يتناول كتاب «السينما المصرية والأدب» الذي صدر حديثاً عن دار آفاق للنشر والتوزيع 20 فيلماً من أفضل ما قدمت السينما المصرية، قام مؤلفه الناقد السينمائي المصري أمير العمري بدراستها وعمل مقارنة بين ما ظهر على الشاشة البيضاء وما كان مكتوباً على الورق في الروايات التي أخذت عنها، وهي أفلام هامة، تتمتع بقيمة فنية عالية حتى اليوم، رغم ما قد يشوبها من مثالب.
ركّز الكتاب على أفلام قديمة في معظمها، ما عدا فيلماً واحداً حديثاً، هو «ورد مسموم» الذي تم إعداده عن رواية «ورود سامة لصقر» للكاتب أحمد زغلول الشيطي، التي صدرت طبعتها الأولى ضمن سلسلة مجلة «أدب ونقد» قبل 21 عاماً، وقد اتخذه المؤلف مثالاً لتسطيح العمل الأدبي وتجاهله وتدميره، وإفراغه من موضوعه وأفكاره.
درس المؤلف، مقارناً إياها بسيناريوهات المأخوذ عنها، 20 رواية لـ11 كاتباً؛ طه حسين، نجيب محفوظ، فتحي غانم، يحيى حقي، إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، نجيب الكيلاني، يوسف السباعي، إسماعيل ولي الدين، ثروت أباظة، أحمد الشيطي. أما مخرجو هذه الأفلام فهم؛ هنري بركات، حسام الدين مصطفى، حسين كمال، صلاح أبو سيف، خليل شوقي، كمال الشيخ، محمد الشناوي، هشام أبو النصر، أشرف فهمي، علي بدرخان، أحمد ياسين، عاطف الطيب، محمد الشناوي، إبراهيم الشقنقيري، أحمد فوزي صالح.
ولاحظ العمري أن هناك بين المخرجين من كتب بنفسه سيناريو فيلمه أو اشترك في كتابته كما فعل هشام أبو النصر وخليل شوقي. وأما كتاب السيناريو الذين تولوا تحويل الروايات إلى السينما فكان من بينهم يوسف جوهر، لوسيان لامبير، ممدوح الليثي، صبري موسى، مصطفى محرم، علي الزرقاني، صبري عزت، أحمد عباس صالح، مصطفى كمال، عاصم توفيق، محسن زايد، فايز غالي، إبراهيم الموجي.
ورتّب المؤلف دراسات كتابه حسب الترتيب الزمني لتواريخ عرض الأفلام، وسعى خلالها لإيضاح إضافات كتاب السيناريو والمخرجين للعمل الأدبي بما يخدم موضوع الفيلم، ويعمق فكرته، وكيف يمكن أن تتجاوز السينما الأصل الأدبي وتثريه أيضاً إذا ما وقع النص الأدبي بين يدي كاتب سيناريو يمتلك الحس الأدبي، ولديه من التجربة الإنسانية ما يتيح له القدرة على الإضافة والتطوير وتزويد العمل السينمائي بما يجعله أكثر حيوية ودرامية، وبالتالي أكثر تأثيراً.
وأوضح العمري كيف يمكن أن يتسبب تراجع الخيال لدى كاتب السيناريو أو ميل المخرج إلى تغليب الجانب التجاري الذي يراه مبهراً ومثيراً في العمل الأدبي، والتوسع فيه واختلاق مواقف ومشاهد تجعله أكثر إثارة، في إلحاق ضرر بالفكر الذي يتضمنه العمل الأصلي «الرواية»، ويسيء إليه رغم ما يوفره من أساس درامي جيد كان يمكن البناء عليه.
