احتفلت فرنسا العام الماضي بمرور 120 سنة على ولادة أديبها الطيار أنطوان دو سانت إكزوبيري. وهذه السنة، تستذكر مرور 75 عاماً على صدور روايته «الأمير الصغير» التي أنست القراء كتبه الأخرى، وتُوج بطلها على رأس الأبطال الروائيين، بشهرته ونباهته وحسه الطفولي اليقظ. وقد اختار سانت إكزوبيري أن يكون بطله طفلاً، وأن يجعله يعيش خارج الكوكب، فأمن له عنصرين، هما النقاء والفضول الذكي الذي لا تعكره الحسابات اليومية، فبدت كلماته حكماً، ورؤاه تمهد درباً لمن ضاعوا في غمار الصخب والضجيج.
عاد الكلام عن القصة التي أغوت الصغار بقدر ما خلبت الكبار، ببساطتها وعمقها في وقت واحد، وعن الأرقام المذهلة للمبيع التي سجلتها، ولا تزال تحصدها.
وقد حصلت فرنسا، قبل أيام، بفضل هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في تأثيره، على المركز الأول في الأعمال الأكثر ترجمة في العالم، تتبعها إيطاليا في المرتبة الثانية، وفقاً لتصنيف وضعته منصة «بريبلاي»، بعد استبعاد الكتب الدينية التي تأتي دائماً متوجة لأي كتب أخرى.
فقد بلغ عدد ترجمات رائعة سانت إكزوبيري التي نُشرت لأول مرة عام 1943 (أي قبل سنة واحدة على وفاته) أكثر من 382 لغة ولهجة، وفقاً لدراسة اعتمدت على بيانات جُمعت من أكثر من 1500 مكتبة حول العالم. كما أنه الكتاب الأدبي الأكثر قراءة، إذ تباع منه نحو 145 مليون نسخة في السنة. فقد بيع منه في فرنسا وحدها نحو 12 مليون نسخة من سنة صدوره. ويزيد من حصة هذا الكتاب في المبيع أنه دخل في المناهج المدرسية لعدد من الدول الفرنكوفونية.
قصة «الأمير الصغير» كانت -ولا تزال- مصدراً لإلهام الرسامين والروائيين والسينمائيين وفناني الشرائط المصورة والمسرحيين، بفضل قدرتها على إثارة الأسئلة، وما تحمله من أفكار تسمح بالتأويل والإضافة، والحلم والإبحار في الخيال. لهذا نشط الفنانون هذا العام لتكثيف أعمالهم حول رائعة سانت إكزوبيري. وتجاوز الأمر ورش الكتابة والتحقيقات والأفلام والرسم والمسرح، كما الموسيقى والحوارات، ليصل إلى تزيين الهدايا التذكارية، وتنظيم مسابقة في عمل المعجنات مستوحاة من شخصية «الأمير الصغير»؛ طرق بديعة لإبقاء هذا الكتاب حياً في الوجدان، حتى لمن لا يجدون رغبة في القراءة، إذ تدسّ لهم المعلومات وروح النصوص الأدبية في الخبز والحلويات.
وللتذكير فقط، فإن «الأمير صغير» المكتوبة بحساسية يقظة، وبساطة عميقة مدهشة، هي عن ذاك الطيار الذي أخفق في أن يصبح رساماً بسبب نصائح الكبار الفجّة، حيث أُسدي إليه النصح وهو لا يزال في السادسة يحاول رسومه الأولى بأن يتوجه لما هو مفيد، مثل التاريخ أو الجغرافيا أو الحساب. وذلك درس أول من مجمل الدروس التي لا تنتهي في حكاية آخر ما يمكن أن نتخيله ونحن نقرأها أن تكون ذات هدف أخلاقي. وهذه أهم خصوصياتها، فهي نبيلة المرامي، لكن علو الحس الأدبي ورفعة الأسلوب تحررانها من كل هذه القيود.
الحكاية هي على لسان طيار تعطلت طائرته، ووجد نفسه وحيداً في الصحراء، يوقظه طفل صغير من سباته وهو يوجه إليه عبارة: «من فضلك ارسم لي خروفاً». هذا المخلوق الذي حط بجانبه كأنما لينقذه من عزلته هو الأمير الصغير القادم من كويكب بالغ الصغر يدعى «بي 612»، الذي وجد نفسه مضطراً لمغادرة مكان إقامته بعد أن خذلته الزهرة التي أحبها، وفهم متأخراً أنها تبادله الحب، وتخفق في التعبير عما تضمره من مشاعر.
