أنشودة دمشق
عاش موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فنياً فترة حكم ملكين وأربعة رؤساء في مصر وكان في مقام الابن المدلل لأمير الشعراء أحمد شوقي المقرب إلى القصر الملكي، وكانت الأغنية الوطنية ملمحاً بارزاً في تجربته سواء صدرت عن قناعة ذاتية أم استهدفت التقرب للحكام أم بغرض الاثنين معاً.
وتشير المؤلفة إلى «أنشودة دمشق» قصيدة أحمد شوقي الشهيرة التي لحّنها وغنّاها عبد الوهاب، ولم تغنَّ هذه القصيدة من قبل إلى أن وقعت ثورة سوريا ضد الاستعمار الفرنسي عام 1940 فتذكر عبد الوهاب القصيدة، واختار عدة أبيات منها:
سلام من صبا بردى أرقُّ
ودمع لا يكفكف يا دمشقُ
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحقُّ
وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يدٍ مضرَّجة يدقُّ
ولم تطُل إذاعة الأغنية كثيراً، فقد قدمت السفارة الفرنسية في القاهرة احتجاجاً إلى وزارة خارجية الملك فاروق، وكان أنْ تم التحفظ على الأغنية في مكان أمين وظلت حبيسة أدراج أرشيف الإذاعة إلى أن أفرجت عنها ثورة 1952.
وعندما اشتدت في مصر حركة المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي في الأربعينات وتصاعدت الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، لم تَسْلم الأحزاب السياسية من الوقوع في فخ الصراع فيما بينها، ولتهدئة الوضع بين الأحزاب المتصارعة، ظهرت إبداعات الأغنية الوطنية بلمسات نفس الثنائي: شوقي وعبد الوهاب في قصيدة قوية تدعو لنبذ الفرقة وتوحيد الصفوف:
إلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما
وَهَذي الضَجَّة الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ
وَتُبدون العَداوَة وَالخِصاما
وتوضح المؤلفة أنه منذ أواخر الستينات كان لافتاً أن أغاني عبد الوهاب الوطنية، بدأت تتناول القضايا القومية كما في قصيدة «فلسطين» 1948، لكن بتلحين مختلف، فتلحين الأخيرة يختلف عن تلحين قصيدة «حرية أراضينا» 1968، وهذا الفارق يظهر أكثر مع تطور التيار القومي وصعوده، والفارق الزمني بين القصيدتين الذي يصل إلى عشرين عاماً، فالأولى عقب نكبة 1948 والأخرى عقب هزيمة 1967.
وتورد المؤلفة واقعة شديدة الدلالة في هذا السياق تتعلق بالسيدة أم كلثوم وقصيدتها «سلوا قلبي» التي غنّتها لأحمد شوقي والتي جاء فيها هذا البيت الشهير:
(وما نيلُ المطالبِ بالتمني ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا)
فعقب إذاعتها جاء مندوب الاحتلال الإنجليزي إلى استديو التسجيل معترضاً على الأغنية معللاً بأن هذه الجملة قد تثير الحميّة لدى القوى الداخلية وتدعوهم إلى التظاهر واستلهام المعاني الثورية ولكن أم كلثوم رفضت وأُذيعت القصيدة كاملة.
وبعد ثورة يوليو (تموز)، سارع مجلس قيادة الثورة إلى دعوة أم كلثوم وعبد الوهاب للغناء في حفل بنادي الفرسان 1954 لتكريم الرئيس جمال عبد الناصر بعد فشل محاولة اغتياله بميدان المنشية في الإسكندرية، حيث غنّت كوكب الشرق «يا جمال يا مثال الوطنية» وغنّى عبد الوهاب «تسلم يا غالي» وبدا كأن هناك تنافساً شديداً بين القطبين الكبيرين في مديح الزعيم كما في أغاني «ناصر ناصر، ناصر يا حرية»، و«ناصر كلنا بنحبك»، وأغنية «ارجع فأنت الأمل الباقي».
نجم والشيخ إمام
تنتقل المؤلفة إلى محطة أخرى مهمة في سياق الأغنية الوطنية المصرية والمتمثلة في الثنائي الشهير الشاعر أحمد فؤاد نجم، الملقب بـ(الفاجومي) والملحن والمطرب الكفيف «الشيخ إمام»؛ فمن يستمع إلى أعمالهما لا سيما في عقد السبعينات يستطيع أن يتلمس روح النقد والسخرية العالية وحالة العشق الوطني التي كانت تتلبسهما خلال أغانيهما، فضلاً عن التجاوب العفوي من الجماهير. إنهما، كما تقول المؤلفة، حالة فريدة في التاريخ المصري الفني والسياسي يمكن من خلاله تلمس بعض الملامح التاريخية في تلك الفترة.
