الذين عاشوا سبعينات القرن الماضي في لبنان، كان لبنان في زمنهم مشتهراً بأنه بلد فيروز، وكلية هايكازيان التي صنع طلابها صواريخ تصل إلى قبرص، وبلد أمير الشعراء، وبلد «ملكة جمال الكون» جورجينا رزق، وبلد الصحافة العربية بعد مصر، وبلد مايكل دبغي أشهر جراح قلب وطبيب رئيس روسيا بوريس يلتسين. وكان سعر متر الأرض في شارع الحمراء سعره في «فيفث أفنيو». وكان سعر الدولار ليرتين و15 قرشاً، وسعر المارك الألماني ليرة واحدة.
كان ذلك عصراً ذهبياً تملأ عناوينه قياسيات «غينيس» ويثير الإعجاب. ثم انقلب الحظ درجة درجة، وانقلب العصر، وصارت الأرقام القياسية أرقام التفاهة والسخف وهموم الضحالة: قرية تعد أطول صحن تبولة في التاريخ، وقرية تعرض أضخم صحن حمص في العالم، وقرية تصنع أكبر طبل وربابة ودربكة.
ومن خصائص التفاهة أنها لا تُبرز إلا التافهين. وبدل الأرقام القياسية تلغى المقاييس برمتها. ويتحول إلى نوع من نشيد وطني قول صفي الدين الحلي «إن الزرازير لما قام قائمها / توهمت أنها صارت شواهينا». وهي لا تعرف الفرق وإلا لشعرت بالخجل. لكنه عصر التفاهة الشاملة والعتم الشامل والبطالة الشاملة والعقم المطلق.
خلال الأيام الماضية سجلنا أرقاماً قياسية لم يعرفها أي بلد آخر: أطول طوابير سيارات عند محطات الوقود في كل جهات لبنان. وفي وسطه. وفي جباله. وبدل «جنات عَ مد النظر»، محطات عَ مد النظر. والجمهورية اللبنانية مستنفرة بأركانها تحاول إقناع جبران باسيل بالسماح للدول الكبرى والشعب اللبناني بتشكيل حكومة. لكن جبران لا يريد. وإذا ما أراد جبران ألا يريد، فلا إرادة لأحد. ولتكبر الطوابير إلى الأبد، وإلى أن يحين موعد تسلمه قصر بعبدا من ساكنه الحالي. وقد عرف فخامته بأنه إذا ما دخل قصراً، فلا يخرج منه إلا بالقصف الجوي السوري، ولا يعود إليه إلا بالصمود الإيراني. والسيادة اللبنانية فوق كل اعتبار. وأنا عندي التهاب وحشي في الأذن اليمنى والصيدليات مضربة، والأطباء مضربون، ومحطات البنزين مثل البلد، مضروبة على قلبها، وفيروز لا تزال تغني «بيلبقلك (يليق) شك الالماس دروب دروب / أخذو حبيب قلبي مني وخلوني أذوب».
توقف القلب يعني الموت المحقق، خاصة إذا وصل المريض لمرحلة (اللاعودة) كما يطلق عليه طبياً، ولكن أن يعود الإنسان للحياة من جديد بعد توقف قلبه 40 دقيقة، فهذا يبدو للوهلة الأولى ضرباً من الخيال، لكن هذه القصة حدثت بالفعل مع مواطن وصل إلى مستشفى دبي وهو يعاني من نسبة مرتفعة جداً من السكر.
محاولات مضنية أمضاها طاقم الإنعاش القلبي، حيث لم يتركوا طريقة إلا واستخدموها معه، ولكن المحاولات كلها باءت بالفشل، وعندما همّ الفريق الطبي بإعلان وفاة المريض، انتفض القلب فجأة وبدأ بالنبض تدريجياً، وعندها باشر فريق القلب برئاسة الدكتور عبيد الجاسم، رئيس مركز القلب في مستشفى دبي، وفريقه الطبي المساند، بتبديل الشرايين المسدودة في مهمة محفوفة بالمخاطر، لأن عامل الوقت لا يسمح بالتأخير، فالوقت محسوب بالدقائق والثواني والكل في حالة استنفار.
ونجحت العملية بحمد الله، ومكث المريض في غرفة (الإنعاش) عدة أيام، ثم نقلوه إلى غرفة عادية. الغريب أنه ذكر لمن كانوا يزورونه، أنه رأى فيما يشبه الحلم أو الهلوسة، طيف حبيبته يخطر أمامه، فانتفض ليلحق بها وبعدها لم يعد يشعر بشيء، وقال البعض: إن انتفاضته تلك هي التي أعادت له دقات قلبه.
