يختصر نجيب محفوظ علاقة المصري بالنيل: «ليس شيئاً واحداً بل متعدد المعاني والوجوه. وكان شديد التدفق قبل بناء السد العالي الذي أوقف الفيضان، وكانت له ألوان وأشكال متعددة، وفي بعض الأحيان كان ينخفض فترى الشاطئ كله حدائق خضراء، ثم ترتفع المياه ويتغير لونها فيصبح بنياً داكناً بلون التربة، أو أسود بلون الطمي القادم من قلب القارة السوداء. كان النيل في ذلك الوقت كائناً حياً يجدد نفسه طوال الوقت… وقد امتهناه بإلقاء مخلفات المصانع وبالبناء على جانبيه بالإسمنت القبيح حتى كدنا نخنق هذا النهر الخالد، سفريات الحياة في مصر الذي قدسه أجدادنا!».
«خالد» «شريان الحياة» «قدسه أجدادنا». غناه الأطفال والكبار. هو، وليس الأرض، الرابط الأول مع السودان. هو، وليس الأرض، محطم الحدود بين مصر وأفريقيا، وهو عمق مصر الأفريقي، وعلى ضفافه كتب الكثير من تاريخها وحضاراتها.
بعد الإسكندر الكبير جاء نابليون بونابرت. وهو أيضاً تأمل النيل وقرر أن يوسع إمبراطوريته من حوله. وقال يومها «إذا حكمت هذا البلد ذات يوم فلن أترك نقطة مياه واحدة تسقط في البحر».
لم يبقَ نابليون طويلاً في مصر لكي يحقق حلمه بالنهر. لكن الألباني محمد علي هو الذي بدأ بإقامة السدود حول النهر بدءاً من 1840. ولم يكتمل بناء السد الأول إلا بعد عشرين سنة، عام 1860، ولم يبدأ العمل فيه إلا عام 1889. كانت تلك عملية بطيئة وصعبة، لكن الإنسان اكتشف في نهايتها أن في إمكانه ترويض النهر العظيم.
كانت هناك طريقتان للوصول إلى منابع النيل في القرن التاسع عشر: إما براً عبر أفريقيا، أو صعوداً في النهر انطلاقاً من القاهرة. لم يتمكن أحد من استكمال رحلة الصعود: لا بعثة الإسكندر، ولا رجال الإمبراطور نيرون، ولا فرقة نابليون. كان أول من فعل ذلك المستكشف الفيكتوري صمويل بيكر. لكن بيكر لم يكن وحده. كانت معه زوجته، التي سافرت معه إلى كل مكان. مَن تكون السيدة؟ إنها جارية شركسية اشتراها في مزاد علني لبيع العبيد.
كان ثمن الجارية البيضاء في بلاد البلقان عام 1859 يراوح بين 5 و10 جنيهات لعذراء بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر. أي حوالي 300 جنيه بأسعار اليوم. وكانت معظم الجاريات يأتين من صربيا وجورجيا وألبانيا وأطراف اليونان. ومن مزاد علني في شرق بلغاريا اشترى بيكر الأرمل الجارية التي سوف تصبح زوجته وهو في الثامنة والثلاثين من العمر، وأب لأربع بنات. أما هي، الهنغارية فلورنس فون ساس، فكانت في الثامنة عشرة.