كانت الإذاعة أصوات بلا وجوه. يكفي أن يكون الصوت جميلاً في الغناء وجذاباً في الخطاب. ولطالما «عشقت الأذن قبل العين أحياناً». بدأت «إذاعة بريطانيا» من فلسطين. ثم تحوّلت إلى «إذاعة الشرق الأدنى» بوصفها مستقلة أو تتمتع بأكبر نسبة من الاستقلال، عن أصحابها. ومن يافا والقدس أدار الإذاعة فلسطينيون مَهَرَة من كبار الرواد والمهنيين. لكن وقوع العدوان الثلاثي على مصر لعام 1956 حمل جميع العاملين على الاستقالة. ومن دون قصد كانت تلك لحظة تحوّل هائل في الصناعة الجديدة. فقد توزع المستقيلون بين إذاعات الخليج والأردن ولبنان يحوّلونها من إذاعات حرفيّة صغيرة إلى إذاعات عابرة للحدود وللأثير. جاؤوا مذيعين ومذيعات ومجددين في المنوعات، ومديرين أكْفَاء من طراز رشاد البيبي، وصبحي الدجاني، وكامل قسطندي، وصبحي أبو لغد، وصوت ذهبي نادر مثل ناهدة فضل الدجاني. وعلّم صبري الشريف اللبنانيين فن التوزيع الموسيقي، كما لعب الدور الأصم في تطوير أعمال الرحابنة. وكان العالم الموسيقي الآخر، حليم الرومي، هو مَن اكتشف فتاة الكورس الخجول، نهاد حداد، وأعطاها اسم فيروز.
لا شك أن الفضل الأول في تطوير صناعة الأثير كان للفلسطينيين. وفيما جاءت الفرقة الأولى من «صوت بريطانيا» برز حدث مهم آخر عندما جاء نبيل خوري من «صوت أميركا» لكي يصبح المدير العام المجدد في الإذاعة اللبنانية. وكان طبيعياً أن تظهر حساسيات كثيرة، لكنها تلاشت أمام الطاقات المهنية الكبرى، كما ضعفت أمام رغبة الرئيس فؤاد شهاب في تحديث الإعلام.
عاب التحديث عن الأنظمة الآيديولوجية مثل سوريا والعراق، بعدما كان العمل الإذاعي فيهما ممتازاً. بل كانت إذاعة دمشق أول من أطلق فيروز إلى الشهرة. مع وصول «البعث» تحولت إذاعتا البلدين إلى الأناشيد و«البلاغ الرقم واحد» الذي يبلغ الجماهير دفن العهد البائد وظهور عهد الأمل. وتبلغت الناس تفاصيل حفلات الإعدام وتعليق الخونة. الواقع أن البلاغ الأول سبق وصول «البعث» العام 1963. كان صاحبه الزعيم (العقيد) حسني الزعيم، صباح 30 مارس (آذار) 1949. النص:
«بلاغ رقم 1
مدفوعين بغيرتنا الوطنية، ومتألمين لما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسف من يدّعون أنهم حكامنا المخلصون، لجأنا مضطرين إلى تسلم زمام الحكم مؤقتاً في البلاد التي نحرص على المحافظة على استقلالها كل الحرص. وسنقوم بكل ما يترتب علينا نحو وطننا العزيز، غير طامحين إلى تسلم الحكم، بل القصد من عملنا هو تهيئة حكم ديمقراطي صحيح، يحل محل الحكم الحالي المزيف – القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة».
زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان من نوع السياسات الأميركية التي تجعلك تحكُّ رأسَك حيرة وأنت تحاول تحليلها وفهمها. خلقت أزمة خطيرة في وقت لا يحتاج العالم إلى المزيد من الأزمات والتوترات. فإذا كانت حرب أوكرانيا قد أربكت العالمَ بهذا الشكل، فما بالك بحرب في تايوان، ومواجهة بين أميركا والصين، أو بعبارة أخرى بين الغرب من ناحية والصين وروسيا من ناحية أخرى.
