يبدو أن مواقف السلطات السودانية من قضايا كانت أساسية أصبحت قابلة للتغيير بشكل متسارع ومفاجئ، حتى لو تتطلب ذلك دفع ثمن كبير، وذلك في محاولات الخرطوم لإزالة اسم البلاد من القائمة الأمريكية الخاصة بالدول الراعية للإرهاب، وبدء الانفتاح على الخارج.
فبعد إعلان رغبة المجلس العسكري بالخرطوم التطبيع مع إسرائيل، وإعلان حكومة حمدوك موافقتها على تسليم الرئيس المخلوع عمر البشير لمحكمة الجنايات الدولية، أعلنت وزارة العدل السودانية، الخميس 13 فبراير/شباط، توقيع اتفاقية تسوية مع أسر ضحايا تفجير المدمرة الأمريكية “كول” عام 2000، لاستيفاء شروط إزالة البلاد من قوائم الدول الراعية للإرهاب. فما الذي قدمه السودان حتى الآن في سبيل ذلك، وهل يرضي ذلك واشنطن ويوقفها عند هذا الحد، أم أن الثمن ما زال أكبر من ذلك؟
1- البداية تكون بالتطبيع مع إسرائيل
رغم ما أثاره من جدل وغضب واسع في السودان باعتباره هدم ما كان محظوراً في السابق، كان اللقاء المثير بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان، ورئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو في 3 فبراير/شباط، أولى خطوات إزالة اسم السودان من قوائم الإرهاب وفتح أبواب الحوار مع واشنطن.
فبعد الانتقادات الواسعة، كرر البرهان في عدة تصريحات له تبريرات اللقاء بأنها “لتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني”، وقال: “إنها خطوة ستحمل الخير للسودان، كل همّنا مصلحة السودان. نحن شايفين غيرنا، وحتى أصحاب القضية مستفيدين”، في إشارة إلى علاقات السلطة الفلسطينية مع إسرائيل.
وجاء لقاء البرهان ونتنياهو في وقت يتصاعد فيه الرفض العربي والإسلامي لخطة الرئيس الأمريكي للتسوية في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، “صفقة القرن”.
وتقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن الوصول إلى البيت الأبيض مرهون بإقامة العلاقة مع إسرائيل، فـ “السودان، مثله مثل بقية دول المنطقة، يدرك جيداً قوة الرابطة بين نتنياهو والإدارة الأمريكية الحالية”.
وتضيف الصحيفة في تقرير نشر عقب لقاء البرهان ونتنياهو، أنه “في دولة شبه منبوذة مثل السودان، هناك حاجة ماسة لمساعدة من الغرب؛ لإعادة التأهيل بعد سنوات من الحرب الأهلية. ومن ثم، يُنظَر إلى إسرائيل على أنها قناة أساسية للتواصل مع الولايات المتحدة”.
بحسب محللين، فإن السودان يريد من خلال العلاقات مع إسرائيل، إزالة اسمه من قائمة الإرهاب والعقوبات الأمريكية والخروج من الأزمة الاقتصادية، والعودة للتفاعل مع المجتمع الدولي، كما أن الوضع الاقتصادي في البلاد بات يضع القرار السوداني بين “فكي كماشة الابتزاز والتنازلات المؤلمة”.
2- تسليم البشير للجنايات الدولية
الثلاثاء الماضي، أعلنت الحكومة السودانية اتفاقها مع الحركات المسلحة في إقليم دارفور (غرب)، خلال مفاوضات السلام بجوبا، على تسليم كل المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور، وعلى رأسهم الرئيس السابق عمر البشير.