يجول الأمير الصغير الكواكب، ويلتقي بنماذج من المخلوقات لكل منها رؤيته التي تجعله يطرح مزيداً من الأسئلة التي تبدو للوهلة الأولى مجرد أسئلة لطفل بريء، لكنها توخز كالإبر في مشاعر القارئ، أما الإجابات فمنها تتناسل مزيد من التساؤلات في ذهن الأمير. ومع تجوال الطفل في الكواكب، نلتقي الحاكم الذي لا يرى في الناس حوله سوى رعايا عنده، ثم المغرور الذي يعيش في قوقعة أحلامه، ومن بعده يلتقي الطفل بسكير يشرب حتى الثمالة كي ينسى الخزي الذي يعيشه. «وما هو هذا الخزي؟ إنه الخزي من الشرب حتى السكر والنسيان». وفي كوكب رابع، يلتقي الطفل رجل أعمال مشغول لا يتوقف عن العدّ، ولا يرفع رأسه ليرى ما حوله، وحين يسأله الأمير الصغير ما الذي يعدّه، تأتي الإجابة: «أعدّ النجوم». وهي النجوم التي يملكها ليصبح ثرياً، ويشتري نجوماً أخرى جديدة. ومن الطمع الذي لا أفق له ولا نهاية، وحب التملك الذي لا يبغي سوى مزيد من التملك، إلى نموذج آخر على كوكب خامس لرجل لا يفعل سوى أن يطفئ المصابيح أو يشعلها كأنه دخل في حركات لا إرادية. وحين يسأله الأمير الصغير عن السبب، يأتيه الجواب بأنها «التعليمات». فتلك مشكلة كثيرين لا يعرفون لماذا يقومون بأعمال يكررونها دون أن يسألوا أنفسهم عن الجدوى أو الغاية من تكرار أفعالهم، ودون أن تكون لهم جرأة التوقف أو الاستراحة لمساءلة الذات، وإن كان يجدر بهم أن يستمروا أو يتوقفوا. وفي كوكب سادس، يلتقي الطفل بجغرافي لا يعرف تضاريس الكوكب الذي يعيش عليه، ولا ما يحيط به، بحجة أن هذا عمل المستكشفين. وبما أن كل نموذج يعيش على كوكب، كما النموذج الأخير ولا يشاركه أحد عالمه، فالمستكشفون غير موجودين، وهو لن يعرف أبداً ما يحيط به.
وحين يصل الأمير الصغير إلى كوكب الأرض، يلتقي بفيض من الزهور لم يكن يعرف بها، وكان يظن أن زهرته الأثيرة في كويكبه الأول فريدة من نوعها لا مثيل لها، فإذا على الأرض ما هو أجمل وأبدع، لكنها زهور بالنسبة له بلا معنى؛ إنهن «جميلات لكن فارغات». فالعاطفة تجاه الآخر أو الزهرة هو الذي يمنحها بهاءها وقيمتها في نفوسنا.
القصة معروفة، وثمة لذة في قرأتها أكثر من مرة، لأن سحرها هو في أسلوبها السلس البسيط، وما تحمله من حكم متتالية، كأنما نسبح في عالم اكتشاف ما خلف السحب مع أنطوان سان إكزوبيري، هذا الطيار الذي تنوعت اهتماماته، وبدا كما الراوي في الحكاية الذي أصبح طياراً، لكنه قبل ذلك أراد أن يرسم، فكبحت رغباته. هكذا، كان الكاتب في طفولته حائراً متنقلاً بين المهن، فقد خبر أعمالاً مختلفة، فهو مخترع ومخرج سينمائي ورسام وصحافي وأديب فذ. ومن عوالمه المتعددة، استطاع أن يرسم عالماً روائياً بحيادية الأطفال. ويعتقد نقاد أن مهنة سانت إكزوبيري (طيار)، ورؤية الأشياء من علٍ، كانت من بين أهم العناصر التي ساعدته على الإتيان بنص له جاذبية «الأمير الصغير»، وقدرته على رصد البشر كأنه في حالة فرجة، وليس منخرطاً معهم في المشكلات والتعقيدات نفسها. «جميع الكبار كانوا ذات يوم أطفالاً، لكن قلة منهم يتذكرون ذلك»، يقول سانت إكزوبيري. بيد أنه هو نفسه لم ينسَ تلك الطفولة أبداً، وبقي يحملها في داخله، وينهل من فيضها في كتبه ورواياته ومسيرته الصاخبة إلى أن لقي تلك النهاية التراجيدية.
فقد قضى أنطوان دو سانت إكزوبيري بينما كان على متن طائرة «لوكهيد بي – 38 لايتنغ» التي أقلعت في مهمة استطلاعية فوق المتوسط، وبقيت وفاته لغزاً، وسبب سقوط طائرته غامضاً. أما «الأمير الصغير»، فقد كتبها في نيويورك خلال فترة ترك فيها بلاده ممزقة خلال الحرب العالمية الثانية بين النازية والمناوئين لها، وكان على المستوى الشخصي العاطفي يعاني اضطرابات شخصية. وقد صدر الكتاب في أميركا، قبل أن يبصر النور في باريس التي عاد إليها الكاتب ليلتحق من جديد بسلاح الجو، ويلقى مصيره الغامض.
ويستذكر الفرنسيون «الأمير الصغير»، وكاتبه الكبير، وهم يرون حاجة استثنائية في المرحلة التي نعيشها إلى مؤلفات سانت إكزوبيري الذي عاش مرحلة صراعات وفوضى وتمزقات يرونها شبيهة بالتي نعيشها اليوم. وهو بعينيه الثاقبتين، ومن خلال «أميره الصغير» شخّص الداء، ووصف الأعراض، وكتب نصاً يتسم بالحكمة والفلسفة للخروج من قعر البؤس الإنساني إلى رحابة الفكر.