إذا كان كلامه صحيحاً وليس (هلوسة)، فمعنى ذلك أن الحب من الممكن أن يصنع العجائب، مثلما هو أحياناً يصنع المصائب – اسألوني.
***
المؤرخ المصري (الجبرتي)، ذكر أن زوجة جده كانت امرأة غنية، ومن محبتها وبرها به، كانت تشتري له من مالها الجواري الحسان، فتجملهن بالملبس والحلي وتقدمهن إليه، وإذا قضى وطره منهن وبدأ يمل، تعود لبيعهن وتشتري له جواري جدداً، وهي تأنس إذا رأته سعيداً.
وعندما حكيت لمن كان أمامي عن هذه الواقعة التي قرأتها، وإذا به يرفع كفيه داعياً وهو يقول:
يا مال الجنة الباردة يا زوجة جد الجبرتي، هذه هي والله التي تستحق أن يُبنى لها دكاكين وقف، وكذلك مسجد أمامه ثلاجة ماء، مع مدرسة لتحفيظ القرآن.
***
ذكرت هيئة الفضاء الأميركية (ناسا)، أنها بصدد الوصول إلى كويكب يقع بين المريخ والمشتري، كله من الذهب والمعادن الثمينة، التي قدروا قيمة ما يحتويه بـ(15) ألف (كوادريليون) دولار، وهي أعلى من كل اقتصادات عالمنا بعدة مرات، وتستطيع أن تجعل كل إنسان على وجه الأرض (مليارديراً) – انتهى.
أما أنا فلا أملك إلا أن أردد مقولة: (موت يا حمار، إلى أن يأتيك الربيع).
سئم، شاعر الحكمة، زهير بن أبي سلمى، حياته وهو في الثمانين، حين رأى «المنايا خبط عشواء من تصب تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم». أما الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، فيستعد حالياً للاحتفاء بمئويته بعد إصدار كتاب جديد، يروي فيه حكاية قرن من التجارب، وبإعادة طباعة كتاب آخر، وبعرض فيلم وثائقي عن عمره المديد، ولا يزال يعطي المقابلات ويجيب عن الأسئلة بأريحية تثير الإعجاب.
بمناسبة ثمانينه، وكان ذلك قبل عشرين سنة، سافر موران إلى أميركا اللاتينية، محتفياً بهمته الجسدية، كمن يريد أن يستفيد من الرمق الأخير. وفي التسعين تعجب من أنه لا يزال على قيد الحياة، وكان يفترض أنه مات. أما وقد بلغ المائة فقد صار يعتقد أن حيويته لها قدرة على طرد شبح الموت، ودفعه إلى النهوض من السرير كل صباح، حيث تكفيه رؤية شروق الشمس، ووجه زوجته، مساعدته الأولى، والاستمتاع بأصغر الأشياء، التي تجعل لحياة أي منا معنى لا يضاهى.
موران صاحب وجه طفل، رغم تلافيف العمر، نجا من الموت لمرات لا يستطيع عدها، سواء بتجاوز وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي قتل والدته، أو باجتياز الحرب العالمية الأولى التي ولد خلالها، والحرب الثانية التي عرف كوارثها وانهياراتها الاقتصادية، وكذلك غالب عدداً من الأمراض المعدية والخطيرة. وفي الأربعين دخل الكاتب في غيبوبة، وكان في نيويورك، وتمكن من الخروج منها. المهم أنه حين يُسأل في هذه السن المتقدمة، ماذا بقي له من طفولته يجيب: «الفضول الكبير، والأمل الدائم». وربما الأهم، أن ما شكّل ذخيرة هذه الشخصية الفكرية الإنسانية، المتفائلة، هو كنز الطفولة الأول. وحيدٌ لوالديه، ماتت أمه وهو في العاشرة، عاش بلا مؤنس، فذهب يستعيض عن البشر بمذاقات الفن، وجماليات الإبداع. قرأ حتى الثمالة ليتغلب على عزلته. التهم الأفلام السينمائية التهاماً وكان يعرف كيف ينتقي أجودها. جال في المتاحف، متنزهاً ومستكشفاً. أدمن ارتياد العروض الموسيقية. عندما كان صغيراً وقرأ مقولة مونتني «كل الناس هم مواطنون من بلدي، ويمكنني أن أحتضن بولونياً كما فرنسياً…»، أحس بأنه يتحدث عوضاً عنه. ومع دستيوفسكي، شعر أن البشر واحد في مشاعرهم وحقدهم ومواطن ضعفهم، واستحقاقهم الشفقة. سبق له أن كتب عن هذه المؤثرات الأدبية الكبيرة على حياته، قبل كتابه الأخير هذا. شرح أنه ليس من نسل «الرجل الأبيض» المتكبر الذي يرى في الآخرين مجرد بدائيين ومتخلفين، معتبراً نفسه سيداً على الآخرين، بل هو سليل الفئة الأخرى التي رأت في هشاشة الإنسان، دافعاً للتآخي والتناغم. أعجبه مونتني لأنه احتج باكراً على وسم أهل الحضارات الأخرى بـ«البرابرة»، ورفض غزو أميركا وظلم سكانها الأصليين، وإخضاعهم بالقوة.
