يتراءى للذين شغفوا حباً ببيروت أن رحمها هو ميناؤها الذي فُجِّر صيف 2020. إلى هذا الميناء جاء عظماء الأدب والفكر؛ من فلوبير، أهم روائي فرنسي، إلى شولوخوف (هادئاً ينساب الدون السوفياتي)، إلى يفتوشنكو شاعر روسيا، إلى ناظم حكمت شاعر تركيا.
اجتذبت السائحين والفاتحين والمفكرين. دمّرتها الزلازل والحروب. مرة ملكة التسامح، ومرة شريرة الحقد. عند مدخلها الجنوبي منطقة تعرف بالأوزاعي، على اسم الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، إمام بيروت وسائر الشام والأندلس (707 – 774) الذي لعب دوراً تاريخياً في حماية المسيحيين. وهو الدور الذي لعبه الأمير عبد القادر الجزائري عندما لاذ به مسيحيو لبنان الهاربون إلى دمشق.
بيروت الآن في مرحلة من مراحل موتها. وفي ذلك قالت الشاعرة (بالفرنسية) ناديا تويني: «ألف موت وألف قيامة».
المدينة اللعوب هذه كانت منذ الفتح إلى اليوم منبراً ومحراباً من منابر الإسلام. في مراحل كثيرة كانت امتداداً للأزهر، وفي عصور دائمة كانت في حرص وحماية لغة القرآن. وكما في مصر شارك كثير من المسيحيين في حفظ وحراسة لغة التنزيل، وتكنّى كثير من الأدباء والشعراء بأسماء النبوة والصحابة، حيث تضاد الاسم والكنية أحياناً على نحو معبر كما في حال مارون عبود، أبي محمد. وشاعت بين المسيحيين كثيراً أسماء مثل علي وعمر، ناهيك بعبد الله. وفي بيروت برزت معالم العمران الإسلامي، خصوصاً في المساجد القائمة في قلب المدينة. وهذا لا يقلل من أهمية الآثار الإسلامية في طرابلس، التي لا تزال إسلامية الطابع حتى اليوم، والمحافظ منه في صورة خاصة. وفي أحياء وأسواق كثيرة تنسى أنك في لبنان، فأنت في سوق النحاسين كأنك في فاس، أو في سوق البزركان، كأنك في إسطنبول، أو في سوق حراج، القائم من أيام المماليك، ناهيك بالخانات والأبراج والقلاع والحمامات القديمة.
وجدتني مرة في طرابلس قبل سنوات، في مؤتمر ديني عام، بدعوة مشكورة من مفتي سوريا الشيخ أحمد حسون. ولا أعرف كيف بدا مشهد مدني واحد لنحو 200 من المشايخ والعلماء الكرام. أما أنا فاعتبرت المسألة حدثاً مفرحاً لي، وصورة نادرة لرجل أصلع ولا غطاء، مولوداً كان هو أم سعفة واحتراماً لمهابة الموقف. لكنه مشهد من لبنان، في أي حال. إفتاء في الحضور يتحول إلى إجماع.
مدن الإسلام:رياض العمران
A
ارتبطت الرسالة الكبرى منذ بدايات التنزيل الكريم بروح الجماعة. فقد كان مولد خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) في «أم القرى». وإذ خرجت الدعوة من مكة وجوارها، وبلغت يثرب، قام (صلى الله عليه وسلم) بتغيير الاسم فوراً إلى المدينة المنورة لأنها استضاءت بأنوار الهداية. وحيث حل الإسلام حل الجمع بين المسلمين. فالمسجد هو «الجامع» و«يد الله مع الجماعة» والإسلام أمّة «ولا تكون أمَّتي على ضلال».
صارت المدن هي الرموز في الفتوحات وفي العمران معاً. والقدس أولى القبلتين، والقبلة علامة وحدة الأمة.
وحيث ازدهر الإسلام ازدهر العمران والرخاء، وعمّت الكفاية. وتحولت المدن إلى مراكز تجارية ضخمة في خدمة المسلمين. وبعد مكة والمدينة قامت على أرض الجزيرة إحدى أهم العواصم والحواضر في العالم، وتحولت الرياض من مدينة صغيرة تحمل خضرة اسمها في قلب الصحراء، إلى أسطورة عمرانية تضم نحو ستة ملايين نسمة، وبعض أكبر مراكز العلم والأعمال في العالم.
مرت الرياض في اضطرابات عدة عبر التاريخ إلى أن استعادها الملك عبد العزيز في معركة أسطورية من قيام الأمم. ومن ثم دخلت المدينة في عهد أميرها الملك سلمان أطول وأهم مرحلة استقرار وعمران في تاريخ البلدان. ومنذ اللحظة الأولى خاض هذا الجهاد المذهل على جبهتين: الأولى حفظ الرسالة والإرث والتراث، والأخرى بناء دروب المستقبل والتطوير ورعاية الازدهار.
وفي نصف قرن من إمارته جميع الذين عرفوا الرياض قبله لم يعودوا يعرفونها. فلما صار ملكاً، كانت قد أصبحت لملكه عاصمة من أمهات العواصم. ونمت حول تلك المدينة الصغيرة المليئة ببيوت الطوب، مدن كثيرة جعلت منها جسراً رائعاً ما بين عراقة التاريخ ورؤية المستقبل. وفي كل تناغم كانت الرياض تقيم كل عام مهرجان التمور والخيول والهجن، وهي تقيم الآن، برعاية الأمير محمد بن سلمان، مهرجانات الرالي الدولي، والمسرح والسينما، ومعارض الكتب ومهرجانات الثقافة.
ما بين إنجاز الملك ورؤية ولي عهده، تصدرت الرياض صفوف المدن الإسلامية في القارات. وفي رحابتها وازدهارها تجمع المسلمين من كل قطر. وتلمّ شمل العرب. وتشرك البلدان المحتاجة في مواردها. وتتصدى للمفترسين على الحرث والإرث الإسلامي والعربي فالله واحد، والله مع الجماعة.
وكل عام وأنتم بخير.