هذه الموافقة الحكومية، وفق مراقبين، يمكن أن تُقرأ في سياق التحولات التي يشهدها السودان منذ أن عزلت قيادة الجيش، في 11 أبريل/ نيسان الماضي، عمر البشير (1989: 2019) من الرئاسة، تحت ضغط احتجاجات شعبية بدأت أواخر 2018، تنديداً بتردي الأوضاع الاقتصادية، رغم إعلان المجلس العسكري في البداية أن البشير لن يحاكم إلا في السودان ولن يتم تسليمه لأي جهة خارجية، إذ قال البرهان، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إن البشير لن يُسلم إلى المحكمة الدولية، وإن القضاء السوداني لديه القدرة والاستقلالية لمحاسبة كل شخص داخل السودان.
وتخالف التحركات السياسية على مستوى مجلسي “السيادة” والوزراء الانتقاليين، خلال الأيام القليلة الماضية، مواقف ظلت راسخة لعقود في البلد الإفريقي. وهذا هو الإقرار الأول بقابلية تنفيذ الحكومة لأوامر المحكمة الدولية التي ظلت تطالب، لأكثر من 10 سنوات، بتوقيف البشير وثلاثة من أعوانه.
وأصدرت المحكمة أمرين باعتقال البشير، عامي 2009 و2010، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بدارفور. فيما ينفي البشير صحة الاتهامات، ويتهم المحكمة بأنها مُسيسة.
3- طلب الولاية الأممية
بالإضافة لما سبق، جاءت دعوة رئيس الوزراء السوداني حمدوك الأسبوع الماضي، الأمم المتحدة لتخصيص بعثة أممية تحت الفصل السادس “لدعم السلام في البلاد”، مفاجئة ومثيرة للجدل في السودان. ومثلما حدث في مساعي التطبيع مع إسرائيل، قسم طلب حمدوك السودانيين إلى ما بين مؤيد تحاشياً لانتكاس الفترة الانتقالية ورافض خوفاً من انتهاك السيادة الوطنية، بواسطة الولاية الأممية.
ومنذ 2005، يخضع السودان للفصل السابع وفق قرارات مجلس الأمن، الذي يجيز استخدام القوة العسكرية والعقوبات السياسية والاقتصادية ضد البلد المعنيّ أو أي أفراد يهددون الأمن والسلم، فيما يمنح الفصل السادس -الذي تطالب به الحكومة السودانية به- إمكانية تكوين بعثة أممية خاصة لدعم السلام تشمل ولايتها كامل أراضي البلاد، دون أن تشمل قوات عسكرية.
وترفض بعض الأحزاب السودانية، وبينها حزب “الأمة القومي”، طلب الحكومة بالانتقال للفصل السادس باعتباره يتيح مزيداً من التدخل الخارجي في شؤون البلاد، وتريد إلغاء أي ولاية أممية على السودان.
4- تسوية مع أسر ضحايا المدمرة “كول”
آخر الخطوات على طريق الوصول إلى نيل رضا واشنطن، هو ما أعلنه السودان، الخميس، عن توقيع اتفاقية تسوية مع أسر ضحايا حادثة تفجير المدمرة الأمريكية “كول” عام 2000، لإزالة اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وبحسب بيان لوزارة العدل السودانية، فإنه “في إطار جهود الحكومة الانتقالية لإزالة اسم البلاد من القائمة الأمريكية الخاصة بالدول الراعية للإرهاب، تم توقيع اتفاقية تسوية مع أسر وضحايا حادثة تفجير المدمرة الأمريكية كول، التي لا تزال إجراءات التقاضي فيها ضد السودان مستمرة أمام المحاكم الأمريكية”.
مضيفاً أنه “تم التأكيد صراحة في الاتفاقية على عدم مسؤولية الحكومة عن هذه الحادثة أو أي حوادث أخرى”، مشيراً إلى أن “هذه التسوية دخلت حيز التنفيذ انطلاقاً من الحرص على تسوية مزاعم الإرهاب التاريخية التي خلفها النظام المباد، بغرض استيفاء شروط الإدارة الأمريكية لحذف اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب”.
