ترددت كثيراً في الكتابة عن العلاقة العاطفية الاستثنائية التي جمعت بين أدونيس وخالدة سعيد، والتي ظللتها خيمة الزواج منذ ستة عقود ونصف العقد، وليس ذلك لأنني لم أعثر في هذه العلاقة على ما يستحق الكتابة، وهي واحدة من أوثق العلاقات التي جمعت بين شاعر مبدع وناقدة متميزة في العالم العربي، بل لأن الكتابة عن الشؤون الشخصية للمبدعين الأحياء لا بد أن توقع الكاتب في الكثير من المزالق والمطبات. وفي طليعتها يأتي الاتهام بالتطفل أو المحاباة أو الافتئات على الحقيقة تبعاً لطبيعة العلاقة الشخصية التي تربط بين طرفي الكتابة. أدرك تماما أن مثل هذه المحاذير تظل قائمة حتى بالنسبة للمبدعين الراحلين، حيث يُنظر إلى الأمر في العالم العربي بوصفه مجافاة للأخلاق وقواعد السلوك وانتهاكاً سافراً لحرمة الموتى. ولعل هذه النظرة القاصرة هي التي ألحقت أفدح الضرر بأدب المذكرات والاعترافات وبفن السيرة العربي، حيث يتم حجب الحقائق وتمويه الحيوات أو تزويرها، فيما تأخذ الأمور في الغرب منحى مغايراً تماماً. فالشخصيات العامة والكتاب والفنانون لا يتوانون باعتبارهم بشراً غير منزهين عن الاعتراف بعيوبهم ونزواتهم.
مع ذلك أعترف وأنا أتصدى لهذه المقاربة الشائكة، بأن ما سهل مهمتي إلى حد بعيد، هو الطبيعة المركبة للعلاقة التي جمعت بين خالدة وأدونيس، حيث كان التكامل واضحاً بين الشأنين العاطفي والأدبي، وحيث بدا الافتتان بحضور الآخر، وجهاً من وجوه الافتتان بمنجزه التعبيري. فمنذ اللحظة الأولى للقاء المصادفة الذي جمع في منزل المذيعة المعروفة عبلة خوري بين الشاعر الفتي الذي شاء أن يتكنى باسم أدونيس تيمناً بالإله الفينيقي المترنح بين الموت والانبعاث، والقادم من الساحل السوري ليلتحق بجامعة دمشق، وبين خالدة صالح التي تصغره بعامين اثنين، والملتحقة بدار المعلمين مسلحة بقدر غير قليل من الذكاء والجمال. تكفلت الكيمياء المتبادلة بين الطرفين بدفع العلاقة بعيداً إلى الأمام، فيما تكفل الانسجام الأدبي والإبداعي والعقائدي أيضاً بما تبقى من المسافة.
كانت العاصمة السورية ترزح آنذاك تحت وطأة الأحداث السياسية الساخنة والانقلابات العسكرية المتلاحقة، فلم تستطع أن توفر للثنائي العاشق الطافح بالحيوية ما يلزمه عناصر الاستقرار والحرية ومستلزمات الطموح الإبداعي. الأمر الذي أجبرهما على الفرار إلى بيروت بحثاً عن فرصة ملائمة لتحويل أحلامهما المشتركة إلى حقيقة ملموسة. ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان الشاعر اللبناني يوسف الخال العائد حديثاً من الولايات المتحدة الأميركية يدشن عبر مجلة «شعر» عصر الحداثة الثانية للشعر العربي، بعد سنوات قليلة من ظهور مجلة «الآداب»، مستعيناً بكوكبة من الشعراء والمثقفين المتطلعين بحكم انتماء معظمهم للحزب السوري القومي إلى ثقافة وفكر «قياميين» يحاكيان أسطورة تموز الناهض من موته بعد سبات شتوي طويل.
لم يكن من المستغرب أن يجد صاحب «البئر المهجورة» في أدونيس ظهيراً لمشروعه الثقافي ومنظراً له، وهو الذي كشف منذ يفاعته عن نزوع واضح إلى المغايرة والتمرد. شكلت الإسهامات النقدية التي ظهرت في الأعداد الأولى للمجلة موقعة باسم خزامى صبري، وتناولت أكثر من شاعر مجدد وفي طليعتهم أدونيس نفسه، مفاجأة حقيقية للكثير من المتابعين، بما حملته من عناصر التميز والحساسية العالية والعمق المعرفي. وسرعان ما تكشف لهؤلاء أن المرأة التي تناولت بالنقد مغامرة أدونيس المبكرة في «قصائد أولى» و«البعث والرماد». لم تكن سوى خالدة سعيد بالذات التي دفعها خجلها الفطري وتحرجها من الكتابة عن زوجها الشاعر إلى التنكر باسم مستعار، قبل أن تعاود التوقيع باسمها الصريح، بدءاً من مقالتها «الأسطورة في الشعر المعاصر» ثم «الشعر في معركة الوجود» و«بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث». لم تقتصر على تجربة أدونيس وحده، بل تناولت تجارب مماثلة لفدوى طوقان ويوسف الخال ومحمد الماغوط وسلمى الجيوسي، وتضمنتها لاحقاً باكورتها النقدية «البحث عن الجذور». ولم يقتصر دور خالدة النقدي على المقالات المنشورة في المجلة، بل كان لها إسهامها الحيوي في الندوات الفكرية الحوارية التي أعطيت اسم «خميس شعر»، تبعاً لموعد انعقادها الدوري آنذاك.
