“أُقسم بالله، لن يكون الأمر معي بهذه السهولة”، بهذا القسم وفت فاطمة، واستعادت أرضها التي سُلبت منها لمدة 21 سنة، وهدمت الكنيسة التي بُنيت في فناء منزلها بعد هروبها من حرب الصرب على البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.
بملامح شقراء ملأتها تجاعيد الحياة، تتسلل ابتسامة النصر من فم فاطمة أو نانافاطة كما يُلقبها أهل القرية. الأم لسبعة أطفال، والأرملة التي لم تتعلم في حياتها سوى الدفاع عن الحق ولا شيء غيره.
فاطمة أورلوفيتش، ثمانينية، ابنة قرية كونييفيتش بوليي بمدينة سربرنيتسا ببلاد البوسنة أصبحت حديث الإعلام العالمي، بعد انتصارها القانوني على السلطات المحلية والحكومة المركزية في جمهورية صربكسا.
بداية الحكاية
تعود أصل حكاية الجدة فاطمة إلى سنة 1993، حين هاجمت القوات الصربية قرية كونييفيتش الصربية، فقتلت عدداً كبيراً من أهلها، من بينهم شاكر زوج فاطمة، و22 فرداً آخر من عائلتها، أما هي فتمكنت من الهروب إلى الغابة مع أطفالها السبعة، ومنها انتقلت إلى مدينة أخرى تُدعى توزلا بحثاً عن الأمان.
عاشت الجدة فاطمة حياة اللاجئين لمدة خمس سنوات، وما إن تهيأت لها الظروف حتى عادت سنة 2000 إلى قريتها، لتُفاجأ بكنيسة يقف صليبها وسط فناء بيتها في القرية، هذه الكنيسة التي أقامها الصرب أثناء استيلائهم على ممتلكات البوسنيين في المنطقة.
طالبت فاطمة بإزالة الكنيسة من أرض منزلها، وخاضت حرباً قانونية وإعلامية شرسة، وسلكت كل الطرق الإدارية الرسمية، وخاطبت السلطات السياسية، لكن كل محاولاتها، التي استمرت 10 سنوات، باءت بالفشل، فلجأت للقضاء.
في مايو/أيار 2010 رفعت الجدة فاطمة قضية ضد الأبرشية الصربية (الكنيسة)، لقيامها بالاستيلاء على ممتلكات الغير، وبناء مبنى خاص بها بشكل غير قانوني، لكن المحامي أخبرها أن المحكمة أصدرت حكمها بعدم إدانة الأبرشية.
تعرضت فاطمة لضغوطات كبيرة، تطورت في كثير من الأحيان إلى اعتداءات لفظية من مجهولين ألفوا سبها وشتمها، مقابل ذلك رفع عليها الصرب دعوى قضائية فاتهموها بنشر الكراهية المبنية على اختلاف الأديان والقوميات، كما قامت الأبرشية بمقاضاتها بتهمة إهانة مؤسسة دينية (الكنيسة).
فاطمة ابنة قرية كونييفيتش التي يُعد أغلب سكانها من المسلمين، قالت في لقاء خاص مع “عربي بوست”: “لا عداء بيني وبين الكنيسة، لكنهم اعتدوا على حقي، واغتصبوا أرضي. لا أُمانع على الإطلاق أن يبنوا كنيسة على أرضهم، ولو أني علمت بأن أحداً اغتصب أرضاً ثم بنى عليها مسجداً، فلن أصلي به”.
وحكت فاطمة قصتها مع المسؤول الذي ساومها بأرضها قائلة: “كان يجلس هنا بجواري، وأعددت له القهوة، كواجب للضيافة لكن عندما ساومني بأرضي أمسكت ببُكرج القهوة، وأوشكت أن أضربه بها، ثم طردته من بيتي، وقلت له: نقودكم ما هي إلا أوراق لا قيمة لها عندي، أما أرضي فهي حقي، ولن أتركه”.
وأضافت فاطمة أن “الله الجميل هو الذي منحها القوة، كما أن الشعور الذي امتلكته بأن حقها مسلوب، أعطاها طاقة لا تنضب للدفاع عن حقها حتى حصلت عليه”.
فاطمة.. رمز الصمود
اكتسبت فاطمة بمواقفها مزيداً من الاحترام والتأييد، واهتمت منظمات المجتمع المدني البوسنية بقضيتها، فتم تنظيم العديد من الفعاليات لدعمها، كما تناقلت قصتها وسائل الإعلام المحلية، وأصبحت ضيفة على البرامج البوسنية الشهيرة، الأمر الذي ساعد في انتشار قصتها داخل وخارج البلاد، فاهتمت بقضيتها وسائل الإعلام العالمية، وزارها إعلاميون من كل مكان، كتبوا عنها، وصدرت عدة أفلام وثائقية تروي حكايتها.