وفي مارس/آذار 2019 قال رئيس وفد الكونغرس الأمريكي إلى السودان، غوس بيليراكس، إن “واشنطن ستتفاوض مع الخرطوم، في المرحلة الثانية من الحوار الثنائي، بشأن دفع تعويضات في ادعاءات وأحكام ضد السودان متعلقة بهجمات إرهابية، بما في ذلك أحكام محكمة أمريكية تتعلق بتفجير السفارتين الأمريكيتين في دار السلام ونيروبي، عام 1989، والهجوم على المدمرة الأمريكية كول عام 2000”.
وقتل في هجوم “كول” قبالة السواحل اليمنية، 17 بحاراً أمريكياً، وأُصيب العشرات، وتقدم المتضررون وذووهم بالدعوى في 2010. ورفعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 أكتوبر/تشرين أول 2017، عقوبات اقتصادية وحظراً تجارياً كان مفروضاً على السودان، منذ 1997. لكنها لم ترفع اسم السودان من قائمة ما تعتبرها “دولاً راعية للإرهاب”، المدرج عليها منذ 1993، لاستضافته الزعيم الراحل لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
تتلألأ قلادات من الذهب السوداني مزخرفة ثقيلة الوزن فوق أكوام من الأساور السميكة المعروضة في نوافذ محال سوق الذهب بالعاصمة السودانية، الخرطوم.
وقد صُنعت هذه المشغولات الذهبية من الذهب السوداني المستخرج من مناجم غنية تمتد عبر جميع أنحاء البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
يجلب بشير عبدولاي، مالك أحد المحال في السوق، قطعة صغيرة من الذهب الخالص بحجم راحة اليد، وهو يشرح كيف ينتقل هذا المعدن الثمين من الترسبات المعدنية إلى الخرطوم، من خلال وسطاء.
الذهب السوداني أصبح في يد ميليشيا الدعم السريع
تحدَّث عبدولاي عن منجم “جبل عامر” للذهب في دارفور، وهو أحد المناجم العديدة المسيطر عليها من جانب قوات الدعم السريع، المجموعة شبه العسكرية التي أصبح قائدها، محمد حمدان دقلو، شخصية محورية حالياً في عملية التحول الديمقراطي في السودان.
يقول عبدولاي: “ثمة الكثير من الأشخاص العاملين هناك، بعضهم يعمل بمفرده، وآخرون يعملون لصالح قوات الدعم السريع.
ويضيف: “كل شخص يمتلك المساحة الخاصة به، وتسيطر قوات الدعم السريع على مساحة كبيرة تنتج الذهب، ثم تبيعه لحسابها الخاص”.
الرجل الذي أنقذ البشير تحول لواحد من أغنى الرجال بالبلاد
سيطرت قوات الدعم السريع على منجم “جبل عامر” للذهب في دارفور عام 2017، ما حوَّل دقلو، الذي لقبه البشير نفسه بـ “حميدتي”، إلى واحد من أغنى رجال السودان.
وتسيطر قوات الدعم السريع أيضاً على ثلاثة مناجم ذهب أخرى على الأقل في أجزاء أخرى من البلاد، مثل جنوب كردفان، ما يجعل حميدتي وقواته أطرافاً فاعلة رئيسية في صناعة تُشكّل النسبة الأكبر من صادرات السودان.
بعد الإطاحة بالديكتاتور السابق عمر البشير في انتفاضة شعبية عام 2019، أصبح حميدتي جزءاً من المجلس العسكري الانتقالي والمجلس السيادي السوداني المنوط به رعاية مسار انتقال السودان إلى الديمقراطية قبل إجراء الانتخابات في عام 2022.
وعلى الرغم من الجهود الحكومية الأولية لاستعادة سيطرة الدولة أو القطاع الخاص على أجزاء من صناعة الذهب السوداني، لا تزال هناك تساؤلات بشأن ما إذا كان السودان يستطيع الانتقال حقاً إلى الديمقراطية في حين تدير قوات الدعم السريع النافذة سياسياً اقتصاداً موازياً لحسابها الخاص.
