10 سنوات مرّت على الثورة السوريّة، كان الحلم كبيراً، بلدٌ أكثر اتساعاً، حريّةً، وديموقراطيةً، بخاصةٍ للنساء. حلمت السوريّات ككلّ نساء العالم، بوطنٍ أقل دمويّة تجاههن، وطن تُحتَرم فيه خياراتهن مهما كانت، ولا يوصمن فيه تبعاً للباسهن أو توجهاتهن. لكن الواقع يبدو أقسى، فلدى المرأة السورية المزيد من المواجهات وعلى عكس ما اعتقدت فعدوّها ليس النظام وحسب، معركتها أيضاً ضد الفكر الأصولي والمتأسلم، ضد عقود من العادات والتقاليد الذكورية المعادية لوجودها.
خيار النساء بين العلمانية والإسلامية
أن تخلع الإعلامية المعارضة نور حداد والمعروفة بـ”نور خانم” الحجاب ورتدي الأكاديمية المعارضة بسمة قضماني الحجاب هما وجهان لجدل سوريّ يحاصر النساء ويجردهن من قرارهن الحرّ. المرأة السورية لا تزال تعاني من إملاء الشكل الذي يجب أن تكون عليه وتقدم نسفها من خلاله.
خلاصة الجدل بحسب المعترضين والمنتقدين وشاتمي السيدتين أنه لم يكن على نور خانم خلع حجابها ولا على بسمة قضماني ارتداء شال خلال حضورها أحد الاجتماعات في منطقة إعزاز شمال حلب والخاضعة للمعارضة السوريّة، لكن يصدف أن يكون الرأيان صادرين عن جهتين مختلفتين للمعارضة السورية وهما المعارضة العلمانية والمعارضة الإسلامية. كلا الطرفين رفض ما فعلته المرأة التي تنتمي إليه إلّا أنه أثنى على تصرف المرأة الأخرى، فالعلمانية رفضت ارتداء قضماني الحجاب واتهمتها بالتخلي عن قضيتها وحريتها، لكنها في الوقت ذاته وجدت في خلع نور حجابها عملاً بطولياً، ينمُّ عن فكر أكثر تحرراً،والعكس حدث مع المتأسلمين الذين رأوا في ارتداء أكاديمية علمانية الحجاب نوعاً من فهم طبيعة المجتمع السورية، واحتراماً للدين الإسلامي ولهذا فهي تستحق التمجيد بينما هوجمت نور وشُتِمَتْ بطريقة قاسية.
صحيح أن الحجاب شأن يستحق النقاش والجدل كونه في صلب النقاش النسوي والحقوقي، ومن حق الرأي العام مثلاً أو المهتمين أن يناقشوه في هذا السياق، لكن ما حصل في حالة قضماني ونور خانم هو أن كل جهة من المعارضة حاولت توظيف حضور المرأة تبعاً لعقيدتها وتوجهاتها السياسية من دون وضع خيارات المرأة المعنية في الحسبان.
وبعيداً من حجاب أو لا حجاب السيدتين، وهو خيار شخصي قبل كلّ شيء وربما فيه حسابات سياسية واجتماعية كما بدا في ردود قضماني مثلاً، لا يمكن أن تملي على امرأة كيف كانت أو كيف ستكون وإن كانت سياسات كلّ الأمم تعمل على توظيف اللباس كجزءٍ من فكرها السياسيّ إلّا أن الطبيعة المعقدة للمجتمع السوريّ تجعل الموضوع أكثر إشكالية وتعقيداً وفيه إلغاء حتميّ للآخر.
من هي المرأة السورية؟
في اللحظة التي تمارس فيها المرأة حريتها، يخرج القاصي والداني ليمارس وصايته، لماذا يشعر جميع المنتقدين أنهم وصاة على النساء؟ تدرك هؤلاء النساء أن الفكر البطريركي قادر على إلغائهن تماماً فيما لو كنّ عكس ما يُتَوَقع منهن، وستكون لمنتقديهم عشرات الحجج ومنها أنهن شخصيات عامة مؤثرة ولا يمكنهن التصرف كما يشأن، وكلّ قرار يتخذنه له تبعيات ليس عليهن وحسب إنما على جمهورهن، لكن ألا يعني ذلك وضع حدود صريحة لحريتهن؟ من قال إن الشخصيات العامة لا تملك رفاهية اتخاذ قرارات تتعلق بالشكل الذي تودّ أن تبدو عليه، كخيارات اللباس؟ وهذا مردّه إلى أن المجتمعات البطريركية تُنشِئ الفتيات والنساء على أن أي تصرف يقمن به ينعكس على عائلاتهن سواء بالفخر أو الخزي، واليوم المجتمع ذاته يردد أن ارتداء بسمة الحجاب سيؤثر في مبادئ الثورة السورية وخلع نور إياه سيؤثر في بنات المسلمين.
