ياسمينة خضرا هو الاسم المستعار للكاتب الجزائري الفرانكفوني محمد مولسهول. عمل ضابطاً في الجيش الجزائري لسنوات قبل أن يتفرغ للكتابة التي بدأها في سن مبكرة. كتب أكثر من خمسة وعشرين رواية، أهمها: «الاعتداء» و«سنونوات كابل» و«سفارات إنذار بغداد» و«فضل الليل على النهار». أعماله لاقت إقبالاً جماهيرياً واسعاً، لا سيما في فرنسا، وترجمت لأكثر من 30 لغة، بعضها اقتبس للسينما، كما حاز عدة جوائز كالجائزة الكبرى «هانري غال» وجوائز أخرى كثيرة. روايته الأخيرة «الصالحون» لاقت إقبال واستحسان النقاد، وصنعت الحدث للدخول الأدبي الفرنسي. كان لنا معه هذا الحوار في العاصمة الفرنسية باريس بمناسبة صدور هذه الرواية.
> ترسم روايتك الجديدة «الصالحون» لوحة عن حقبة مجهولة من تاريخ الجزائر أثناء الحرب العالمية الأولى، ما بين 14 – 18، حيث نتعرف على عائلة فقيرة لا تملك شيئاً سوى المحبة التي تجمع أعضاءها. كيف جاءتك فكرة هذه الرواية، ولماذا هذا العنوان؟
– فكرة هذه الرواية تعود إلى أكثر من عشر سنوات، حين كتبت مقدمة لسلسلة رسوم للناشئة حول القناصة الجزائريين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، المعروفين باسم «القناصة الأتراك» (نسبة لقوات غير نظامية تركية وعربية شكلها الفرنسيون في الجزائر منذ 1830). وقتها لم يكن هناك أي أرشيف بخصوص هؤلاء الجنود الذين انخرطوا مُكرهين في حرب لا تعنيهم في شيء. حينها أحببت أن أكتب رواية مُهمة حول هذا الموضوع، لكني انتظرت حتى تكون لي القوة الكافية لتجاوز كل ما كتبته في السابق لأستحق معالجة مثل هذا الموضوع. أستطيع أن أقول إن «الصالحون» هي تتويج لخمسين عاماً من الكتابة ونتيجة مُثابرة مستمرة. أما بالنسبة للعنوان «الصالحون» فهو يعود لشخصيات الرواية البسيطة والجميلة، والمليئة بالتعاطف لبعضها البعض، التي تظل رغم فقرها كريمة ومتضامنة.
> قلت بخصوص رواية «الصالحون» إنها من أهم أعمالك، من أي ناحية؟
– لأول مرة اتفق النقاد على ذلك بالإجماع، ومع ذلك، فقد كتبت أعمالاً قُرأت في كل ربوع العالم، أثرت على ملايين القراء وألهمت صانعي الأفلام وكتاب المسرحيات، وعانت في بعض الأماكن من الهجمات والتفسيرات الخاطئة والخبيثة. مع رواية «الصالحون» اتفق الكل على أنها أهم أعمالي، شخصياً لم أنتظر حتى يُعلن النقاد ذلك، وكنت قد قلت ذلك خلال جولتي بالجزائر في يوليو (تموز) المنصرم. عندما أنهيت الصفحة الأخيرة من روايتي، كنت مقتنعاً أنني قد تجاوزت عتبة جديدة. كل الكتاب لديهم عمل مفضل، بالنسبة لي العمل الأقرب إلى قلبي هو روايتي الأخيرة «الصالحون».
> ماذا عن شخصية «ياسين شراقة» بطل الرواية، هل نستطيع أن نقول إنه يشبهك قليلاً؟
– بطل القصة ياسين شراقة يجسد ما عاناه الجزائريون تحت نير الاستعمار. وهو راع فقير يبلغ من العمر عشرين عاماً، يعيش في قرية بائسة في بداية القرن العشرين، لا يهتم بما يجري حوله، وفي يوم ما يستدعيه عُمدة القرية لإرساله إلى فرنسا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى 14 – 18 بدلاً من شخص آخر، في مقابل وعود لن يتم الوفاء بها. عند عودته من الحرب، يعيش ياسين جحيماً يواجه بشجاعة بفضل إيمانه ونقاء روحه. من خلال محنة هذا الشاب، يتم سرد محنة شعب بأكمله.