وعند سؤاله عن كيفية شراء الذهب من قوات الدعم السريع، أشار عبدولاي إلى السقف وأجاب بدون تردد: “تمتلك شركة “الجنيد” للتعدين التابعة لهم مكتباً في الطابق الثاني”.
تعمل شركة “الجنيد” في مجال التعدين والتجارة ولديها صلات عميقة بحميدتي وقواته.
حصة كبيرة من الذهب السودان تستخدم في تمويل عملياتها
تعود ملكية الشركة إلى شقيق حميدتي، عبد الرحيم دقلو، وأبناؤه. وقد أفادت تقارير أنَّ نائب حميدتي، عبد الرحمن البكري، هو المدير العام للشركة.
ووفقاً لإحدى الوثائق، التي حصلت عليها منظمة “”Global Witness، وهي منظمة غير حكومية لمكافحة الفساد، فإنَّ حميدتي نفسه أحد أعضاء مجلس إدارة الشركة.
بعد استعراض الأدلة الخاصة بأنشطة شركة “الجنيد” وقوات الدعم السريع، خلصت
Global Witness إلى أن قوات الدعم السريع وشركة ذات صلة بها قد استحوذا على حصة كبيرة من قطاع الذهب في السودان ومن المرجح استخدامه في تمويل عملياتهم”.
والإمارات تكاد تحتكر تجارة الذهب السوداني
حصلت المنظمة أيضاً على بيانات مصرفية ووثائق تخص الشركة تثبت أن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي تمتلك حساباً بنكياً باسمها في بنك أبوظبي الوطني (الذي أصبح حالياً جزءاً من بنك أبوظبي الأول)، ما يُقدّم دليلاً على الاستقلال المالي لقوات الدعم السريع، وفقاً للمنظمة.
وتُعتبر دولة الإمارات أكبر مستورد للذهب السوداني في العالم. إذ تُظهر بيانات التجارة العالمية لعام 2018 أنها استوردت 99.2% من صادرات البلاد من الذهب.
وكانت الإمارات قد تعاقدت من الباطن أيضاً مع مقاتلي قوات الدعم السريع للقتال في اليمن وليبيا، حيث قدَّمت لهم الأموال.
يشعر المراقبون بالقلق حيال العلاقة بين الذهب السوداني والأثرياء الأجانب وقوات الدعم السريع.
وتعتقد منظمة Global Witness أن “القوة العسكرية والاستقلال المالي لقوات الدعم السريع يُشكّلان تهديداً على عملية الانتقال الديمقراطي السلمية في السودان”.
اكتسب حميدتي، وهو تاجر جمال سابق، هذا اللقب إستناداً إلى لفظ “حمايتي”، بمعنى “الذي يحميني”.
هذه القوات اغتصبت النساء وسط الخرطوم
كان حميدتي الذراع اليمنى للديكتاتور السابق عمر البشير قبل أن يشارك في الانقلاب الذي أطاح به. تشكَّلت قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي من ميليشيا الجنجويد سيئة السمعة الناشطة في دارفور، ووصف تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2015 جنود قوات الدعم السريع بأنَّهم “رجال بلا رحمة” ووجه لهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب.
ووفقاً للتقرير، كان جنود قوات الدعم السريع مسؤولين عن “انتهاكات جسيمة ضد المدنيين في دارفور، من بينها عمليات تعذيب، وقتل خارج نطاق القضاء، واغتصاب جماعي، فضلاً عن النزوح القسري لمجتمعات بأكملها وتدمير الآبار ومخازن الأغذية وغيرها من المرافق الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة في بيئة صحراوية قاسية”.
في شهر يونيو/حزيران الماضي، اتُّهمت قوات الدعم السريع بمهاجمة المحتجين السلميين لتفريق اعتصام في الخرطوم للمطالبة بتسليم حكم البلاد إلى سلطة مدنية.
