تردَّد صوت روني فروهليش في جميع أنحاء الغرف الفارغة وهو يمشي في مكتب شركته الجديدة في الرياض. كان رجل الأعمال الألماني قد أوصل للتو شبكة الإنترنت للمكان، لكنه كان يتخيل بالفعل المكان باعتباره المقر المستقبلي الصاخب بالعمل لشركة “غولدن سنت” Golden Scent، وهي شركة للتجارة الإلكترونية مقرها في دبي، شارك في تأسيسها مع صديق سعودي قبل خمس سنوات. الخطوة التالية كانت نقل الموظفين من دبي، وتوظيف المزيد في العاصمة السعودية.
كان فروهليش يقول لوكالة Bloomberg الأمريكية: “إذا أردت أن تكون أعمالك كبيرة في الشرق الأوسط، يجب عليك أن تكون في السعودية. ربما خلال ستة أشهر من الآن، سنقف في هذا المكان وهو ممتلئ”.
يعكس العدد المتزايد للشركات الناشئة في الرياض منافسةً غير معلنة بين حليفين خليجيين يستعدان لتكثيف نطاق الأعمال هذا العام، وهو ما ينطوي على إعادة تنظيم لاقتصاديات منطقة تسعى جاهدةً لتقليص اعتمادها على النفط.
دبي لديها ما تراهن عليه، والرياض كذلك
تراهن دبي على انتعاش جديد لاقتصادها في معرض “إكسبو دبي 2020″، وهو عرض مدته ستة أشهر للابتكارات العالمية، ومن المتوقع أن يجذب نحو 25 مليون زائر، في ظل استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية. إنها أيضاً سنة كبيرة للسعودية التي تتولى رئاسة مجموعة العشرين المكونة من الاقتصاديات الكبرى في العالم، وتخطط لسلسلة من الفعاليات للترويج وتعزيز تحولها المتسارع على نحو مذهل.
حتى وقت قريب، كانت دبي المكان المناسب للشركات الناشئة في الشرق الأوسط مثل غولدن سنت، التي تبيع العطور ومستحضرات التجميل. أقامت المدينة الجذابة الواقعة في الإمارات سمعتها على أساس من كونها مركزاً للعمل الحر في منطقة تسدّ البيروقراطية أفقها.
السعودية تصارع لاستعادة الأعمال التجارية
حتى إن الشركات التي كانت تركز على نحو أكبر بكثير على السوق السعودي كهدفٍ لها تمركزت في دبي، رفضاً لقواعد الاستثمار التقييدية أو الشرطة الدينية التي كانت تجوب الشوارع.
ولكن كلما مضى ولي العهد محمد بن سلمان قدماً في إعادة تشكيل السعودية، أخذ كل هذا في التغيّر. وخلال بضع سنوات فقط، انفتحت المملكة الإسلامية على السائحين لأول مرة، وخففت القيود المفروضة على النساء على نحو مؤثر، وفتحت أبوابها أمام دور السينما والزائرين المبهورين بمواكب الطهاة العالميين، والحفلات الموسيقية والعروض الرياضية.
يأتي كل ذلك، في الوقت الذي تصارع فيه المملكة لاستعادة الأعمال التجارية التي خسرتها لصالح دول خليجية أخرى على مر السنين.
قبل خمس سنوات، كافح عبدالله التمامي، وهو رجل أعمال سعودي رأسمالي ورئيس مجلس إدارة منصة الدفع الإلكتروني “هايبر باي”، لتأسيس أعمال تجارية في بلده الأم. اليوم، يقول التمامي إنه يرى عملاقاً نائماً يستيقظ.
يقول رجل الأعمال البالغ من العمر 34 عاماً: “أنا لا أستثمر الآن في أي شركة إقليمية لا تركز أعمالها على السعودية”.