ورغم أن بداية السينما الروائية المصرية كانت تعتمد على الرواية عندما أخرج محمد كريم فيلم «زينب» عام 1930 عن رواية محمد حسين هيكل، وهو الذي يعتبره كثير من المؤرخين أول فيلم روائي مصري، فإن الاهتمام بالرواية، حسب العمري، لم يبدأ على نحو جدي سوى في الخمسينات، مع اقتباس رواية طه حسين «دعاء الكروان» في فيلم أخرجه هنري بركات، وقامت ببطولته فاتن حمامة. وقد ساهم الازدهار الكبير الذي شهده الحقل الأدبي في مصر خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين، في تطور تيار الواقعية في السينما المصرية، وكانت لروايات إحسان عبد القدوس على وجه الخصوص جاذبية كبيرة لدى مخرجي الأفلام الاجتماعية، وطرحت هذه الروايات في الخمسينات مشكلات وقضايا مرحلة الانتقال من مجتمع ما قبل الحرب العالمية الثانية بقيمه القديمة، إلى مجتمع جديد كان يواجه الماضي بنوع من التمرد والتحدي والرفض. وانعكس هذا في اهتمام السينما بقضايا المرأة وتعليم الفتيات وأحلام الشباب المتطلع إلى مجتمع أفضل، والكبت الاجتماعي والنفسي، والتطلع لتحقيق الصعود الطبقي في المجتمع الجديد، وغير ذلك من القضايا والموضوعات التي تبناها عبد القدوس مع كتاب آخرين مثل يوسف إدريس ويوسف السباعي ويحيى حقي وصبري موسى وصلاح حافظ وفتحي غانم ولطيفة الزيات. إلا أن الواقعية في الأدب والسينما ارتبطت بأعمال الأديب نجيب محفوظ، الذي يشير العمري إلى أنه نقل السينما من مرحلة «الحدوتة» المسلية، إلى القصة المحكمة ذات الدلالات الاجتماعية والسياسية، كما في «اللص والكلاب» و«ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل»، وإلى مجال الأفكار الإنسانية والفلسفية الكبرى كما في «الطريق» و«الشحاذ» و«قلب الليل».
وذكر العمري أن نجيب محفوظ لعب دوراً رائداً في إثراء السينما المصرية عندما عمل منذ أوائل الخمسينات كاتباً للسيناريو، سواء من خلال السيناريوهات التي كتبها للسينما مباشرة، أو قام غيره من كتاب السيناريو بإعدادها عن أعماله الأدبية التي امتنع تماماً عن كتابة السيناريوهات عنها تاركاً تلك المهمة لعدد من كتاب السيناريو الذين اجتهدوا كثيراً في نقل أعماله إلى السينما، منهم من نجح ومنهم من لم ينجح في التعبير عن رؤى محفوظ العميقة ذات الدلالات المتعددة. وكان الجانب التجاري الذي يهتم بالمشاهد المثيرة، يغلب على بعض هذه الأفلام. إلا أنها أصبحت رغم ذلك، من كلاسيكيات السينما المصرية.
وخلص العمري إلى أن العلاقة المتوازنة بين السينما والأدب لم تكن حباً من طرف واحد، فكما ترك الأدب تأثيره على السينما وأثراها فكرياً، ترك الفيلم بصماته على كثير من الأعمال الأدبية سواء في مجال القصة القصيرة أو الرواية، فقد تأثر الكُتاب دون شك بأسلوب المونتاج والإيقاع السريع والتداعيات والتعبير من خلال وصف الحركة والحدث، وليس فقط الانفعالات والمشاعر الداخلية لأبطال رواياتهم، وفي مرحلة تالية، أصبح معظم السينمائيين المصريين يفضلون كتابة سيناريوهات أفلامهم بأنفسهم. وكان كثير منها يعتمد على اقتباس الحبكة من أفلام أميركية ناجحة، والقليل منها يعتمد على المخرج المفكر صاحب الرؤية الخاصة الذي يكتب أفلامه بنفسه، كما يفعل داود عبد السيد مثلاً وغيره من أبناء جيله من المخرجين مثل رأفت الميهي الذي تحول من كاتب سيناريو إلى مخرج سينمائي، وكذلك يسري نصر الله ومحمد خان وغيرهما. ورغم أن داود اعتمد على رواية أدبية هي «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان في فيلمه المبكر الشهير «الكيت كات» فإنه اجتهد كثيراً عندما التقط شخصية واحدة هامشية في الرواية، ومدّها على استقامتها ونسج حولها عملاً يمتلئ بالدلالات مع جعلها تتمتع بالجاذبية، وهي تعبر عن فلسفتها الخاصة البسيطة في الحياة، ما يجعلها قريبة من الناس. ورغم النجاح الكبير الذي حققه الفيلم فإن داود أصبح بعد ذلك يكتب أفلامه بنفسه، ويثري السينما بأعمال ترقى إلى مستوى الأدب، مثل «البحث عن سيد مرزوق»، و«رسائل البحر» و«قدرات غير عادية»، والحقيقة أن جانباً كبيراً من مشكلة القطيعة التي وقعت بين الأدب والسينما في السينما المصرية يرجع إلى قلة كتاب السيناريو المحترفين الذين يمكنهم تطويع الأدب إلى لغة السينما.