قال متظاهرون ومراقبون إنَّ قوات الدعم السريع جلبت الأساليب العنيفة، التي مارستها في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، إلى العاصمة، حيث قتلت ما لا يقل عن 104 مدنيين من خلال إطلاق النيران أو الطعن أو الحرق أو سحق جماجمهم وإلقاء الجثث في النيل، بالإضافة إلى اغتصاب ما لا يقل عن 70 رجل وامرأة.
من جانبها، نفت قوات الدعم السريع باستمرار تورطها في ذلك. ولا يزال التحقيق جارياً.
والبعض يراه بطل الأقليات
يقول الناشط الحقوقي منتصر إبراهيم، الذي يعمل حالياً مستشاراً غير رسمي لحقوق الإنسان لدى قوات الدعم السريع، إن “حميدتي يفهم جيداً المرحلة الانتقالية في السودان. وكان هذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى التعامل معه”.
تعرّض إبراهيم لانتقادات من بعض نشطاء حقوق الإنسان بسبب دوره الجديد مع حميدتي وقواته، لكنه ينظر إلى جنود قوات الدعم السريع باعتبارهم أبطال حقوق الأقليات، وإلى حميدتي باعتباره تحدياً في مواجهة النخب السياسية.
يرفض إبراهيم أيضاً أي أقاويل عن تورط قوات حميدتي في ارتكاب أعمال عنف ضد المحتجين. ويصف الاتهامات الموجهة ضد حميدتي وقواته بارتكاب جرائم حرب بأنَّها “دعاية معادية”، قائلاً إنَّ “حميدتي شخص ثوري”.
عند صعود الدرج والوصول إلى مكتبي شركة “الجنيد” للتعدين في سوق الذهب بالخرطوم، استقبلنا رجل، رفض مراراً ذكر اسمه، وأحال إجابات جميع الأسئلة المتعلقة بالشركة إلى البنك المركزي، ثم فتح باب المكتب ليشير إلى رفضه مزيد من النقاش حول هذا الموضوع.
استبعاد الشركات المحسوبة على النظام السابق
بدأت السلطات السودانية محاولات لإصلاح تجارة الذهب من خلال حل شركات التعدين المتورطة في تعاملات مع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق. يسمح السودان حالياً لتجار القطاع الخاص بتصدير الذهب شريطة إبقاء 30% من متبقي الإنتاج في البنك المركزي.
قال مسؤول من وزارة الطاقة والتعدين السودانية، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول له إطلاع وسائل الإعلام، إنَّ ثمة رقابة وفحوص إضافية قيد التنفيذ لفرز الشركات المرتبطة بالنظام السابق واستبعادها.
وأضاف أن “مسؤولي الشركات اعتادوا عدم الاكتراث كثيراً بما إذا كانت شركاتهم تتبع القواعد أم لا. لكن حالياً، حتى لو جاء رئيس المجلس العسكري الانتقالي بنفسه، فعليه الالتزام بالقواعد”.
ويشير محمد التبيدي، تاجر ذهب في الخرطوم، إلى أن قوانين تجارة الذهب الجديدة بعيدة كل البعد عن تلك التي كانت في عهد الحكومة السابقة، التي أجبرت التجار على شراء الذهب من أجهزة الأمن السودانية أو مواجهة الاعتقال. ويقول: “إنه سوق حر الآن”.
يشعر التبيدي بالتفاؤل إزاء ما يمكن أن تحققه التجارة الحرة وسط سوق سوداء قوية وتضخم متصاعد يجعل الحياة اليومية كفاحاً مريراً بالنسبة لكثيرين. بالقرب من المركز التجاري المُتَلألئ الذي يعمل فيه التبيدي، يجلس مجموعة رجال في موقف للسيارات يمسكون رزم من الجنيهات السودانية لتداولها.
يُعتبر سعر الصرف الرسمي البالغ 25 جنيهاً سودانياً للدولار متقادم للغاية مقارنةً بسعر التداول في السوق السوداء البالغ 75، وربما حتى 80 جنيهاً سودانياً للدولار.
