\
لم أكن أتوقع هذه الهدية في السلسلة. ولو أنني بحثت بنفسي في مخطوطات وصور جدة القديمة؛ لما استطعت العثور على الكثير. لكن ثمة من ترك لي عند موظف الاستقبال في الفندق كتاباً أنيقاً «جدة التي أحببتها: ذاكرة الزمن الجميل. بقلم ليلى النعماني علي رضا. دار الانتشار». وقد أرفقت المؤلفة كتابها برسالة تضيف إلى النص شيئاً من عبق الماضي وصفاء السرد وحلاوات الذاكرة.
جاءت ليلى النعماني إلى جدة عام 1958 من بيروت بعد زواجها بعلي رضا. وكانت عائلات المدينة تسكن في مجمّع واحد؛ كباراً وصغاراً: الجدة والجد والخالة والعمة والدادات (المربيات) الأفريقيات والعبدات والعبيد. أجل. كان زمن الرق لا يزال قائماً؛ خصوصاً بالاختيار. فكلما أعتقت عائلة فرداً، أصرّ على البقاء في كنفها. وكان «العم الكبير»؛ أي والد علي رضا، لا يكتفي بإعتاق من هم في المنزل؛ بل يأتي بهم من الخارج لكي يحررهم أيضاً.
جدة الستينات كانت لا تزال طرقات مظلمة، وشوارع ترابية، وطريقين لا ثالثة لهما: مكة والمدينة. وأما «أبحُر»؛ التي هي الآن زهوة المدن على البحر الأحمر، فلم يكن شيء يدعى إلا من بيت أو بيتين وقارب صغير يقوده علي رضا بنفسه. وشيئاً فشيئاً بدأت أبحُر تمتلئ باليخوت، وجدة بالأسواق والمنازل، ولم تعد هناك أماكن لاستقبال الوافدين للعمل من جميع البلدان.
كيف كانت الحياة بالنسبة إلى لبنانية بيروتية قادمة من الجامعة الأميركية؟ في البداية كانت مقفرة، وكان هناك كثير من العزلة والحزن. لكن سرعان ما بدأت الست البيروتية تنمو مع جدة، وتقاطر القادمون، وكبرت العائلة، وطابت الحياة للطالبة في ظل العادات والتقاليد والحجاب الأسود المضاعف. وكان إذا التقى صديق للعائلة تحاشى السلام عليها. لكن كيف استطاع التعرف إليها من تحت الأحجية؟ من سيارتها الكاديلاك الضخمة الحمراء. كانت السيارات نادرة في جدة والناس تعرف مالكيها. فلم يكن سهلاً تملك سيارة في مدينة لا طرقات فيها.
ترسم ليلى النعماني لوحة ملونة لجدة الستينات، ليس بصفتها أستاذة في الأدب الفرنسي، بل بوصفها طالبة في العائلة الكبيرة في «مجمع كيلو خمسة». تروي بمحبة، كأنها تردد أغنية أطفال أو فيلماً سينمائياً مشوقاً… يوم العائلة في أبحُر، ويوم تنقطع بها السبل في الطائف بسبب هطول الأمطار وانهيار الصخور. أكيد أنك لن تعرف الطائف اليوم منها في تلك الأيام، وهي تغص بالمصطافين هذا الصيف بحثاً عن هوائها وعنبها ورمّانها، الذي يقال إنه حملته إلى هنا زبيدة؛ ملكة الرشيد. وهي أيضاً من أنشأت «القناطر» القائمة حتى الآن قرب برمانا في لبنان.
تهدي ليلى النعماني كتابها الموسيقي إلى دنيا مروة؛ شقيقة مؤسس «الحياة» وإحدى رفيقاتها في جدة. ويتهيأ لي أن كثيراً من الابتسام في الكتاب كان من شغل «دنيا»… كانت لها ثروة منه.