تتشابه محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، بدوافعها وغايتها وخطورتها، مع اغتيال رفيق الحريري في لبنان. الهدف من القتل هنا هو إعدام أي بديل أو محاولة “استقلال”.. وإلا إيقاع البلاد في الاضطراب والفوضى. بمثل هذا “الفكر السياسي” يتحول الاغتيال إلى سياسة أخضاع وترويع وترويض للآخرين. درس يتلقنه الجميع.
أبعد من ذلك، ربما تكون محاولة اغتيال الكاظمي تكملة لاغتيال رفيق الحريري. فهذا الأخير -كما بتنا نعرف- بدأ في الخروج من القبضة المفروضة عليه، من خلال حركة سياسية قام بها مع البطريرك الماروني نصر الله صفير، ومن خلال لقاء البريستول، وفي البحث عن مظلة دولية وإقليمية. المسار نفسه أقدم عليه الكاظمي، الذي جاء بقوة دفع شعبي ودولي، ونجح في إعادة العراق كواحة للتواصل بين القوى الإقليمية والدولية، وجاء ببرنامج واضح يتعلق بتحجيم نفوذ الحشد الشعبي وسائر الميليشيات، خصوصاً بعد انتهاء مرحلة الحرب على الإرهاب، وعلى تنظيم داعش.
بيت الطاعة
الاختلاف يتركز على أن اغتيال الحريري كان قبل الانتخابات النيابية. وكان سياق العملية واضحاً وغايتها إلغائية. الوضع مع الكاظمي مختلف. فقد جاءت العملية بعد الانتخابات العراقية التي خسر فيها “الحشد” وحلفاء طهران، في ظل توتر شيعي- شيعي داخل العراق، يأخذ طابع الصراع العربي-الفارسي. وهو أمر لا يمكن لطهران أن تستسلم له. لا بل ستفتعل كل أساليب التصعيد لمواجهته، في معركتها للدفاع عن نفوذها، الذي تعرف كيف تستخدمه كورقة قوة في أي مفاوضات دولية.
وربما يعتبر البعض أن العملية تهديدية أكثر منها إلغائية، وإلا كان بإمكان المجموعات تنفيذ عملية أعنف وأكثر دقة، تنال من الكاظمي وتشطبه جسدياً من المعادلة. وربما لم يكن هناك غاية في كسر كل القواعد حالياً، بل الاكتفاء بتوجيه ضربة دموية غير قاتلة، هدفها إعادة الكاظمي إلى بيت الطاعة وضرب نتائج الانتخابات، ووضعه أمام احتمالين: إما العودة إلى رئاسة الحكومة بشروط الإيرانيين، أو أنه سينتهي سياسياً بحال لم يتم إنهاؤه جسدياً.
رؤساء حكومات لبنان أيضاً
المشهد بليغ جداً في لبنان، ومشهود منذ تعامل حزب الله مع حكومة السنيورة في العام 2006، وتطويقها ومحاصرتها للمطالبة بإسقاطها. وهو لم يتحقق على الرغم من مسار متكامل من عمليات الاغتيال والتوترات الأمنية. وحتى بعد أحداث 7 أيار 2008 واجتياح بيروت، عاد السنيورة مجدداً رئيساً للحكومة وفق منطق يعاكس تماماً القواعد التي يسعى حزب الله إلى إرسائها. ولكن قوة التوازن في يومها هي التي أعادت السنيورة إلى السراي الحكومي، حتى وصل الأمر بالبعض إلى القول إن السنيورة كان آخر رؤساء الحكومة في لبنان الذين تمسكوا بصلاحياتهم، ولم يقدّم تنازلات أو يلجأ إلى تسويفات كما فعل أسلافه، باستثناء تمام سلام، الذي كانت له إدارته الخاصة خلال ترؤسه للحكومة. وكانت له مواقف تتلاءم مع الثوابت.
هنا لا بد من قراءة مسار سعد الحريري السياسي، والذي جاء إلى الحكم مفجوعاً باغتيال والده، ومحاطاً بالكثير من عمليات اغتيال مقربين منه. وأقسى الضربات التي تلقاها، كانت التي استهدفت “العقل” محمد شطح، و”الذراع” وسام الحسن. هنا دخل الحريري في مرحلة التدجين السياسي الكامل، وصولاً إلى الحاجة للعودة لرئاسة الحكومة، للحفاظ على دوره وموقعه وشعبيته ورمزيته، ولو كان ثمن ذلك تقديم التنازلات في السياسة وفي الصلاحيات. وهذا كما نعرف كان مساراً كارثياً. أما نجيب ميقاتي فهو يتحاشى الدخول في مثل هذه المواجهات في الأساس. ينطلق في السياسة من منظور رجل الأعمال. وكل شيء لديه خاضع لحسابات الربح والخسارة. ومعروف أن طبيعة رجال الأعمال لا تتلاقى مع طبيعة القادة السياسيين الذين يعرفون متى الإقدام على المواجهة والمجابهة، ومدى التراجع عنها. فميقاتي لديه مصالح سياسية واقتصادية لا بد من مراعاتها، في الداخل والخارج. ومثل هذه الحسابات لا تحرج حزب الله.
أزمة لبنان مديدة
سيكون العراق مسرحاً للمزيد من الأحداث التصعيدية والسياسية. وهو مؤشر استراتيجي لمسار المنطقة. وعوامل الصراع فيه أكبر من أي مكان آخر، خصوصاً أنه يأخذ طابعاً شيعياً- شيعياً. الأمر يبدو مختلفاً جداً في لبنان. وفي الموازاة، لا رؤية سياسية واضحة في لبنان، ولا في المنطقة، لإطلاق ديناميكية سياسية قادرة على استنهاض الموقف السياسي والشعبي في مواجهة طهران (خصوصاً بعد همود الانتفاضتين المدنيتين في لبنان والعراق)، فيما يمرّ لبنان بأزمة سياسية عميقة مع دول الخليج. وحتى الآن لا يبدو أن هناك اهتماماً أساسياً أو جدياً لمعالجتها، ويقتصر الأمر عربياً على زيارة الأمين العام المساعد، حسام زكي، الاستطلاعية.
وأقصى ما يمكن التفكير فيه هو عقد جلسة لمجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين. وقد تصدر توصية غير مؤكدة بعد، بعقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب. لكن هنا تجيب مصادر ديبلوماسية سعودية، أنهم غير معنيين بذلك، ولا بلغة البيانات، لأن المطلوب من لبنان واضح، وهو اتخاذ موقف عملي يلتزم بالقرارات العربية وبالقرارات الدولية. ولذا، الأزمة تبدو مستمرة وطويلة وذات آفاق مغلقة من الآن إلى مرحلة الانتخابات النيابية، والتي قد تكون مهددة بالكثير من التوترات السياسية وربما الصدامات الأمنية.