والواقع أن أعمال خالدة النقدية تعدت الشعر نفسه، لتطال عبر كتبها «أفق المعنى» و«فيض المعنى» و«يوتوبيا المدينة المثقفة» و«في البدء كان المثنى»، المسرح والأغنية والموسيقى وفنون السرد والتشكيل، بما دفع الكثير من المشتغلين بالأدب والفن إلى اعتبارها إحدى أبرز أيقونات الحداثة والنقد العربيين. على أن اهتمامها بالكثير من التجارب الشعرية الطليعية لا يمكن أن يحجب عن الأنظار إعجابها المفرط بالتجربة الأدونيسية، ورؤيتها هذه التجربة بوصفها حجر الزاوية الأهم في مشروع التحديث العربي. وهو ما بدا جلياً في كتابها «حركية الإبداع» الذي تضمن مقاربتها المميزة لقصيدة أدونيس الشهيرة «هذا هو اسمي»، وكتابها «جرح المعنى» المتمحور حول قصيدة أدونيس النثرية «مفرد بصيغة الجمع».
لكن كل ما تقدم ذكره حول التكامل الفكري والإبداعي بين خالدة وأدونيس لا يغلق الباب بالضرورة على الأسئلة المتصلة بطبيعة العلاقة الشخصية بين الطرفين، ومدى الانسجام القائم بين الوعي النظري وبين الممارسة الفعلية على أرض الواقع المعيش، خصوصاً أن هذه الإشكالية الشائكة هي المجال الحيوي الأهم لهذه السلسلة من المقالات. وإذا كانت موجبات الأمانة الأخلاقية تقتضي الإشارة إلى تكتم الثنائي الزوجي حول كل ما يتصل بخصوصية العلاقة التي تجمعهما، وإبقائها بعيدة عن ألسن الفضوليين والمصطادين في المياه العكرة، فإن المتابع لآراء الطرفين المعلنة لا بد أن يكتشف التباين الواضح في موقفهما من تبعات المؤسسة الزوجية والمفاهيم المتعلقة بالحرية والجسد وتعدد العلاقات. والواضح في هذا السياق أن أدونيس يذهب في اعتناقه لمبدأ الحرية أكثر بكثير مما هو الحال مع خالدة التي تظهر المسافة واضحة بين اعتناقها النظري للحرية وبين التزامها الطوعي بموجبات التحفظ الأخلاقي والرصانة السلوكية، معتبرة أن هذا الالتزام بحد ذاته هو وجه من وجوه الحرية الشخصية وليس نفياً لها.
والحقيقة أن من يتابع كتابات أدونيس وحواراته المتنوعة لا بد أن يلاحظ حرص الشاعر على ألا يحول تهذيبه الفطري وتردده في الإفصاح عن مكنونات قلبه، دون حقه في التعبير عن قناعاته وآرائه في شؤون الحب والزواج والجنس وما إلى ذلك. وهو إذ يعلن في حواره المطول مع صقر أبو فخر، بأنه لم يكن الطرف المبادر في كل علاقاته مع النساء، بما فيها علاقته بخالدة، بل هن من كن يأخذن زمام المبادرة، يضيف تجنباً لسوء الفهم، بأن مرد هذا الأمر ليس الشعور بالصلف أو التشاوف، بل يعزوه إلى تأثره اللاواعي بالتقاليد المتخلفة التي تحكم المجتمع العربي، وإلى نشأته الفقيرة وظروفه الحياتية القاسية. وإذ يشير في بعض حواراته إلى أن شغفه بالنساء كان يأتي في الدرجة الثانية من سلم اهتماماته، أي بعد القراءة والكتابة، فهو لا يتوانى في حوارات أخرى عن إعلاء الجسد الإنساني بوصفه «قبة الروح»، كما يعبر القديس بالاماس، وعن الرؤية إلى العلاقة الجسدية مع المرأة بوصفها شكلاً من أشكال الشعر، وبحثاً رمزياً عن الينبوع الأصلي للتكوين.