زيارة بيلوسي فكرة سيئة في التوقيت، وفي الإخراج، وفي النتائج. حتى في الغرب صنفها كثير من المحللين أنَّها من «أخطر لحظات التوترات منذ عقود»، سواء بالنسبة لتايوان، أو للعلاقات الأميركية – الصينية التي تتردَّى بسرعة كبيرة. صحيفة «نيويورك تايمز» تساءلت عما إذا كانت الزيارة ستصبح الشرارة التي تشعل المواجهة بين الولايات المتحدة والصين. أما في لندن فقد وصفتها صحيفة «فاينانشيال تايمز» بالفكرة السيئة، في حين قالت مجلة «الإيكونوميست» إنَّها تسلط الضوء على استراتيجية أميركا غير المترابطة والفوضى في سياسات إدارة بايدن.
ما الفائدة من استفزاز الصين الآن بينما أميركا ذاتها مشغولة بحرب أوكرانيا والتوتر الخطير مع روسيا؟ ولماذا اختارت بيلوسي هذا التوقيت لزيارة من الصعب تحديد مكاسب واضحة منها، ومن السهل رؤية مخاطرها؟
من المستبعد أن تكون الزيارة لأسباب انتخابية قبيل الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي التي ستجرى في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، لأنَّ هموم الناخب الأميركي في هذه الانتخابات داخلية واقتصادية، أكثر ممَّا هي في الصين والسياسات الخارجية. اللهم إلا إذا كانت بيلوسي تتوقَّع مثل أغلب المحللين أن تقلب هذه الانتخابات الموازين في الكونغرس لمصلحة الجمهوريين، ما قد يؤدي لخسارة الديمقراطيين رئاسة مجلس النواب، وبيلوسي تريد أن تزور تايوان بصفتها رئيسة للمجلس حتى يكون للزيارة وقع أكبر، وحتى تختم فترتها في المنصب بخطوة ستذكر كثيراً لاحقاً بشكل أو بآخر.
فالزيارة هي الأولى التي يقوم بها رئيس لمجلس النواب الأميركي إلى تايوان منذ ربع قرن، أي منذ الزيارة التي قام بها رئيس آخر لمجلس النواب هو الجمهوري نيوت غينغريتش عام 1997، وأثارت أيضاً جدلاً واهتماماً، وما تزال تذكر حتى اليوم في تاريخ التوترات بشأن تايوان.
الحسابات الانتخابية قد تكون أهم للرئيس الصيني شي جينبينغ، لأنَّه يسعى للترشح لولاية جديدة في المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي المقرر قبيل نهاية العام. ويواجه شي تحديات داخلية تتمثل في تباطؤ الاقتصاد، وتبعات القيود المشددة بسبب جائحة كورونا، وآخر ما يريده الآن أن يبدو متردداً في مواجهة ما تراه بكين استفزازاً أميركياً بشأن تايوان وتحدياً لسياسة الصين الموحدة. لذلك جاء الرد الصيني غاضباً ومتوعداً بأن «جيش الشعب» لن يقف مكتوف الأيدي، وذلك بعدما كان شي قد أبلغ بايدن بأنَّ أميركا تلعب بالنار إذا حاولت انتهاك سياسة «الصين الواحدة».
الزيارة مثَّلت أيضاً استفزازاً للقيادة الصينية التي ظلَّت في الآونة الأخيرة تتبنى مواقف أكثر تشدداً إزاء تايوان التي تتمسك بأنَّها جزء منها، وأنَّ تحقيق الصين الواحدة «مهمة تاريخية والتزام لا يتزعزع من جانب الحزب الشيوعي الصيني»، وأمر لا يمكن الاستمرار في تأجيله وتركه «ينتقل من جيل إلى جيل».
والسؤال إلى أين سيمضي شي الآن في مواجهة الأزمة التي أثارتها زيارة بيلوسي؟ هل سيكتفي برد عسكري رمزي، أم يغامر بخطوة أكبر توسع الأزمة وترفع خطر مواجهة عسكرية من شأنها أن تضع الصين في مواجهة محتملة مع أميركا؟
في منتصف 1995، أعربت بكين عن غضبها من زيارة غير رسمية إلى الولايات المتحدة قام بها الرئيس التايواني السابق لي تنغ هوي بإطلاق صواريخ في البحر بالقرب من الجزيرة، لكن التوتر استمر بضعة أشهر قبل أن تقرر الصين التهدئة مفضلة سياسة النفس الطويل، لكي تركز على تنميتها الاقتصادية. لكن ذلك كان قبل 27 سنة.