كل هذا الدعم الذي حصلت عليه فاطمة لم يغير من موقف الكنيسة الصربية، ولا من موقف الإدارة السياسية الصربية، بل زادوا في تعنتهم، الأمر الذي دفع ميلوراد دودك، رئيس الحزب الحاكم في جمهورية صربسكا، إلى إعلان أن “الكنيسة ستبقى ولن تُنقل لأي مكان آخر”.
في سنة 2017، قررت فاطمة، بناءً على مشورة محاميها، اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، فرفعت قضية ضد كل من الأبرشية والسلطات الصربية، وقدمت كل المستندات التي تثبت حقها، فاستمرت إجراءات التقاضي أكثر من سنتين، وفي 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أصدرت المحكمة الأوروبية حكماً يُلزم السلطات في جمهورية صربسكا بإزالة الكنيسة من أرض فاطمة أورلوفيتش.
صباح السبت 5 يونيو/حزيران 2021، فوجئت فاطمة وعائلتها بمعدات ضخمة تدخل حديقتها دون إعلان مسبق، فبدأوا بهدم الكنيسة، ثم حملوا مواد ومخلفات الهدم بسيارات نقل أحضروها معهم، في الوقت الذي أصدرت فيه الجماعة بياناً قالت فيه إن “الكنيسة سيتم نقلها إلى مكان آخر في وسط المدينة”.
تقول فاطمة في لقائها مع عربي بوست: “لكل من سُلب حقه، في أي مكان، لا تتنازل عن حقك! ولو رأيت أنك تقف وحدك، هذه أمانتك فلا تفرط فيها، وأرجو أن يسترد كل صاحب حق حقه”.
وأضافت المتحدثة: “لم أبك طوال 21 سنة، لكني بكيت عندما رأيتهم يهدمون الكنيسة التي بنيت على أرضي المغتصبة، لقد راهنوا على موتي، لكن الله أعطاني الحياة حتى أرى حقي يرجع إليّ، الآن يمكنني أن أموت، ليس لي أي مشكلة، لأني أشعر بالراحة، لكني أرجو الله أن يُيسر لي أداء فريضة الحج قبل موتي، وأن أصلي في المسجد الحرام”.
فرحة مشتركة
فرحة استعادة الجدة فاطمة لأرضها شاركها فيها عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين عبروا عن سعادتهم بعودة الحق لصاحبته، والذي دافعت عنه لسنوات طويلة، دون أن تتعب من ذلك.
الباحث والكاتب الصربي، سرجان بوهالو، كتب تغريدة على حسابه في تويتر قال فيها: “في غضون دقائق، تم هدم الكنيسة التي بنيت بشكل غير قانوني في فناء بيت فاطمة أورلوفيتش، استغرق الأمر سنوات من المحاولات والاضطرابات والخزي “المبني على أساس قومي” لنا جميعاً في البوسنة والهرسك”.
وكتب الصحفي الصربي، دراغان بورساتش “هل سمعتم آخر نكتة: يقولون إن الصرب هدموا عدداً من الكنائس في اليومين الأخيرين أكثر مما هدم لهم البوشناق من كنائس في سراييفو خلال 4 سنوات الحرب”.
من جهتها كتبت بيسيرا توركوفيتش، وزيرة الخارجية البوسنية، أن “إزالة الكنيسة غير القانونية في كونييفيتش بوليي هي عمل مشجع طال انتظاره، وتؤكد أن الكفاح من أجل العدالة للبوسنة والهرسك وتراثها العريق لن يذهب سدى. إن مفتاح المستقبل الذي نتطلع إليه ونسعى إليه جاهدين هو مواجهة حقيقة الماضي”.
نفيسة لاتيتش، مذيعة الأخبار في قناة “تي آر تي” كتبت: “درس اليوم: إذا كنت تريد تغيير شيء ما في حياتك، فكن مثابراً مثل نانافاطة”.
من جهتها نشرت رابطة أمهات سربرنيتسا تغريدة على حسابها في تويتر كتبت فيها: “هذا يوم عظيم لنا جميعاً. ليكن عبرة لمن ظن أنه يمكنه اغتصاب الأرض المروية بدماء الضحايا الأبرياء، فاطمة أورلوفيتش هي رمز للبطولة لنا جميعاً”.