وفي حواره الأكثر جرأة مع ابنته نينار يعبر أدونيس عن اعتقاده بعدم قدرة الرجل على أن يمضي حياته مع امرأة واحدة، لأن الجسد الإنساني «بحاجة إلى أجساد كثيرة»، وفق تعبيره الحرفي الذي ينم بشكل موارب عن تعدد مغامراته العاطفية. وهو لا يتحرج في الحوار نفسه من التصريح بأن مؤسسة الزواج باتت مؤسسة نافلة وينبغي إلغاؤها. وإذ يعترف لنينار بأنه لم يكن راغباً في إنجاب الأطفال، يستدرك منعاً لأي لبس بأن الأمر كان عائداً للضائقة المعيشية التي وقعت العائلة تحت وطأتها في سنوات الزواج الأولى، لا لأي سبب آخر. كما يكشف صاحب «المسرح والمرايا» عن شعوره بالندم، لأنه لم يقم بالدور الذي توجب أن يؤديه في رعاية ابنتيه، مشيراً من جهة أخرى إلى أن ذلك التخلي، على سلبيته قد منحهما الكثير من الحرية، وأتاح لشخصيتيهما أن تنضجا بعيداً عن سلطة الأب وتعاليمه وتوجيهاته.
أما من الزاوية المتعلقة بخالدة، فالأمور تتخذ وجهة مغايرة وأكثر جنوحاً إلى التحفظ، حيث لا إشارة إلا لما هو ناصع ومضيء ووردي في حياة الزوجين. ومع أن خالدة تلمح في غير مناسبة إلى ما أحاط بها طفلة من متاعب الحياة وشظف العيش، وهو ما استمرت مفاعيله بعد ارتباطها بأدونيس، إلا أنها لا تكف عن التأكيد بأن ما دفعته على امتداد حياتها من أكلاف لا يقارن أبداً بحصاد عمرها الوفير، أو بإقامتها الطويلة في كنف الرجل الاستثنائي الذي ارتبطت به. وهي في حوارها المطول مع محمد ناصر الدين، تعتبر تلك التجربة «أعظم نِعم الله عليها. ليس فقط بسبب لطف أدونيس ونبله. فإلى جانب ذلك يشعر من يعيش قربه أنه مطالب دائماً بأن يكون بالغ الذكاء، سريع الفهم، واسع الاطلاع، يستبق الأشياء ويتنبأ بمصدر النور». وفي رد مباشر على الذين يزعمون بأن احتضانها المبكر لتجربة أدونيس قد أسهم إلى حد بعيد في تظهير صورته وإعلاء مكانته الأدبية، تقول خالدة في حوار آخر «لم أعط أدونيس ما لم يملكه. فهو ليس مجرد شاعر كبير، بل لطالما كان في مساره الشعري رائياً وملهِماً وشجاعاً. لذلك أرفض القول إنني دفعت به إلى دائرة الضوء، بل أنا التي استضأت به»، ثم تضيف دون تحرج «أحب أدونيس أكثر من روحي، وهذا يكفي».
لم تكن خالدة سعيد أخيراً بعيدة عن منابع الإلهام الشعري الأدونيسي. وإذا كان أدونيس قد أهدى لخالدة عمله المميز «أغاني مهيار الدمشقي»، كتعبير عما يكنه لها من مشاعر الحب، فأغلب الظن أن لها بصمات واضحة في الكثير من قصائده وأعماله، وفي كتابه السير – ذاتي «مفرد بصيغة الجمع» على وجه الخصوص. أما في «تحولات العاشق»، فثم غير قرينة وإشارة تومئان إلى حضور خالدة الطيفي. والواقع أن أدونيس لم يكن يريد عبر هذه القصيدة الفريدة، أن يحتفي بثنائية المرأة/ الرجل فحسب، بل أراد التنويه في الوقت ذاته إلى أن كل علاقة حقيقية بين عاشقين، هي إعادة تأسيس رمزي لأسطورة الخلق. ولأنها كذلك فعليها أن تظل، ولو في كنف الزواج، محمية بلهب الشغف ومغلفة بالأسرار. ولهذا لا أجد ما أختتم به هذه المقالة أفضل من قول أدونيس في أحد مقاطع القصيدة:
« – كيف تزوجتني؟
– كنتُ أسير وحشياً ليس عندي ما أسكن إليه وأرتاح
فنمت نومة واستيقظتُ
وإذا على وسادتي امرأة
وتذكرتُ حواء والضلع الآدمي وعرفتُ أنكِ زوجتي
– وكيف تزوجتِني؟
– كان جسدي هبوباً إليكَ
يتلون بالأرض هبوباً إليكَ
يا فلَك الزمهرير».