وبقيت الشركة التابعة لحميدتي
يوضح التبيدي أنه في الوقت الذي فقدت فيه شركات الذهب المرتبطة بأجهزة الأمن الأخرى صلاحيتها ونفوذها بسبب الإصلاح، ظلت صلاحيات شركة “الجنيد” على حالها.
ويقول: “لا توجد شركة مماثلة لشركة “الجنيد” حتى الآن”، مضيفاً أن ” القانون يشهد تغيرات مستمرة، والأمر يعود إلى السلطات فيما يتعلق باستمرار تلك الشركة”.
وتابع: “إذا فُتح باب التصدير للتجار، ربما لن تستطيع “الجنيد” الصمود. لكن إذا توصلوا إلى اتفاق مع وزارة المالية، يمكنها المضي قدماً”.
واستطرد قائلاً إن “حميدتي يشغل حالياً منصب نائب رئيس المجلس السيادي، لذا ثمة بعض الأشياء لا أستطيع التحدث بشأنها”.
أعلنت قوات الدعم السريع في ديسمبر/كانون الأول 2019 أنها ستسلم السيطرة على منجم جبل عامر إلى الحكومة.
لكن لا يزال من غير المعروف تحديداً مَن سيحصد الأرباح، بالنظر إلى حالة الضبابية وانعدام الشفافية في مجال صناعة الذهب بالسودان، بالإضافة إلى صعوبات السيطرة على سلاسل التوريد التي تعاني من التهريب والمواقع النائية التي تسيطر عليها الميليشيا. لا يوجد أيضاً تدابير قانونية كافية قائمة بالفعل تضمن منع قوات الدعم السريع وشركة “الجنيد” من تنفيذ عمليات غير قانونية.
من جانبه، انتقد ريتشارد كينت من منظمة Global Witness ما أعلنته قوات الدعم السريع، قائلاً “نحن نرحب بالتطور لأنه سيكون مفيداً جداً للشعب السوداني وصناعة الذهب، لكنه لا يزال من غير الواضح ما يعنيه هذا الإدعاء بالضبط.
هل سيعني التخلّي عن امتيازات “الجنيد”، وإعادة فرض نوع من الإدارة المدنية أو التقليدية، وإذا كان الأمر كذلك، كيف ستعمل هذه الإدارة، هل سَتُعيّن بشكل مستقل من جانب الحكومة المدنية؟”.
لماذا يقبل الحراك والحكومة التي يفترض أنها ثورية بهذا الوضع؟
يوفر تحقيق الانتقال السياسي في السودان الأدوات اللازمة لتحويل مسار الصناعة الأكثر ربحاً في السودان، وتطهير الوزارات وسلسلة التوريد. ومع ذلك، لا يزال هناك طريق طويل قبل أن تبلغ صناعة الذهب السودانية المعايير، التي وضعتها هيئات المراقبة الدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
في هذا الصدد، يقول كِنت: “لابد أن تتسم هذه العملية الانتقالية بالشفافية على النحو المطلوب. لم تُظهر قوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى -بدرجة أقل- مستوى الشفافية المطلوب في مجالات أخرى لأعمالها حتى الآن.
وأضاف: “في الواقع، لا يزال هناك الكثير من الأفراد مرتبطين بأجهزة استخبارات تخترق جميع الوزارات. وما دام جهاز المخابرات العامة وقوات الدعم السريع يسيطران على موارد طبيعية ومؤسسات حاكمة، من الصعب للغاية رؤية كيف ستكون صناعة الذهب قادرة على تطبيق المعايير المقبولة دولياً، التي تحتاج إليها لتحسين مناخ الاستثمار وجذب مزيد من الاستثمارات”.
يقول الناشط الحقوقي منتصر إبراهيم، مستشار قوات الدعم السريع، وهو يحتسي الشاي خارج المركز الثقافي الفرنسي، حيث يحضر دروساً: “تبدو قوات الدعم السريع مثل قوة متمردة لكننا بحاجة إلى استخدامها لتغيير الوضع السياسي في السودان”.
