بسحر ساحر، تحوّل رئيس “تيّار العزم” النائب نجيب ميقاتي، من شخصيّة تتعرّض للإستهداف بحملات إعلاميّة وتُرمى بتهم الفساد، من صفقة إلزام المُواطنين بدفع 500 دولار أميركي عن كل خط إشتراك هاتفي في التسعينات إلى صفقة الإحتيال على القوانين للإستفادة عن غير وجه حقّ من قروض سكنيّة مَدعومة (1)، إلى رئيس حُكومة مُكلّف بأغلبيّة نيابيّة كبيرة (2). فما الذي تغيّر، وهل تسهيل التكليف يعني أنّنا على أبواب إنفراج ما حُكوميًا؟.
بلقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري استهل ميقاتي الاستشارات، تلاه لقاء مع الرئيس سعد الحريري، فالرئيس تمام سلام، الذي قال بعد انتهاء اللقاء: “إن الوقت اليوم للأفعال وليس للكلام”، واختتم الرئيس المكلف الجولة الأولى بلقاء نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي.
الجولة الثانية، كانت للقاء الكتل النيابية، التي حضرت وخرجت معظمها بأجواء إيجابية لمّحت إلى نية لدى الرئيس المكلف بتشكيل حكومة اختصاصيين من 24 وزيرا في أسرع وقت ممكن.
في مستهل اللقاءات مع الكتل النيابية وبعد الإجتماع مع ميقاتي، دعا النائب أنور الخليل بإسم كتلة التنمية والتحرير إلى “الإسراع قدر الامكان بالتشكيل تجاوبا مع حاجات الناس التي تطال كل قسم من أقسام الحياة”، وقال: “إذا تم التشكيل وان شاء الله يتم في الوقت القصير، فعلى دولة الرئيس أن يبقي العمل على تطبيق جميع بنود الدستور، إضافة الى إصلاح قانون الإنتخاب لأنه قسم الناس إلى أقسام مذهبية ويجب أن يطاله تعديلات”.
وأضاف: “طلبنا تنفيذ كل ما تم الإتفاق عليه في إجتماع رؤساء الحكومات السابقين”.
تكتل لبنان القوي حسم قراره بعدم المشاركة في الحكومة ومفاوضات التأليف، حيث قال رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل باسم كتلة “لبنان القوي”، بعد لقاء الرئيس المكلف نجيب ميقاتي: “انتهت مرحلة التكليف وكلف ميقاتي وهذا من دون موافقتنا وتسميتنا، وهذا دليل إضافي على أننا لسنا الأكثرية”.
وأضاف: “أما وقد تكلف ميقاتي، فمن الطبيعي أن نكون اليوم في موقع المساعد لأننا لا نمارس النكد السياسي ونحن مع حكومة باسرع وقت ،وواجبنا تقديم التسهيلات وكل الدعم”.
واعلن “اننا أبدينا قرارنا الواضح بعدم مشاركتنا في الحكومة، وهذا يعني عدم تدخلنا في عملية التأليف وهذا قد يكون عنصرا مساعدا”.
بينما حسم تكتل الجمهورية القوية قراره بحجب الثقة عن حكومة ميقاتي، فقال عدوان: جورج عدوان ان “موقف القوات واضح، وقد أبلغنا ميقاتي عدم مشاركتنا في الحكومة وهذا ليس موقفا متعلقا بشخص الرئيس المكلف”.
واكد “ان القوات مندفعة لتحقيق مطالب الناس، وأي مطلب يتعارض مع مطالب الناس لن نوافق عليه”.
وقال: “المعركة اليوم ليست لا مسيحية ولا إسلامية، بل بين السلطة التي أوصلت البلاد إلى هنا، وبين فريق يريد التغيير. نحن والتيار لدينا مواقف مختلفة فمعركة التيار سلطوية ومعركتنا تغييرية”.
واكد “اننا لن نتحالف إلا مع الدول التي تخدم سياسة لبنان ولا نتأثر بأحد، والدليل هو عندما أجمع كافة الافرقاء على السفير مصطفى أديب عارضنا هذا التكليف ولم نسمه”.
من جهته طالب حزب الله بتشكيل حكومة من ذوي الإختصاص، وقال النائب محمد رعد بإسم كتلة الوفاء للمقاومة: “تعاون الكتلة الجدي للاسراع في تشكيل حكومة الضرورة لإنقاذ البلد وطمأنة اللبنانيين في عيشهم فلا تتركهم فريسة للمافيات”.
ورأى ان “اختيار الوزراء وخصوصا في مواقع المال والاقتصاد والتربية، والوزارات التي تأتي بواردات على البلد، يجب أن يكون بشكل يعيد تفعيل مؤسسات الدولة واعادة الانتظام العام”.