رغم تباين مجالات الاهتمام، يذكر موران بالأنثروبولوجي البنيوي الأشهر في القرن العشرين كلود ليفي ستراوس. عالم اجتماع ومفكر عاش مائة ونيفاً هو الآخر، وبقي يكتب حتى سنواته الأخيرة. إنساني مثله، عشق البحث في الحضارات البدائية، وهنود أميركا الأصليين، من البرازيل إلى البيرو والمكسيك. جمع الرجل تراثاً من العادات والتقاليد والأساطير والأدب الشفاهي لتلك القبائل التي أريد تدميرها وإبادتها، ما يعتبر أنه يوازي ما نعرفه عن الحضارتين اليونانية والرومانية، إن لم يكن يفوقه أهمية. وفي كتابه الذي أصدره في عمر التسعين «ينظر، يقرأ، يسمع»، يعود كما موران إلى صلاته الأولى بالفنون. يرى إلى كل عمل وكأنه مكعبات تم تجميعها، من اللوحات إلى المقطوعات الموسيقية، والنصوص الأدبية. ذو مغزى أن ينهي هذا الأنثروبولوجي حياته بكتاب عن الفن كما ناقد محترف، ونبحر معه في الطبيعة ونعرف تأثيرها على شخصيته.
تماماً كما إدغار موران، يعتقد أن التركيب والتشعب سمة كل الظواهر. فحين أقام ستراوس في نيويورك خلال الحرب العالمية الثانية، هارباً من فرنسا، وجد أن تلك الحضارة هي مجموع من كل متعدد، وجزء منها مهمل وغير معترف به، فذهب يبحث عنه عند القبائل الهندية.
الحضارة عند هؤلاء الإنسانيين ليست سلالم معدنية، وأبراجاً تناطح السماء، وبعض الأزياء والسيارات، وإنما قيم ومفاهيم، وتراث بشري واحد، بحيث ما تكتشفه في الأمازون يضيء لك ما قد تراه في هونغ كونغ. وهذا ليس بغريب.
المعمرون السعداء، ليسوا فقط غربيين. سعيد عقل عاش مائة وسنتين، وكان يؤمن بأن غذاء العقل لا يأتي من معين واحد، بل من تنوع المعرفة والحقول التي يجول فيها. وحين يضجر من واقعنا يقوم «بسفرة إلى الماضي، على صفحات الكتب، أو بسفرة إلى المستقبل» الذي يحلم به لبلده. لا يصح تشبيه سعيد عقل بعالمي الاجتماع اللذين ولدا في بيئة تشهر انتصارها وتمارس علويتها، وأحياناً تعجرفها. وهذا ما دفع بهما إلى نبذ فكرة أن الحضارات مراتب وطبقات. «لا شيء ثابتاً» في نظرهما والحياة تحولات و«انتظار دائم للامتوقع» و«يخطئ كثيراً من يسقط الصدف من حساباته»، كما يقول موران. فقد أدرك أن المسار الإنساني الغربي بتركيزه على المادة، والاستهلاك، واعتناقه النفعية مذهباً، يسير إلى حتفه و«الفناء».
يتأهب موران متحمساً للاحتفال بعيده المائة وهو يقول بعد وباء كشف الوجه الأبشع للإنسان: «أنا جزء من كون عظيم، يضم سبعة مليارات من البشر الآخرين، تماماً كما أن الخلية جزء من جسم من بين مئات المليارات من الخلايا». وإذا ما سئل كيف يرى رحلته بعد قرن على الأرض، يود أن يكون، فعلاً، قد عبر الفانية كشجرة، تثمر، وتذرو الريح بذارها، لتعود وتنبت من الأرض زرعاً طيباً.