تتواتر في المشهد السوري المعارض مبادرات تنظيمية لتشكيل تجمعات سياسية أو مؤتمرات وطنية، بغرض خلق هيئة تمثيلية جديدة يتوخى منها إخراج المعارضة السورية من ضعفها وقصورها المزمن في تحمل مسؤولياتها، كانت أوضحها الدعوة لعقد «مؤتمر القوى الوطنية» كبديل ينزع الشرعية عن «الائتلاف الوطني»، تلتها المطالبة بتشكيل «مجلس عسكري»، ثم «تجمع ديمقراطي»، وآخرها الإعلان عن عقد مؤتمر تأسيسي بدمشق لتشكيل ما سمي «الجبهة الوطنية الديمقراطية»، وأجهضته أجهزة الأمن السورية بعد أن حاصرت مكان انعقاده ومنعت وصول المشاركين.
عادة ما تتزامن تلك المبادرات مع تنامي رهان بعض المعارضين على أزمات محلية أو متغيرات دولية، قد تمنحهم الفرصة لتجديد حضورهم وأدوارهم، رهان يحضر اليوم، مع تفاقم أزمة النظام ومشكلاته، في ظل عجزه عن وقف التدهور المريع لحياة السوريين وتلبية الحد الأدنى من مستلزمات العيش بعد سنوات عجاف، أكلت خلالها آلة الحرب الأخضر واليابس، ربطاً بموقف دولي يطعن في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها، وقبلها كان الرهان مثلاً، على تداعيات قانون قيصر أو ما رشح من خلافات بين رموز السلطة القائمة، وعلى احتدام التنافس على الكعكة السورية بين موسكو وطهران، أو على توافق مرتقب بين البيت الأبيض وقيادة الكرملين لإخماد بؤرة التوتر السورية، إلى آخر هذه الرهانات التي عاد منها هؤلاء المعارضون وهم أشد إحباطاً ويأساً.
لكن الإصرار وعدم الملل من طرح مبادرات ومشروعات لحفز فاعلية المعارضة السورية، إذ يدل على حيوية بعض أوساط الحقل السياسي والثقافي واستعدادهم لتحمل المسؤولية، فإن الفشل المتكرر يكشف عن عمق أمراض الحقل المعارض وشدة استفحالها، فكيف الحال حين لا ينجو أي لقاء أو مؤتمر عقدته بعض أطرافها من الاتهامات وردود الفعل العدائية من أطراف أخرى؟ وكيف الحال حين لا تضيف هذه المبادرات جديداً يتجاوز الشعارات والتركيبة المألوفة، أو تذهب نحو تسابق محموم على التجميع الحسابي والكسب العددي، حتى لو أفضى ذلك لضم شخصيات إشكالية، تفتقر المصداقية، وتحاول، غالباً بدوافع وصولية وانتهازية، وضع القناع المعارض وركوب الأزمات لفرض نفسها بالمشهد السياسي؟!
صحيح أن ثمة أسباباً بنيوية وراء أزمة المعارضة الديمقراطية ودورها المفقود، بعجز غالبية تنظيماتها، كالحركات القومية والإسلام السياسي، عن التحرر من ثوابت آيديولوجية عفّى عليها الزمن وتتناقض مع جوهر الفكر الديمقراطي، أو بشيوع الحسابات الأنانية والمصالح الحزبية الضيقة بين صفوفها، كما المزايدات اللفظية، وصحيح أن ثمة تعويلاً كبيراً، كان في الماضي، على دور قيادي وإنقاذي لمعارضة موحدة وذات صدقية، لكن الصحيح أيضاً أن هذه المعارضة لم تعد تمتلك اليوم، مهما تكن صورتها، زمام المبادرة والقدرة على التأثير في مجرى صراع باتت مفاتيحه بيد قوى خارجية واحتلالات أجنبية لا تهمها سوى مصالحها وتحسين شروط نفوذها.. زاد الطين بلة، ما حصل من خراب معمم، ثم نجاح التنظيمات الإسلاموية في التمدد والتهام ما تبقى من قوى عسكرية ومدنية كانت تحسب على الثورة، والأهم الانصياع الذليل لأهم أطراف المعارضة لأوامر الخارج والسير وفق حساباته.