وتنتقل المؤلفة إلى محطة أخرى في سياق الغناء الوطني فتتوقف عند تجربة المطرب محمد حمام كصوت وطني له دور مؤثر، وتذكر أنه في أثناء وعقب حرب يونيو (حزيران) 1967 كان يقوم (حمام) بالتدريب داخل معسكرات المقاومة الشعبية لتعبئة وشحذ همم الجنود، حيث كان يغني في الجبهة من خلال الحفلات التي كانت الشؤون المعنوية تنظّمها بل كان يغني في الخنادق وغنّى كثيراً للجنود المصريين في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
رغم أن هذا الكتاب بُذل فيه جهد كبير، فإن هذا الجهد بدا أحياناً خارج السياق ولا يحمل إضافة مهمة لجوهر العمل، مثل الفصل التي أوردت فيه المؤلفة عدداً من الآراء على لسان إعلاميين ونقاد حول مفهومهم ورؤيتهم للأغنية الوطنية.
وجاءت هذه الآراء محمّلة بعبارات إنشائية عامة لا تضيف كثيراً لموضوع الكتاب المعنيّ برصد أبرز محطات الأغنية الوطنية المصرية في القرن العشرين، وارتباطها بقضايا الواقع المصري والعربي على شتى المستويات.
نبيل أبو حمد يتعقب «الأمير الصغير» وقد أصبح شيخاً
صدر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» كتاب «شيخوخة الأمير الصغير – نص ومائيات» للفنان والكاتب نبيل أبو حمد، وجاء في 81 صفحة من الحجم المتوسط، وهو مزود بالرسومات المائية، التي تستوحي النص، الذي يحاكي رواية سانت إكزبوري الشهيرة «الأمير الصغير»، وهي رواية صغيرة صدرت في عام 1942 فيما كان أكزوبيري يعيش منفياً في نيويورك، التي هرب إليها بعد الاحتلال النازي لفرنسا. وقد اعتبرت «الأمير الصغير» كواحدة من بين أفضل كتب القرن العشرين، وبيع منها منذ صدروها أكثر من 80 مليون نسخة، وترجمت إلى مختلف لغات العالم.
تبدأ القصة بفتى يرسم ثعباناً يبتلع فيلاً وتتحول الرسمة إلى حقيقة، يقوم الثعبان بابتلاع الفيل بالكامل، فيترك البطل مهنة الرسم ويبدأ العمل بالطيران. لكن طائرته تتعطل بالصحراء ليجد نفسه في مع أمير صغير. وعلى مدى الأيام الثمانية التي حوصر فيها الراوي في الصحراء الكبرى، بينما يحاول الراوي إصلاح طائرته، يروي الأمير الصغير قصة حياته، وحبه لوردة بسيطة بدأت تنمو على سطح الكويكب منذ وقت قصير.
وفي القصة الأصلية، يختفي «الأمير الصغير» بشكل غير مفهوم، أما في كتاب نبيل أبو حمد، فترتطم سفينة الفضاء التي كان يرتادها رائد، بطل القصة الجديدة، بجسم صلب بعدما تعطل مؤشر المواقع على الكمبيوتر. وضرب الارتطام صخور أحد الأجرام الصغيرة العديدة التي تدور بفلك الشمس… وبعد وقتٍ وجد نفسه وجهاً لوجه مع «الأمير الصغير»، الذي أصبح كهلاً ومحاطاً بمخلوقات هذا الجرم المغايرة شكلاً وطرافة وسلوكيات عما عليه البشر على كوكب الأرض.
كتب الناشر على الغلاف الأخير من الكتاب:
هل فعلاً أصبح «الأمير الصغير» حالياً كهلاً؟ وهل منطق الأرض ينسحب على شخصه؟ وبماذا أفصح هذا المخلوق الفريد من أفكار وحكم وابتكارات مغايرة؟ «شيخوخة الأمير الصغير» مغامرة تستحق القراءة من الناشئة والناضجين لما تحتويه من حكمة وفرادة.