وقال: “لم نطلب مطلبا خاصا لكتلتنا، وطلبنا ان تؤلف الحكومة من وزراء ذوي اختصاص وحكمة في ميدان الحياة الاجتماعية العامة”.
ودعا الى “التعجيل في انفاذ القوانين التي أقرها وسيقرها المجلس النيابي والتي تتيح المحاسبة والمحاكمة بلا عوائق”.
أما التشاؤم فبدى سيد الموقف لدى كتلة التكتل الوطني، فصرح النائب فريد هيكل الخازن بعد اللقاء مع ميقاتي، قائلا: “تمنينا التوفيق لدولة الرئيس ميقاتي وقلنا له ان الوقت ليس وقتا لطلب وزير او الكلام عن حقائب انما لوضع انفسنا بتصرفه وبتصرف الحكومة الجديدة لتتمكن من وقف الانهيار في البلد”.
واضاف الخازن: “لدينا تخوف كبير لان التجارب السابقة لا تشجع، من مصطفى اديب الى سعد الحريري واليوم نجيب ميقاتي، ثالث رئيس حكومة مكلف لتشكيل الحكومة”. وقال: “اتمنى له التوفيق وفي الوقت نفسه اقول “الله يعينه” لان المهمة صعبة، والتعامل مع العهد ورئيس الجمهورية أصعب من الوضع”.
وتابع الخازن: “القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر اعلنا انهما لن يشاركا في الحكومة ولم يسميا ميقاتي، نسأل كيف ننتخب رئيسا للجمهورية عند الاستحقاق الرئاسي اذا رفض الفريق السني تسمية الرئيس؟ ليس كهذا يُبنى البلد”.
وتابع الخازن قائلا: باسم “التكتل الوطني” اقول نحن نرفض كل الحصص، ما يهمنا ان يشكّل رئيس الحكومة واذا حبّ ان يستعين بأشخاص لهم تاريخ مشرّف يمكننا ان نساعد في الامر”.
وختم: “الموضوع الاساس ان تتشكّل الحكومة بأسرع وقت لوقف الانهيار قدر الامكان والنهوض بالبلد”.
ختام الاستشارات غير الملزمة كان مع النواب المستقلّين، الذين غاب منهم النائب فؤاد مخزومي.
وقبل أن يغادر إلى قصر بعبدا ليطلع رئيس الجمهورية ميشال عون على أجواء الاستشارات كانت كلمة للرئيس المكلف نجيب ميقاتي على قاعدة “خير الكلام ما قلّ ودلّ”، قائلاً: “اجماع من النواب والكتل على الطلب باستعجال تشكيل الحكومة، لانه مع تشكيلها نستعيد الدولة ووجودها ما يجعل المواطن يطمئن”.
وقال: “الظروف صعبة ويجب تأمين حاجات المواطن، وبعد الجلسة مع الكتل سأطلع الرئيس عون على الضرورة القصوى بتشكيل الحكومة، وسأتردد الى القصر الجمهوري دائما للاسراع في تشكيل الحكومة”.
واعتبر ان والله ولي التوفيق”.
انتهت الاستشارات النيابية غير الملزمة، ومعها بدأ العدّ العكسي لولادة حكومة يعوّل عليها معظم اللبنانيين، علّها تنتشلهم والبلاد من قعر جهنّم.
بحسب ما يتردّد، إنّ “تعليمة” وصلت من الخارج، ومن فرنسا بالتحديد، بضرورة تسمية النائب ميقاتي رئيسًا للحُكومة، الأمر الذي لاقى عدم مُمانعة عربيّة، وتأييدًا داخليًا واسعًا بحُكم الأمر الواقع، بعد أن وصل الإنهيار إلى مرحلة مُتقدّمة جدًا. وفي المَعلومات الأوّليّة أيضًا، أنّ عدم القُدرة على وقف الإنهيار بحُكومة مُشابهة للحُكومة المُستقيلة برئاسة حسّان دياب، أو بحُكومة مُواجهة من طرف واحد برئاسة النائب فيصل كرامي مثلاً، دفع الكثيرين إلى تبنّي خيار ميقاتي، خاصة وأنّ “تيّار المُستقبل” الذي كان رئيسه النائب سعد الحريري قد أشار علنًا أنّه لن يُقدم على تسمية أحد، تراجع عن كلامه ودعم وُصول ميقاتي إلى رئاسة الحُكومة. وبدا لافتًا أيضًا الدعم الذي لقيه رئيس كتلة “الوسط المُستقل” من “حزب الله”، على الرغم من التجارب السابقة معه والتي كانت قد خيّبت آمال “محور المقاومة”، في دليل على رغبة “الحزب” بالحد من سرعة الإنهيار بأيّ ثمن. وإذا كان تصويت حزب “القوات اللبنانيّة” خلال الإستشارات غير مفاجئ، بسبب موقف “القوات” من كلّ الأكثريّة الحاكمة حاليًا، بدا لافتًا تصويت “التيّار الوطني الحُرّ” الذي تلاقى مع “القوات” في عدم تسمية أحد، لكن من مُنطلقات مُختلفة تمامًا.
