مُستفزٌّ جدّاً ما حصل مؤخّراً في برلمان تونس. نائب اسمه الصحبي سمارة يقفز فجأة عن مقعده. يتّجه، واثق الخطوة، نحو زميلته ورئيسة «الحزب الدستوريّ الحرّ» عبير موسي. يسير بضع خطوات ثمّ يصفعها بقوّة. نائبٌ آخر اسمه سيف الدين مخلوف، يبدو أنّ «تسامح» سمارة لم يَرُقْ له، أكمل المهمّة بأن ركل موسي على ركبتها. حصل قليل من الهرج والمرج لكنّ البرلمان لم يوقف أعماله. الأمر عاديّ!
يضاعف الاستفزازَ عاملان، أوّلاً: أنّها تونس، البلد الوحيد الذي أمكن لثورته أن تحرز نجاحاً نسبيّاً. إحدى ثمار ذاك النجاح المصادقة، عام 2017، على القانون الرقم 58 لمكافحة العنف ضدّ المرأة والسعي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين. وثانياً: أنّه البرلمان، أي المكان الذي يُفترض أن يعكس المساواة في المواطنة قبل ممارسته وظيفتيه الأساسيّتين تشريعاً ومراقبةً للسلطة التنفيذيّة. السيّدان سمارة ومخلوف أرادا تحويل البرلمان هذا إلى بيت طاعة آخر، بيتٍ أكبر حجماً من البيت العائليّ وأعلى سلطة ونفوذاً.
هذا التجرّؤ على المرأة يتّخذ اليوم أشكالاً عدّة في غير مكان من منطقتنا.
خذ تركيّا مثلاً: قبل أشهر قرّر الرئيس رجب طيّب إردوغان إخراج بلاده من «اتّفاقيّة اسطنبول» التي تستهدف حماية المرأة من العنف. الآن تمّ الانسحاب رسميّاً.
الحجج التي يطرحها المدافعون عن الانسحاب أغرب ما تكون: إنّ الاتّفاقيّة تدعم المثليّة الجنسيّة وتساهم في تفكيك الأسرة والمجتمع!
تركيّا التي شهدت في السنوات الأخيرة تزايداً لافتاً في العنف ضدّ المرأة سوف تشهد بالتأكيد تزايداً أعظم بعد التخلّص من هذا القيد. الأمر أيضاً عاديّ. المهمّ ألاّ يتدخّل الأجانب في شؤوننا، فنحن أدرى بنسائنا. ألسنا مستقلّين وذوي سيادة؟
أخبار عذابات النساء كثيرة وذات أشكال عدّة، كما تنتمي إلى مستويات مختلفة. مؤخّراً في انتخابات إيران الرئاسيّة، رُفض ترشيح أربعين امرأة من أصل أربعين مرشّحة. كلّهنّ رُفضن بلا استثناء. قد يقال أنّ الرجال ليسوا أفضل حظّاً، بدليل أنّ حوالى 590 منهم رُفض ترشيحهم أيضاً. مع هذا فسبعة من الرجال أُذن لهم بالترشّح، وفاز أحدهم، ابراهيم رئيسي، بالرئاسة.
السوريّون الذين يصارعون عذاباتهم ومنافيهم وفَقْد أحبابهم، كان لا ينقصهم إلاّ العدوان على رموز تضحياتهم، وخصوصاً أيقوناتهم من النساء. المحامي هيثم المالح، المُسمّى «شيخ الحقوقيّين السوريّين»، فسّر خطف زهران علّوش الناشطةَ رزان زيتونة بـ «عدم مراعاتها للبيئة المحافظة في الاحتشام»، ولم يُخف استياءه من «رفضها الانصياع لأوامره» إبّان عملها في مكتب محاماة كان يديره. الذين دافعوا عنه لم يجدوا أفضل من الاستشهاد بقوله إنّ زيتونة «بِنتُه»، والأب حريص بالطبع على احتشام ابنته وعلى عودتها إلى البيت قبل غروب الشمس!
نعم، إنّهن خصم هيّن، خصمٌ يمكن حشد القيم والأخلاق والدين والوطنيّة والتراث في المعركة ضدّه. وهذا كلّه وغيره يحصلان قبل أن «تتحرّر» أفغانستان بنتيجة الانسحاب الأميركيّ، وقبل أن تتربّع في سلطتها مجدّداً «حركة طالبان»، بحسب ترجيح مُجمَع عليه. وفي شأن النساء فإنّ «طالبان» التي تحرّرُ أفغانستان اليوم تبزّ الخميني الذي حرّر إيران بالأمس والذي، بدوره، بزّ الثورة التي حرّرت الجزائر يوم أمس الأوّل.
الوجهة إذاً تصاعديّة ولله الحمد. الطرق والدرجات تختلف أمّا الهدف فواحد.
أغلب الظنّ أنّ حالات اضطهاد النساء تتكاثر اليوم لأسباب تتّصل بأوضاع المنطقة: بتمزّقها، بعجزها عن البقاء على ما هي عليه وعجزها، في الوقت نفسه، عن الإقلاع إلى أحوال أخرى، بفقرها وتعاستها وبطالة أبنائها، بانهيار أنظمتها الاقتصاديّة والصحّيّة والتعليميّة…، وهي عوامل تدفع المرأة بسببها أكلافاً تفوق ما يدفعه الرجل. إنّها الضحيّة الأوّل. هو الضحيّة الثاني.
لكنّ الاستجابة لتلك العوامل بمزيد من التعنيف والتمييز ينهل من مصدرين آخرين: أنّ التجارب التي عرفناها في «تحرير المرأة»، منذ كمال أتاتورك حتّى الحبيب بورقيبة، جاءت ارتداداتها العكسيّة تعادل مكاسبها. لقد رُبطت المساواة بالدولة ولم تُربط بالحرّيّة، وحظي فصل الدين عن الدولة بحصّة أكبر كثيراً ممّا حظي فصل الدولة عن الدين. هكذا بات سهلاً على الإسلاميّين ومشايعيهم أن يضعوا كلّ ما هو متقدّم، بما فيه حرّيّات النساء، في مواجهة الشعب وحرّيّته. أمّا المصدر الثاني ففيضان العداء السياسيّ للغرب بحيث غدا عداءً ثقافيّاً للحداثة. نزع الاستعمار (decolonization)، والحال هذه، بات أقرب إلى نزع الحضارة (decivilization)، كما كان ياسين الحافظ يقول ويحذّر. هكذا صارت المعادلة المعمول بها تقول: تحرّرٌ وطنيٌّ أكثر يساوي تخلّفاً واستبداداً أشدّ.
وفي ظلّ كوابح كهذه استنجدنا، وما زلنا نستنجد، بأسوأ ما في تراثاتنا وتقاليدنا «الوطنيّة» أو «الأصيلة» التي لا تفتح فمها حتّى تلعن النساء.