الممانعون، العراقيّون منهم وغير العراقيّين، يشهّرون بمصطفى الكاظمي. ذاك أنّ رئيس حكومة العراق، في رأيهم، يتراوح بين كونه متواطئاً مع الولايات المتّحدة وكونه عميلاً لها. ومع أنّ الكاظمي حمل إلى واشنطن رغبة البرلمان العراقيّ، وطالب إدارة بايدن بتقليص الحضور العسكريّ الأميركيّ في العراق إلى حدّ أدنى، بحيث يقتصر على التدريب والمشورة، ومع أنّ الإدارة المذكورة تجاوبت مع هذا المطلب، استمرّت الحملة على الكاظمي.
والحال أنّ ما هو مطلوب إنجازه هو إنهاء كلّ أثر للأميركيّين، والانتقال ببغداد إلى حالة من العداء المطلق مع واشنطن. «حلف بغداد»، هذه المرّة، يُفترض به أن يكون ضدّ الغرب بقدر ما كان «حلف بغداد» في الخمسينيّات مع الغرب.
أغلب الظنّ، كما يرى بعض المراقبين، أنّ هذه الرغبة الجذريّة التي لم يحقّقها الكاظمي سيحقّقها برلمان جديد يُفتَرض أن يُنتخب في أواخر هذا العام، وتكون فيه للقوى الشيعيّة الموالية لإيران أكثريّة كاسحة.
لكنْ لنتذكّر أنّ جلسة البرلمان في 5 يناير (كانون الثاني) 2020، حين تبنّى النوّاب مطلب سحب القوّات الأميركيّة من العراق، غابت عنها الكتل البرلمانيّة للكرد وللعرب السنّة. إذاً، هناك صلة لا تُخطئها العين بين مطلب العداء الكامل لأميركا ومعه الالتحاق الكامل بإيران وبين انهيار ما تبقّى من وحدة وطنيّة عراقيّة. فالكرد والعرب السنّة لا تستهويهم هذه السياسة، ليس بالضرورة حبّاً بأميركا، ولكنْ بالتأكيد خوفاً من إيران واستفرادها بالعراق. والأساسيّ في سياسة الكاظمي، إذا وضعنا التفاصيل جانباً، هو هذا بالضبط: إدراك أنّ العراق بلد متعدّد وأنّ سياسته الخارجيّة ينبغي أن لا تُخِلّ بشروط هذا التعدّد. إنّه لا يريد أيّ «حلف بغداد» كائناً ما كان توجّهه. خصومه، في المقابل، لا يريدون إلاّ حلفاً كهذا، ولا ينوون بالتالي أخذ العرب السنّة والكرد في حسابهم.
يتّضح، هنا بالتحديد، كيف أنّ برنامج البيئة الموالية لطهران هو بالضبط تفجير العراق. الداخل والتعايش العراقيّان لا يعنيان لهم إلاّ البغيض والمكروه.
يمكننا، من طريق المقارنة، أن نستدلّ على طبيعة هذا البرنامج: نوري المالكي الذي ارتبط اسمه، كسياسيّ أوّلاً ثمّ كرئيس حكومة منذ 2006، بالحرب الأهليّة السنّيّة – الشيعيّة (2006-8) هو أحد أبطال تلك البيئة التي تكره الكاظمي الراغب في تفادي الحروب الأهليّة.
مثل آخر: الميليشيات التي قتلت، في انتفاضة 2019 – 2020، 700 متظاهر مدنيّ وجرحت 23 ألفاً واغتالت وخطفت نشطاء ومعارضين، هي موضوع احتفال وتكريم دائمين. إنّها ميليشيات البيئة هذه. أمّا الكاظمي الذي يسعى إلى الاستجابة لمطالب المنتفضين والتوصّل إلى نوع من سلام اجتماعيّ فموضوعُ هجاء متواصل.
واقع كهذا يقول لنا إنّ أحوال البلدان ومصالح شعوبها ليست مهمّة إطلاقاً في أنظار الممانعين. أكثر من هذا: إنّ برنامجهم لا يقوم إلاّ على تفجير الداخل الوطنيّ للبلدان وعلى فرض سيطرة جلفة على المختلفين. أمّا النتيجة فمعروفة: استدعاء أطراف كـ «داعش»، تشارك البيئة الممانعة تطرّفها ولو من الموقع النقيض، بحيث يغدو الاحتراب الأهليّ مضموناً. فالداخل الوحيد الذي يعنيهم هو الداخل الإيرانيّ، وتوفير الشروط الخارجيّة لهيمنته، وأوّل تلك الشروط اختفاء أميركا من المنطقة. أمّا إذا أمكن استخدام تلك الأوراق، والعراق هو الورقة الأولى، لمصلحة التقارب الإيرانيّ – الأميركيّ بشروط إيرانيّة، فعندها يغدو لكلّ حادث حديث.
القاعدة نفسها تعمل في لبنان. مع الذكرى السنويّة الأولى لجريمة تفجير مرفأ بيروت يتجدّد طرح السؤال: هل كان ممكناً أصلاً أن يحصل عمل مروّع كهذا لولا الانخراط في نزاعات إقليميّة لا يُستشار فيه المواطنون، ولا ينجم عنه إلاّ مزيد من إضعاف الدولة والإمعان في إفساد قدرتها على الرقابة؟ بالتأكيد يندرج في هذه الخانة فساد الطبقة السياسيّة – الاقتصاديّة الحاكمة، ورثاثة أدوات الحكم وتعفّن النظام المصرفيّ وما سوى ذلك من عناصر. لكنّ تفجيراً شبه نوويّ كالذي حصل قبل عام يلزمه ما هو أكثر بكثير كي يحصل.
تدمير لبنان ليس فقط غير مهمّ. إنّه أيضاً قد يكون مطلوباً حين تستدعي المصلحة الإيرانيّة ذلك. تدمير سوريّا أيضاً يسري عليه القانون نفسه. الشعب السوريّ ينتفض ويُقتل ويُهجّر على مدى عشر سنوات: من درعا 2011 إلى درعا 2021. مع هذا تُسمّى السنوات العشر «حرباً خارجيّة على سوريّا». الشعب السوريّ، كباقي شعوب المنطقة، تفصيل. الأساس هو مصالح النفوذ الإمبراطوريّ لإيران وما يستدعيه في مزارعه العربيّة الكثيرة.