> كلنا يعرف مرحلة الحرب التحريرية التي خاضها الشعب الجزائري، بينما لا نعرف الكثير عن الحقبة التاريخية التي تسردها في روايتك؟ فهل ممكن أن تحدثنا عنها؟
– لقد كتبت هذه الرواية لفهم هذه الفترة التي شكلت «جزائري» اليوم بشكل أفضل. ولا يمكنني تلخيصها دون إفساد القصة المليئة بالحبكات والأحداث غير المتوقعة.
> مشاهد المعارك مُذهلة من حيث دقة الوصف، هل كانت تجربتك كضابط سابق في الجيش هي مصدر إلهامك؟
– بدون شك، السنوات الثمانية التي قضيتها في محاربة الإرهاب الذي كاد يقضي على وطني سمحت لي بالتقرب من العنصر البشري، أنا أعرف إلى أي درجة يستطيع هذا الكائن الذي يقال عنه «إنسان» أن يكون قاسياً ومتوحشاً، وفي النهاية كل الحروب تتشابه، فهي فشل المنطق السليم ولحظات جنون وقمة الرعب والحماقة، الحروب هي الدليل على أن الرجال وحوش فظيعة ترى أن هناك قضايا أهم من حياتها، من أطفالها ومن ذويها.
> شخصية ياسين تمثل إنساناً مسامحاً لأقصى درجة، فهل يمكننا مسامحة الآخرين في كل شيء؟ مثلاً ما حدث إبان التاريخ الاستعماري بين الجزائر وفرنسا؟
– لست إلا مواطناً من ضمن آخرين، ليس لي الحق للتحدث باسم شعب تعرض لويلات القدر، ولا يمكننا محو صدمة 132 عاماً من الاستعمار والاستعباد والبؤس والمعاناة بضربة واحدة، لكن يمكننا أن نولد من جديد في عالم أفضل، حتى نثبت لأنفسنا أن شهداءنا لم يموتوا من أجل لا شيء. وفي هذا السياق أفضل الحديث عن «المصالحة» بدلاً من المغفرة بين فرنسا والجزائر.
> إهداء هذه الرواية كان لوالدتك، حيث كتبت: «إلى أمي التي كانت لا تحسن القراءة والكتابة لكنها ألهمتني هذا العمل»، كما نلاحظ حضوراً قوياً لشخصية الأب في الرواية، فإلي أي مدى كان تأثير والديك في مشوارك الأدبي؟
– احتلت والدتي مكانة مهمة في حياتي. شخصيتها مركزية في سيرتي الذاتية، على سبيل المثال (الكاتب أو القبلة والعضة) وإذا كنا لا نراها كثيراً في الروايات الأخرى إلا أنها موجودة باستمرار في الاستحضار السردي. بالنسبة لحياتي الشخصية، وللتذكير عهد بي إلى المؤسسة العسكرية وأنا ابن التاسعة. لم يكن والداي من أرشداني إلى طريق الأدب، ولكن قسوة المعاملة والحاجة إلى استعادة نفسي رغم كل المحن والصعاب. فكان الأدب، بالنسبة لي، هو بمثابة رفضي الشديد لأن أكون بيدقاً على رقعة الشطرنج، وشارة على مخطط إجباري.
> سبق وأن صرحت بأنك قررت أن تصبح كاتباً باللغة الفرنسية عندما قرأت عملاً لألبير كامو، بينما كان حلمك في البداية أن تصبح شاعراً عربياً، فماذا يعني لك كامو أولاً؟ وهل نتوقع منك قصائد باللغة العربية؟
– تأثير الكاتب الجزائري مالك حداد علي كان أكبر من تأثير كامو، صحيح أني كنت أحلم بأن أصبح شاعراً كالمتنبي، لكني لم ألق أي تشجيع من أساتذة اللغة العربية، وللأسف بعض أنصار اللغة العربية عدوني «خائناً» لمجرد أنني أكتب بالفرنسية. هذه العقلية الرجعية تمنع عبقرتينا من النمو في عيون الآخر. ومع ذلك، فإن الأدب لا يعتمد على اللغة، بل على الكلمة، والموهبة والبراعة والكرم، وإلا فكيف يمكنني أن أفسر أن أكبر عدد من قرائي في أفريقيا ليس في المغرب العربي، ولكن في التشاد.
