لم نألف نحن أبناء الطائفة الشيعية أن نستيقظ في الصباح لنحصي أعدادنا، فهذا شأن الجماعات القَلِقة، وكنا نحسب أننا غادرنا القلق بعد أن استتبت لنا السلطة، وإذ بالسيد حسن نصرالله يشهر سيف القلق مجدداً، ويعلن رقماً مدوراً وخيالياً يساوي بحسبه عدد مقاتليه “في لبنان فقط”!
والسيد اذ فعل ذلك استنفر في المقابل أرقاماً، خيالية أيضاً، باشرت الجماعات اللبنانية الأخرى تدويرها في خيالاتها. وهنا تحضرني واقعة نقلها لي كاتب لبناني كان يشارك في ندوة في إحدى جامعات لندن، فسأله أحد طلاب الجامعة عن عدد سكان لبنان، فأجاب بأن لا وجود لرقم رسمي، وأن سبب ذلك حساسيات طائفية. ويبدو أنه كان بين الحضور في الندوة طالب إسرائيلي طلب الكلام وقال: استغرب عدم معرفة كاتب لبناني بعدد سكان بلده، فنحن في إسرائيل نستيقظ كل صباح لنحصي بعضنا بعضاً!
في لبنان صاحب الرقم خاسر يا سيد! ألا تذكر يوم كان سعد الحريري في أحلك أيامه في العام 2009 وكان قد أقدم على تلك الزيارة التراجيدية إلى قصر المهاجرين، وعاد منه خائباً وذليلاً، وكانت استطلاعات الرأي تحسم أنه سيخسر الانتخابات في وجهك، وتوليت أنت رفعه مجدداً، مطلقاً عبارة “اليوم المجيد”، على ذلك اليوم الذي غزوت فيه بيروت. في ذلك اليوم يا سيد خذلتك الأرقام، فطافت أعداد الناخبين السنة على صناديق الاقتراع، فخسرت الانتخابات!
اليوم يجري شيء مشابه، ولكن مع الجماعة المسيحية! قد يكون من الصعب أن يدعي رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أن خلفه مئة ألف محازب أو مقاتل، لكن الأعداد طافت مجدداً، والرجل حاز على هدية أين منها هديتك لسعد الحريري في العام 2009، والأرقام إذ تستدعي أرقاماً، فإن مؤشرات جعجع الرقمية تجاوزت حدود جماعته وطائفته هذه المرة، ذاك أن خصومتك استثمار أيضاً على الجهة المقابلة من الانقسام. وأنت اذ كنت على رأس سلطة تمتد من الحدود إلى الحدود، وتطوف عنها، ها قد عدت لتتموضع على خط انقسام حدوده الخيالية مئة ألف مقاتل! وهذا الرقم يصرف لبنانياً بما يساويه من خطوط حمر لطالما رسمتها الحروب الأهلية للمتقاتلين، ولطالما خبرناها نحن أهل هذه الحروب!
أي قلقٍ دفع “السيد” لإشهار هذا الرقم؟
فهو يتصدر الدولة والشارع ويطوف عنهما إلى دول الجوار وإلى ما بعدها، ناهيك عن حيفا وما بعد حيفا!
هل علينا أن نعود إلى ذلك القلق القديم، وأعني هنا ما قصده وضاح شرارة في كتابه عن الجماعة الشيعية اللبنانية “الأمة القلقة”، والذي أعقبه بكتاب آخر عنها أيضاً أسماه “دولة حزب الله”؟ فالرقم الذي كشفه نصرالله هو رقم مدور.
“100 ألف مقاتل” لا أكثر ولا أقل.
وظيفة تدوير الرقم سياسية وصادرة عن رغبة بالمخاطبة، وهي بعيدة عن الدقة، واحتاجها الرجل في سياقِ سجالي. فمن لديه 100 ألف مقاتل لا يحتاج لأن يُشهر العدد، وهو إن احتاج ذلك فإن ثمة خللاً في الماكينة التي يؤلفها هذا الرقم.
والمرء إذ يمعن التفكير في الحاجة التي دفعت نصرالله إلى هذا البوح، فلن يخلص إلا إلى أن الرجل كان يخاطب جماعته ويستنهضها بعد الانتكاسة الدموية التي أحدثتها حرب الطيونة، فالجماعات اللبنانية في ظل استيقاظ غرائز الدم، تغرق في سديم من المخاوف والهواجس، تحتاج معها لعملية استنهاض مكلفة. ولا بأس هنا بدفع أكلاف الرقم وبتقديم الهدايا للخصوم. ولا بأس أيضاً بتثبيت الهوية “الحرب أهلية” للسلاح، ومن طوفانه العدمي في الشوارع على نحو يعري الدولة والسلطة التي تشكلت لاحتضانه، ولن تحد الجملة الاعتراضية العابرة التي استدرك بها نصرالله حقيقة أنه يزج بسلاحه بمنافسه أهلية حين قال: “هذا السلاح هو لقتال إسرائيل”، من الحقيقة الشوارعية للسلاح الذي طاف في الشوارع!.
فهل لفتكم حجم السلاح الذي ظهر في لبنان في أعقاب الخميس الأسود؟ لنُسلم مع أصحاب هذا السلاح أن من أقدم على قنص الضحايا في ذلك اليوم هم القوات اللبنانية، وأن القاضي طارق البيطار يمارس استنسابية في استدعاءاته، ولنسلم معهم أيضاً أنهم تظاهروا على نحو سلمي. لنفعل ذلك على رغم الجهد الكبير الذي تحتاجه هذه المهمة! لكن ماذا عن كل هذا السلاح، ولماذا جرى حرص منهجي على استعراضه؟ الأمر يتعدى أسلحة المتظاهرين المئات الذين عبروا في شوارع الضاحية الجنوبية. فقد ظهرت أسلحة ثقيلة تحملها عربات وترفع أعلاماً لحزب الله وحركة أمل في البقاع أيضاً، فهل هذا هو سلاح المقاومة الذي تم تطويبه في البيانات الوزارية. هذه الحقيقة وهذه المشاهد كانت خارج النقاش على رغم ما تمثله من مفارقة. لم يكن سلاح حزب الله هشاً على نحو ما هو هش اليوم، ذاك أن أحد مصادر هيبة هذا السلاح هو في انكفائه مشهدياً، وتواريه عن عدسات المصورين.
نحن اليوم أمام رهبة موازية أحدثها قاتل محترف لم نتمكن من تحديد وجهه. قناص قتل مدنيين ومقاتلين وتوارى. وثمة من يبذل جهوداً هائلة لمنعنا من معرفة هويته. ويبدو أنه ليس من مصلحة أحد، بما فيهم حزب الله والقوات اللبنانية، أن نتمكن من الكشف عن وجه هذا القناص. فلا بأس بأن نحيد باهتمامنا عن معرفة هذه الحقيقة وأن نستعيض عنها بإحصاء بعضنا بعضاً.