ورغم حضور شروط موضوعية، داخلية وخارجية، لا يمكن بأي حال القفز فوقها، باتت تتحكم في الوضع السوري ومسارات تطوره وتتحكم بالضرورة في الحقل المعارض وترسم حدوداً متواضعة لدوره، فإن التضحيات العظيمة التي قدّمها السوريون من أجل حريتهم وكرامتهم تستحق معارضة سياسية من طراز جديد، تمثلهم وطنياً بمختلف مكوناتهم، وتنتصر لمستقبلهم الديمقراطي، وتحنو على مختلف وجوه معاناتهم، وتسعى، بعيداً عن المبالغة والتطرف، إلى تفعيل دورها في الحقلين السياسي والمدني استعداداً للتعاطي مع متغيرات لا بد آتية.
وكي يؤتي هذا الاستحقاق أكله، ويطرح ثماره الطيبة، لا بد من بذل جهود دؤوبة لبناء رؤية متكاملة حول عملية الخلاص وما تكتنفها من منزلقات ضمن خصوصية المجتمع السوري بتعدديته القومية والدينية وبحساسية ارتباطاته الإقليمية والعالمية، تحدوها وقفة نقدية جريئة لتجاوز أخطاء الماضي والتأسيس لشرعية، لا تستند إلى رهان على دعم خارجي، أو إلى سطوة آيديولوجية، دينية كانت أم ثورية، أو لأنصاف مواقف وحلول سبّبت أفدح الأضرار بحقوق السوريين واجتماعهم الوطني.
أولاً؛ ضرورة الجمع بين المسؤولية السياسية والمسؤولية الأخلاقية للمعارضة، بين تبني الخيار الديمقراطي والتلاحم حوله والجهوزية للتضحية في سبيله ولمنع إعادة إنتاج ظواهر الاستبداد والتمييز في الدولة والمجتمع والسياسة وأيضاً في الدين والثقافة والتربية والتعليم، وبين الكشف عن وجه أخلاقي عبر صدق تمثل المعارضة لقيم الحرية والعدالة والمواطنة، وقرن أقوالها بأفعالها وضرب المثل في احترام التعددية وحق الاختلاف، وفي تنمية روح المنافسة الصحية التي تحترم اجتهادات الآخرين، وتنأى بطرائق السجال عن التجهيل والمبالغة والإقصاء.
ثانياً؛ آن الأوان أن تمتلك المعارضة المنشودة الجرأة في حجب الثقة عن الإسلام السياسي ووقف الرهانات المضللة على دوره في التغيير، ليس فقط بسبب التشوهات والخسائر الكبيرة التي خلفها التطرف الإسلاموي، وإنما أيضاً بسبب الممارسات الأنانية لـ«الإخوان المسلمين» وأشباههم، وسرعة انقلابهم على ما أعلنوه شكلاً من مبادئ وطنية وديمقراطية، وتالياً عجزهم المزمن عن التجدد السياسي والخروج من عالم الوصاية والاستئثار، وكلنا يتذكر كيف عمل هؤلاء على اقتناص الفرص لدعم مشروعهم الإسلاموي الخاص على حساب أبسط الروابط الوطنية والحقوق الإنسانية، بدءاً بدورهم البغيض في إجهاض وثيقتي القاهرة (العهد الوطني والمرحلة الانتقالية) اللتين شكلتا إطاراً جامعاً لغالبية أطياف المعارضة ومكونات المجتمع السوري، وانتهاء بإلحاق «الائتلاف الوطني» بالسياسة التركية وإخضاعه لإملاءاتها.
ثالثاً؛ هي مسؤولية وطنية وأخلاقية راهنة بإعادة بناء الثقة بين الأكراد والعرب السوريين على قاعدة معاناتهم المشتركة من القهر والتمييز، وحاجتهم الطبيعية للعيش بحرية وكرامة، الأمر الذي يتطلب الانفتاح الجدي على الشعب الكردي ومختلف قواه السياسية والمدنية، والامتناع عن وضع الاشتراطات المسبقة لضمان ولائه الوطني، يحدو ذلك تقديم رؤية مبدئية واضحة تجاه المسألة القومية، تلبي طموحات الأكراد وحقوقهم من دون انتقاص، بما في ذلك حق تقرير المصير، ما يساعد على تقليل فرص تحول القضية الكردية حقلاً لنوازع التطرف القومي، ولاستثمارات السلطة السورية، وللتجاذبات الإقليمية والدولية، والأهم لإظهار الوجه الحقيقي لمعارضة تقارع الاستبداد والتمييز فعلاً، وتحترم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وخيارات الشعوب.