> في روايتك، تتحدث عن عبثية الحرب الأولى، هذه الحرب التي هي الآن في صميم الحدث، فهل تعتقد أن على الكاتب أن يعيش تجربة الحرب (كما هو الوضع معك) قبل أن يكتب عنها؟
– كثير من المؤلفين كتبوا عن الحرب دون ارتداء الزي الرسمي، أو السير في الوحل وفي الخنادق، أو حتى إطلاق رصاصة واحدة. ومع ذلك، فقد وصفوها بموهبة وحقيقة رائعتين. للكتاب ذلك الخيال الذي يسمح لهم بكشف الأسرار وفك الرموز المتعلقة بسرد أحزان وأفراح الإنسانية، بإخفاقاتها وروعتها ومآسيها. لحسن الحظ وُجد الكتاب لكي يزيحوا عنا الغمائم ويدعونا للتفكير والاكتشاف، وقد كان غوستاف فلوبير محقاً حين قال إن كل ما نبتكره يصبح واقعاً.
> روايتك هي أيضاً ترنيمة جميلة للحب من خلال القصة التي تجمع ياسين بمريم، فماذا يمكن أن يخربنا هذا عن حاجة الإنسان للحب؟ وهل يمكن أن ينقذنا من أهوال الحرب؟
– الحب يعطي معنى حقيقياً لحياتنا. إنه ينقذنا أولاً من أنفسنا، يعيد اكتشافنا في المحن، ثم يعيدنا إلى أنفسنا، لكنه لا يزال هشاً مثل ضعفنا. فالحرب تضايقه وتشوه سيمفونيته وتسلمه للشعارات الكاذبة، عندما يفهم الرجال أين تكمن مصالحهم الخاصة، فإنهم سيتخلون عن الحرب من أجل أن يعيشوا سعادتهم بالكامل. كتبت في «الملائكة تموت متأثرة بجراحنا»: «لا ساحة قتال تضاهي سرير امرأة».
> أنت كاتب معروف بغزارة إنتاجك الأدبي، فما هو سرك؟
– الكتابة موهبة من الله، لا أستطيع شرحها، أكتفي فقط بالعمل لأكون أهلاً لها.
استرداد طه حسين
قلة من المفكرين والمبدعين تكون حياتهم الشخصية ملهمة بقدر أفكارهم وإبداعهم، على رأس هذه القلة – عربياً – طه حسين، فلم يكن المقسوم لصبي فقد بصره وقت مولده من نصيب أفضل من قراءة القرآن في المقابر لقاء بعض الصدقات. وربما ينتظر هذا المصير الكفيف إلى اليوم في الريف المصري. لذلك كان تدريس سيرة طه حسين «الأيام» لطلاب الثانوي على مدار عقود عملاً موفقاً يبث في النشء إرادة التحدي، مهما كانت ظروفهم، ورسالة لكل من يعاني من إعاقات الصحة أو الفقر: نعم تستطيع!
لم يكن العمى محبس طه حسين الوحيد، بل البيئة المتواضعة علمياً في القرية ثم الدراسة الأزهرية الجامدة، لكنه شق طريقه على هدي من حدسه العقلي واقتداءً ببعض شيوخه المستنيرين، وسرعان ما صار شاباً لامعاً، ثم مفكراً لم تتقادم أفكاره وتتعرض للنسيان، لكنها لم تستقر كذلك، وهذا مبعث الأسف.
لم ينسه تلاميذه، ولم ينسه الخصوم كذلك. تصدر عنه الكتب التي تعيد استقراء أفكاره، كما ينشط الخصوم في تدوير الاتهامات القديمة المبنية على شائعات، وتلك التي تضع رؤاه في مواجهة مع الدين.
من صفوف التلاميذ الأحدث، يخرج الناقد ممدوح فراج النابي بكتاب «استرداد طه حسين» الصادر عن دار «خطوط وظلال» الأردنية، منذ نحو عام، أخلص فيه لفكرة الاسترداد، إذ قسمه إلى ثلاثة أقسام: دفاعاً عن العميد، العميد والريادة، ووجوه العميد المتعددة.