أحد التعليقات اللافتة كان تعقيباً على ارتداء بسمة الحجاب بالقول إن ارتداءها الحجاب يعني أنها تصرفت كسوريّة وعادت إلى سوريا كسورية! وهذا وجه آخر لنظام الأسد الديكتاتوري الذي صنع من سوريا بلداً للأسد! وهؤلاء يعتقدون أن السوريين هم إسلامٌ بالضرورة والسوريّ هوية تعود إلى دين معين، ألم يمنع نظام الأسد الجنسية السورية عن الأكراد لسنوات؟ ألم يعتبرهم غير سوريين، ما الفرق اليوم بين نظام الأسد والمعارضة المتأسلمة أو حتى العلمانية؟ تكمن الخطورة في الأصولية ومحاولة أسلمة الحريات العامة وتحويل قرارات النساء إلى أدوات يضعفن من خلالها مبادئ الثورة وصبو الشعوب إلى الحريّة. وهكذا تتحول المعارضة والتي طرحت نفسها البديل الوحيد عن الأسد إلى معارضة غير قادرة على منح امرأة حريةَ أن ترتدي حجاباً أو لا تفعل!
السلطةُ المطلقةُ إذ تمارسُ على النساء
وفي محاولة طمس الخيار الشخصي بحجةِ المصلحة العامة، تُلغى الحريّة الشخصية وتوضَع النساء تحت ضغط أكبر، وهو أنهن قادرات على التأثير سلباً في الثورة ومبادئها، وهنا يظهر الشرخ الكبير في التيار الغالب للفكر المعارض لنظام الأسد، فهو غير قادر على احتواء خصوصية حياة المرأة السوريّة وفهم المعارك التي تواجهها كلّ يوم تجاه النظام السياسيّ من جهة، وتجاه الفكر البطريركي والدينيّ من جهة أخرى.
وفي التناقض الحاد الذي يمارسه طالبو الديموقراطية بينما يضيقون على النساء، طرحت الكاتبة الإنكليزية ماري آستيل قبل خمسة قرون تساؤلاً أساسياً: “إذا لم تكن السلطة المطلقة ضرورية في الدولة فكيف تصبح ضرورية في الأسرة؟”، أهنالك من سبب يجعل سلطة مطلقة وأخرى لا؟ وبحسب آستيل فمن التعسفي أن يدعو الرجال إلى مثل هذه السلطة لتطبق على عائلاتهم ونسائهم، بينما يمقتونها ويعترضون عليها على مستوى الدولة؟ وفي سؤال آستيل الأخير جوهر الأزمة التي تعاني منها المعارضة السورية، هي إدراكها لمفهوم السلطة المطلقة فعلى رغم قيام الثورة ضد استبداد النظام وسلطته الديكتاتورية، إلّا أن الأشخاص ذاتهم يمارسون هذه السلطة على النساء، أليس في هذا من الازدواجية ما يسقط مطالبهم وشرعيتها إذ يمارسون عكسها في حياتهم الطبيعية؟
أما القول بأن هذه الإشكاليات ثانوية ولا يجب الغرق فيها على حساب الوضع السياسي في سوريا فيمكن القول إنه لا يمكن تأجيل هذه القضايا لحين إسقاط النظام أو تغييره! ألا يدرك المنتقدون أن التغاضي عنها يتعلق بشكل مباشر بوجود النساء ويعمق أزمة المرأة السورية وبالتالي سيسبب تشوهاً في الهوية السورية المنشودة ككل؟ والتي ظهرت جليّة في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة والتي فرضت في الغالب الشريعة الإسلامية وأجبرت النساء على العودة إلى قواعد صارمة في ما يخص اللباس وحياتهن وربما ارتداء بسمة الحجاب ورغبة نور بخلع الحجاب، هو واحد من تحديات كثيرة تواجهها النساء العاملات في الشأن العام وفي حقل السياسة السورية، ومهما كنّ شجاعات ومستنيرات ومفكرات إلّا أن تصرفاً واحداً قد يلغي كلّ ما فعلنه ويبرر سيلاً من الهجوم والشتائم المخجلة.
وهؤلاء الذين دعموا نور حداد وافتخروا بها وتابعوا برنامجها السياسي الساخر تخلّوا عنها ونبذوها، وكان سيل الشتائم أكبر من أن تتحمله، لتغلق صفحتها الشخصية! إذاً في النهاية كل جهة تخلت عن المرأة التي تنتمي إليها، بحجة أنها خانت أو تخلت عن جوهر قضيتها، وهكذا ندرك أن جوهر قضية المنتقدين هي المرأة وحجابها لا الحريّة والديموقراطية.