لكن المملكة ستواجه وقتاً طويلاً لتحسين سمعتها
لا أحد ينكر أنه لا يزال هناك طريق طويل لقطعه. فقد تزامن التحول في السعودية مع قمع للمعارضة السياسية، وهو أمر لا يمكن التسامح معه إلى حد كبير في الولايات المتحدة. كما أن البلاد وُصمت في نظر بعض المستثمرين بسياسة خارجية كانت أكثر عدوانية وغير قابلة للتنبؤ بها في عهد الأمير محمد. وقد وجهت جريمة قتل جمال خاشقجي، الذي كان كاتب عمود بصحيفة The Washington Post الأمريكية، ضربةً لسمعة السعودية لم تتجاوز البلاد آثارها بعد.
إلى جانب ذلك، فإن الصعوبات اليومية ما زالت قائمة. فالعمال الأجانب في السعودية يتعين عليهم طلب “تأشيرات خروج” من أصحاب العمل لمغادرة البلاد، حتى ولو في عطلة نهاية الأسبوع. وفي حين أن القيود المفروضة على الترفيه قد خفت حدتها، فإنها ما زالت لا تقارن بدبي، ولا تزال التقاليد العامة للملابس تعيق الكثير من النساء الأجنبيات للعمل في السعودية. ومن ثم، فإن الأمر يتطلب “عروضاً سخية لجذب المواهب”، تقول بلومبيرغ.
لكن، ومع ذلك، فإن الناس يأتون، وليس فقط إن رجال الأعمال السعوديين يعودون إلى بلادهم. في العام الماضي، خططت شركة نرويجية لإقامة مزرعة لسمك السلمون بقيمة 90 مليون دولار في الولايات المتحدة. لكنها قررت بعد ذلك أن يكون مقرها في السعودية بدلاً من ذلك. ومع أن سكان الإمارات يستهلكون كميات أكبر من سمك السلمون الآن، فإن السعودية تنتظر نمواً مستقبلياً، في ظل ترويج الحكومة للأسماك بوصفها خياراً صحياً.
سباق العقارات والناطحات
تشير شركة “مايكل بيج”، وهي وكالة توظيف دولية، إلى حدوث طفرة في المديرين التنفيذيين، وخاصة في قطاع العقارات، ممن يتطلعون إلى الانتقال إلى السعودية التي أخذت تكشف عن مشاريع لمدنٍ جديدة بأكملها يمكن حتى أن تتفوق على الإنجازات الهائلة حالياً، مثل ناطحة سحاب برج خليفة، التي جعلتها دبي علامة عليها.
يقول توم واتسون، وهو أحد الشركاء في مكتب وكالة “مايكل بيج” بالشرق الأوسط، إنه “خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، رأينا عديداً من القادة البارزين في قطاع العقارات ينتقلون من جميع أنحاء العالم، متطلعين إلى المشاركة في مشاريع جيجا (المشروعات العملاقة)”.
وهذه ضريبة الفرق الهائل في حجم السوق بين دبي والسعودية. فالسعودية يبلغ عدد سكانها 34 مليون نسمة، أي ثلاثة أضعاف عدد سكان الإمارات، وهو ما يجعلها أكبر سوق في الخليج بفرق بعيد. ومن ثم فحتى لو نجح الأمير محمد في تحقيق ولو جزء من رؤيته الخاصة بتحويل البلاد، فإن ذلك سيكون له آثار في الدول المجاورة التي استفادت لفترة طويلة من كون السعودية سوقاً مغلقاً.
كانت جزيرة البحرين المرتبطة بساحل الخليج في السعودية بواسطة جسر مقصداً لقضاء عطلة نهاية الأسبوع للسعوديين والمديرين التنفيذيين الأجانب الذين يتطلعون لمشاهدة فيلم في السينما أو حضور حفلة موسيقية. أمَّا الآن ومع كل ما بات متاحاً في الداخل السعودي، فإن الاقتصاد البحريني بدأ يشعر بضائقة. وفي الإمارات، دفع انخفاض أسعار النفط وركود سوق العقارات السلطات إلى إعادة النظر في قواعد الإقامة، لتشجيع عدد كبير من المغتربين على البقاء في ظل هذه الأوقات الصعبة.