الصين اليوم هي غير الصين أمس، وأي مواجهة بينها وأميركا حول تايوان، أو أي أزمة أخرى ستجرّ العالم إلى كارثة حقيقية بكل معنى الكلمة. الصين اليوم أكثر قوة وثقة، ولم تعد تنافس أميركا على الريادة الاقتصادية والقوة العسكرية فحسب، بل صارت تفرد عضلاتها وتمد نفوذها حول العالم. لذلك جاء الرد على زيارة بيلوسي بعرض كبير للقوة، إذ أعلنت بكين عن مناورات تستمر أربعة أيام بالذخيرة الحية براً وجواً وبحراً، وإغلاق منطقة كبيرة تصل إلى خط التماس مع تايوان، وإجراءات بوقف تصدير واستيراد سلع مع الجزيرة، وتأكيد سياستها لإعادة توحيد الصين.
وعلى الرغم من أنَّ إدارة بايدن حاولت التقليل من الزيارة، ودعت إلى عدم تحويلها إلى أزمة قائلة إنَّ سياستها إزاء تايوان لم تتغير، فإنَّ ذلك لم يخفف من حدة التوتر. فالصين لا تبدو مقتنعة بأنَّ زيارة بيلوسي تمَّت في تحدٍ للبيت الأبيض، ومن غير أي تنسيق ولو بشكل غير رسمي. فالإدارة ديمقراطية، ورئاسة مجلس النواب ديمقراطية، ومن الصعب استيعاب أن تكون بيلوسي تريد إحراج إدارة بايدن. صحيح أن رئيسة مجلس النواب (82 عاماً) محسوبة على جناح الصقور في مواقفها من الصين، ولكن بايدن أيضاً ليس من جناح الحمائم في هذا الشأن، والإدارة كلها تضع الصين نصب عينيها كأكبر تهديد لأميركا ومصالحها ومركزها الريادي في العالم. كل هذا جعل الصين تنظر إلى تباين المواقف المعلن إزاء الزيارة بين بيلوسي والبيت الأبيض على أنه تبادل أدوار ليس إلا.
وفي هذا الصدد أشارت بكين في تعليقاتها إلى أنَّ واشنطن استبقت زيارة بيلوسي بإرسال المزيد من السفن الحربية والطائرات، وبوضع قواتها في المنطقة في حالة تأهب. وكل هذا يحدث في ظلّ وجود عسكري أميركي متزايد، في وقت لا تخفي واشنطن أنَّها تعيد ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، وتركز اهتمامها على الصين ومنطقة المحيط الهادي.
هناك جهات تراهن على أنَّ الرد الصيني سيكون محدوداً لأنَّ شي لا يريد المخاطرة بخطوات تهزّ الاقتصاد الصيني أكثر في وقت لم يتعافَ فيه بعد من تداعيات جائحة كورونا. هذا الأمر وارد، ولكنَّه لا يعني أنه يجب التقليل من حدة الأزمة التي أثارتها الزيارة، والاستفزاز الذي شكلته للقيادة الصينية في وقت يستعد فيه شي لمؤتمر الحزب الشيوعي ويطمح في ولاية ثالثة. فالمرجح أنَّ الردَّ الصيني هذه المرة قد يستمر لفترة أطول مما حدث في الأزمات السابقة، وهو ما سيختبر واشنطن وسياستها، وفي الوقت ذاته يزيد من مخاطر أي خطوات غير محسوبة.
بيلوسي ربما نجحت في كسب الأضواء لجولتها، وسجلت نقاطاً تضيفها إلى رصيد فترة رئاستها لمجلس النواب، لكن الزيارة سينظر إليها أيضاً على أنَّها كانت عملاً استعراضياً، أغضب بكين من دون أن يحسّن أمن تايوان، وأحرج إدارة بايدن، وكشف مشاكل واضطراب سياستها الخارجية.
الحسابات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، والعالم في ظلّ أوضاعه المتوترة الراهنة يبدو على بعد خطوة واحدة غير محسوبة من كارثة تقود إلى حرب نووية.