وبعد أنّ مرّ مطبّ التكليف بالتي هي أحسن-بحسب القول الشائع، تتجه الأنظار إلى مرحلة التشكيل، حيث تُوجد نظريّتان في هذا الصدد:
النظريّة الأولى تعتبر أنّ التوافق الداخلي-الخارجي الحاصل، والزخم الذي تمثّل في سرعة عمليّة التكليف، سيتواصل ليطال عمليّة التشكيل. وأصحاب هذه النظريّة يعتبرون أنّ “التيّار” الذي نجح بإخراج الحريري من الحُكم على الرغم من الضُغوط الكبيرة من فريق واسع بقيادة رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، سيتراجع عن الحُصول على حصّة تتيح له تعطيل قرارات السُلطة التنفيذيّة، وسيكتفي بالحصّة التي سينالها رئيس الجُمهوريّة، وأنّ عقدة وزارة الداخليّة ستُحل بمخرج وسطي يُرضي الجميع، الأمر الذي سيُسهّل ولادة الحُكومة سريعًا.
النظريّة الثانية تعتبر أنّ ما إنطبق على التكليف من تسهيلات من قبل العديد من الجهات، لن ينطبق على التشكيل من قبل الأطراف نفسها، وذلك لغايات ولأسباب مُختلفة تمامًا. وأصحاب هذه النظريّة يعتبرون أنّ ميقاتي لن يكون قادرًا على التنازل عمّا رفض الحريري التنازل عنه، وإلا ستحترق ورقته داخل البيئة السنيّة، علمًا أنّ “المُستقبل” يُراهن على أنّ الوقت سيُثبت أنّ العقد لم تكن منه بل من جانب “التيّار الوطني الحُرّ”. وبالتالي، إنّ العقبات التي منعت الحريري من التشكيل طوال ثمانية أشهر ستتواصل مع ميقاتي، لأنّ “التيّار”–بحسب أصحاب النظريّة عينها، ينطلق في مطالبه من خلفيّات وحُقوق دُستوريّة وليس من خلفيّات شخصيّة، وكذلك من موازين قوى داخليّة هو غير مُستعدّ للتفريط بها، بغضّ النظر عن هويّة رئيس الحُكومة.
في كل الأحوال، الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة ستحمل إجابات شافية عن الوجهة المُستقبليّة لمُجمل الأوضاع في لبنان، حيث أنّ من شأن تشكيل حُكومة برئاسة ميقاتي سريعًا أن يؤمّن صدمة إيحابيّة تُخفّض سعر صرف الدولار لفترة زمنيّة مقبولة، وبالتالي تُساهم في صُمود اللبنانيّين لأشهر إضافيّة عدّة، وقد تفتح الأبواب أمام حلول فرنسيّة لمسألة الكهرباء، إلخ. أمّا في حال العودة إلى الدوران في الحلقة المُفرغة خلال مُشاورات التشكيل، فإنّ سعر صرف الدولار سيُعاود الإرتفاع، وبالتالي الإنهيار الحالي سيتواصل، ونسبة الإحتقان الداخلي ستبلغ ذروتها، خاصة وأنّنا نقترب سريعًا من إستحقاقات إنتخابيّة بالغة الأهميّة، يُراهن عليها الكثيرون في الداخل والخارج لتغيير موازين القوى.
في الخلاصة، المرحلة المُقبلة فاصلة ودقيقة، ولا شكّ أنّ شكل الحُكومة–إن تشكّلت، سيُحدّد المهمّات المَطلوبة منها، والتي قد تنحصر بحُكومة لتنظيم الإنتخابات، وُصولاً إلى حُكومة إختصاصيّين قد تضع خارطة طريق لإطلاق عمليّة النهوض، مع ما بينهما من خيارات تكنو – سياسيّة وغيرها، وُصولاً إلى إحتمال الفشل في تشكيل الحُكومة والدُخول في مراوحة قاتلة، وُصولاً ربما إلى إعتذار جديد عن التأليف!.
(1) في تشرين الأوّل من العام 2019، أصدرت النائبة العامة التمييزيّة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، قرارًا إدّعت فيه على النائب ميقاتي وابنه ماهر وشقيقه طه وبنك “عودة”، بجرم “الإثراء غير المَشروع”، من خلال حُصولهم على قروض سكنيّة مَدعومة، وأحالتهم أمام قاضي التحقيق الأوّل في بيروت للتحقيق معهم.
(2) نال النائب نجيب ميقاتي تأييد 72 نائبًا.