يُلمح دور إبراهيم إلى وجود اتجاه نحو الإصلاح والتغيير لقوات الدعم السريع. وبينما يشعر إبراهيم بقلق بالغ إزاء إساءة فهمه، فإنه يرفض القول ما إذا كان يتقاضى أجراً وما تتطلبه مهام وظيفته بالفعل أو ما إذا كان يعتقد أن قوات الدعم السريع تصغى لحديثه عن حقوق الإنسان.
يقول إبراهيم إن “حميدتي يؤمن بالثورة، أعلم أنك قد تُصدم من سماع ذلك”.
كيف تجتمع الديمقراطية والفساد؟
ويؤكد الناشط الحقوقي أن السبيل الوحيد للمضي قدماً في انتقال السودان إلى الحكم الديمقراطي هو التعاون بين المجتمع المدني وقطاع الأمن، الذي يعتقد أنه جزء من الحل وليس المشكلة، قائلاً: “لا يمكن فصل قطاع الأمن في السودان عن العملية السياسية. هذا لا يتعارض مع مفهوم الديمقراطية”.
عمل منتصر إبراهيم مستشاراً سياسياً سابقاً لحركة تحرير السودان، ثم أصبح ناشطاً لحقوق السجناء خلال نظام البشير. ويرى أنَّ دوره الأخير مع حميدتي وقواته تتويجاً لرحلته الطويلة في السياسة السودانية. إذ أنشأ منظمة داخل قوات الدعم السريع تهدف إلى توفير التدريب “للمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني”. لكن عندما سئل ما إذا كانت تلك المنظمة توفر التدريب لقوات الدعم السريع نفسها، أجاب “لا”.
على الجانب الآخر، أعرب الدكتور مهند حامد، المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين -وهو رابطة تضم قطاعات العمال والمهنيين قادت الاحتجاجات الجماهيرية التي أدت إلى الإطاحة بالبشير- عن ثقته في أن قوات الدعم السريع لا تشكّل تهديداً على مسار السودان نحو الديمقراطية أو المصالح الاقتصادية.
يقول حامد إن “حميدتي خطير ليس لأنه واحد من أغنى الرجال في السودان، بل لأنه يمتلك ميليشيا وجيشاً مستقلاً عن الجيش السوداني -هنا مكمن الخطورة”. وأضاف: “يُعد الاقتصاد بالطبع أحد الشواغل الرئيسية، لكن السلام أيضاً يُمثّل شاغلاً رئيسياً”.
يؤكد حامد ثقته بأن حميدتي وثروة قوات الدعم السريع لن يمثلوا مشكلة، شريطة أن تخضع أعمالهم التجارية في نهاية المطاف لسيطرة الدولة.
ويقول: “مضت أربعة أشهر منذ بداية الفترة الانتقالية. هذه المرحلة ستستغرق سنوات. فإذا نجحنا في إعادة جميع الأموال إلى وزارة المالية في نهاية الثلاث سنوات، سيكون ذلك رائعاً. ما زلنا ننتظر”.
ظهر ممثلون آخرون عن تجمع المهنيين السودانيين، مثل الدكتورة بتول الطيب، غير مبالين بقوات الدعم السريع. إذ يعتقد تجمع المهنيين السودانيين أن سلطة الشعب تستطيع تطويق قوة قوات الدعم السريع وردعها، لاسيما بعد تنظيم المتظاهرين لمظاهرة حاشدة ضد قوات الدعم السريع والجيش في أعقاب مذبحة الخرطوم.
تقول بتول بهدوء: “لقد فعلنا ذلك من قبل وسنفعله مُجدَّداً”، مضيفة إنَّ “المجلس السيادي يتضمن قوات الدعم السريع لأنَّهم يعرفون أنَّ تحقيق السلام هو مفتاح رفاه وازدهار السودان قبل تطوير الاقتصاد.
وتابعت: “الديمقراطية قادمة في الطريق -فهي عملية وليست مجرد نتيجة”.