هل ستفقد دبي مكانتها؟
حلّت السعودية من بين الدول العشر الأكثر تحسناً في تقرير “ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي لعام 2020″، بعد أن يسرت البلاد من عملية إنشاء الشركات والحصول على التصاريح والطاقة والقروض، وشددت ضمانات إنفاذ العقود. وعلى الرغم من أن الإمارات تأتي في المرتبة 16 في التقرير، وفي صدارة دول المنطقة، فإن الفجوة أخذت تضيق شيئاً فشيئاً.
ويذهب ستيفن هيرتوغ، الخبير في الشؤون الخليجية والأستاذ بكلية لندن للاقتصاد، إلى أنه “من المؤكد أن هناك قلقاً حيال انفتاح السعودية في دبي. ومع ذلك فأنا لا أعتقد أن دبي ستفقد مكانتها كمركز رئيسي للأعمال في المنطقة في أي وقت قريب، وذلك بالنظر إلى تقدمها الكبير”.
لكنه استدرك، ليضيف: “ومع ذلك، فمن المرجح أن تنتقل على الأقل الأعمال التي تركز على السعودية، إلى السعودية، بعد أن تصبح الحياة الاجتماعية والظروف البيروقراطية أحسن وضعاً هناك”.
هذا ما حدث مع المؤسس السعودي لشركة غولدن سنت، مالك شهاب. فقد سبق أن حاول شهاب هو وفروهليش في عام 2014 تأسيسَ شركتهما في المملكة التي لطالما رأوا أنها تمثل سوقهم المحلي. ولكن كان من الصعب العثور على مستثمرين سعوديين، وكانت السعودية في ذلك الوقت تفرض قيوداً مشددة على الاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، فإن شهاب يقول إن هذه القواعد تغيرت الآن، ومن ثم كان من المنطقي العودة إلى الوطن.
وقد أسهمت التدابير الاجتماعية في هذا التحول أيضاً، إذ يستعد شهاب لنقل عائلته من دبي إلى الرياض.
فوز متبادل للطرفين؟
في وقت مبكر، نظر ولي العهد محمد بن سلمان إلى دبي على أنها مدينة مبنية على خلفية نقاط الضعف الموجودة في السعودية، فهي توفر موطناً للشركات السعودية المدفوعة إلى الخارج. ومن ثم تخيل مشروعه المستقبلي “نيوم”، وهي مدينة تبلغ تكلفة إنشائها 500 مليار دولار ويجري بناؤها من الصفر، لتصبح مركزاً عالمياً أكبر من دبي.
ومع ذلك، رفض ولي العهد السعودي في مقابلة أُجريت معه في عام 2017 الحديثَ عن تنافس بين البلدين. وقال: “لا أعتقد أن هونغ كونغ أضرت بسنغافورة، أو أن سنغافورة أضرت بهونغ كونغ. بل يخلق البلدان طلباً جيداً وإقبالاً على بعضهما”.
يقول عدد من المسؤولين التنفيذيين إن صعودَ سعودية جديدةٍ، والأسواق الجديدة التي ستفتحها، يمكن أن يعزز في النهاية الدول الصغيرة المنتشرة على طول ساحلها في الخليج. وهذا هو الخط الذي اتخذه مسؤولو دبي، فقد اعتبروا التحول السعودي بمثابة فوز متبادل لكلا البلدين.
ويقول فادي غندور، الرئيس التنفيذي لشركة “ومضة كابيتال” الشرق الأوسط ومقرها دبي، إن “هذه ليست قصة إما هذا وإما ذاك، وإنما هي قصة تمازج. فدولة الإمارات والمملكة العربية السعودية شريكان متكاملان”.
أمَّا فروهليش في شركة غولدن سنت، فسيُبقي على شقة دبي. لكنه يبحث الآن عن مكان في الرياض أيضاً.