ضحك العالم الأسبوع الماضي، لحكاية سعودي توفي في خربة صغيرة، تاركاً في مخبَئِها البدائي 78 مليون ريال، لعله أنجح وأعقل مستثمر في التاريخ. وضع منذ 50 عاماً مبلغاً في شركة توظيف مالية، وفي كل أسبوع كان يحمل الأرباح ويخبئها في منزله. تحدث أبناؤه عن بخله، عن أنه حرمهم بسببه من حياة مريحة. عن نفسية مريضة ونفس حرمت نفسها الثروة التي تركتها للجدران.
قرأ النبأ وسمعه ملايين الناس. كل واحد منهم رأى فيه شيئاً ما. لكن الأكثرية تقززت من خساسة الطبع. ليس في لبنان، هنا قرأهُ المواطنون والمقيمون والمودعون غير المقيمين بإعجاب وتقدير، وحيّا الله أبا النشامى. ليس لشطارة صاحبنا في الاستثمار. ليس لحظِّه المذهل، بل لأنه لم يثق لحظة واحدة بالبنوك. لم يصدق يوماً الفوائد التي عرضها عليه البنك المركزي في لبنان، ولا جدرانه، ولا احتياطه الذهبي. وكان اللبناني يقول في نفسه كل يوم: «أجل، من المحتمل جداً حيث لا دولة ترعى الشعوب، أن يتعرض شعب بأكمله إلى عملية سطو على الطريق العام».
«تشاطر» اللبنانيون على جميع الأمم في جميع الأوقات، ونسوا قاعدة أساسية واحدة: لكل شاطر نهاية. وأقاموا بلدهم على الربح، فيما قامت التجربة الخليجية على الدولة. وصحيح جداً أنه في البدايات كانت الدولة بدائية الخبرات والكفاءات. وهذا أهم ما في هذه التجربة التي سخر منها بعض العرب، وحاول البعض الآخر السخرية منها، والبعض الثالث حاول تسخيرها. لكن هذه التجربة عندما تستعيدها اليوم وتضعها في نطاقها، سوف تتوقف طويلاً عند هذا البنيان الهائل في الرمال. سوف تتذكر أن سائق شاحنة صار وزيراً للنفط في «أرامكو». وأنه بينما كانت الإذاعات تلعلع عن البترول والإمبريالية، كان «البدو» بكل هدوء، يتملكون نفطهم، وأنه فيما كان الثوريون يصرخون في وجوه الخليجيين «نفط العرب للعرب»، كانوا هم أول وآخر من استخدم سلاح النفط باسم العرب.
وقبل أن تشن كتائب الإذاعات معركة «نفط العرب للعرب» وتريده كله لها، لم يكن أحد قد قال ذات يوم «ماء العرب للعرب»، أو «قمح العرب للعرب»، أو «مدارس العرب للعرب». لذلك، وأنت تنظر الآن إلى هذه التجربة العمرانية، يجب أن تضع في حسابات القدرة والصبر والبداوة، ما تعرض له الخليج منذ ظهور «الزيت» إلى حروب وتحريض وحرائق وقصائد فارغة وعمليات نصب وتهديد واحتيال. جميعها أضعفت، لكنها لم تنهك. جميعها تسللت، لكنها لم تنجح.
لم يكن الخوف في هذه البلدان الناشئة ثورياً فقط وادّعاءً بملكية النفط ومعه رماله. كان الإيرانيون يتسللون من الحدود الضعيفة كل ليلة. وما إن طلع الصباح حتى تبيّن أنهم أصبحوا جاليات مهمة تتحدث الفارسية وتغضب على كل مَن يسمي الخليج عربياً. ولم يكن موقف الشاه أقل تعسفاً من موقف الثورة الإسلامية، بل هو انتقل من العدائية إلى العدوانية، ومن العنصرية إلى الطائفية، ومن الإقليمية إلى القومية.
استعان «الخليج» على نشامى العرب والجيش الثوري الفارسي، بما استطاع من وحدة وتنمية وتعقّل، واستثمار لنفوذه الاقتصادي. بأعلى الكفاءات خاض حرب الكويت، وبأعلاها أيضاً وقف في وجه الاستيلاء على البحرين. وفي تروٍّ تجاوز الاختراقات الخطرة، بحيث أصبحت المواجهات بعيدة المدى خلافات عابرة، وبحيث شاهد العالم شابين باسقي القامتين يتعانقان في وجه «كورونا»: ولي عهد المملكة وأمير قطر.