ربما يسأل القارئ نفسه في مواجهة القسم الأول: هل يجب أن نعود إلى الدفاع عن طه حسين اليوم؟ وهل يجب أن نستعيد معارك العقود الأولى من القرن العشرين واتهامات بحق الرجل تدعي انتحاله منهجاً أو فكرةً أو نصاً بعد أن ثبت كيديتها، وأن ما يقف وراءها كان كيد المتزمتين تارة وكيد زميل حاسد تارة أخرى؟
لكن البحث على شبكة الإنترنت يؤكد أن النابي لديه بعض الحق في استعادة هذا التاريخ، لأن أحفاد الخصوم لا يزالون خصوماً يكررون المقولات ذاتها، ويجدون في الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية المساحات التي يعيدون فيها بث أكاذيبهم.
دعوته للعقلانية، هزت ثوابت العقول المطمئنة إلى جمودها المكتفية بإعادة تقديم الشروح تلو الشروح لنصوص قديمة دون رغبة في التجاوز. وهذا هو أصل العداء المستعر إلى اليوم.
ورغم شهرة معركة الشعر الجاهلي، إلا أنها كانت المحنة الثانية، حيث يعود النابي إلى ما أحدثته رسالة طه حسين للدكتوراه «ذكرى أبي العلاء» التي نشرها فيما بعد بعنوان «تجديد ذكرى أبي العلاء»، وكانت رسالة الدكتوراه الأولى التي تُقدم عام 1914 للجامعة المصرية الناشئة.
ناقش طه حسين في الرسالة ثلاثة من الشيوخ، رأى اثنان منهما، محمود فهمي ومحمد الخضري منح الطالب تقدير فائق، ورفض الشيخ الثالث محمد المهدي، لأن طه حسين له سابق رأي فيه، فكانت النتيجة منح طه حسين تقدير «جيد جداً». وهذا ليس كل شيء، فقد طالب عبد الفتاح الجمل، وهو عضو في الجمعية التشريعية عن بورسعيد بحرمان طه حسين من حقوق الجامعيين «لأنه ألف كتاباً فيه كفر وإلحاد»، ولكن سعد زغلول رئيس الجمعية أمات الفتنة في مهدها بأن استدعى النائب وأقنعه بالعدول عن مذكرته.
والزعيم سعد نفسه هو الذي سينحني لعاصفة «الشعر الجاهلي» فيخرج لطلاب الأزهر الغاضبين بكلام ناعم ألا يقلقوا لأن الإسلام راسخ، ويستجوب رئيس الحكومة عدلي يكن بشأن نشر الكتاب. ويجد النابي تفسير ذلك بأنه في المحنة الأولى تمكن من أصل اللهب، لكن النيران خرجت عن سيطرته في المحنة الثانية فاضطر إلى المسايرة.
محنة «الشعر الجاهلي» هي الكبرى؛ فهي التي قادت طه حسين إلى المحاكمة، وأشعلت المظاهرات ضده، وعرضته لمقالات شديدة القسوة تطعن في دينه، وخلطت الأوراق السياسية بضراوة طالت القصر والوزارة والجامعة مع شخص طه حسين.
ويرى النابي أن كل كتابة عن طه حسين يجب أن تبدأ بـ«الأيام» الكتاب الأشهر في المكتبة العربية بعد ألف ليلة وليلة. ونظراً لتوقيت نشر جزئه الأول يرى أنه ليس مجرد كتاب في السيرة. فقد شرع العميد في نشر حلقاته في مجلة «الهلال» بعد أشهر قليلة من محنة الشعر الجاهلي، عام 1926، لمدة عام، ثم صدرت بعد ذلك في كتاب عام 1929، في هذا التوقيت كان طه حسين لم يزل في الثامنة والثلاثين، وهذا ليس وقت كتابة السيرة، ولكنه اندفع إليها بعد المحنة. دفاعاً عن نفسه وإعلاناً من ذاته المفردة عن نفسها، وعن ثورتها ضد كل ما يقيدها.
و«الأيام» ذاتها هي التي ستكون الفخ الثاني، فبعد الضجة الدينية حول الشعر الجاهلي والتقولات عن استناده فيه على مقال للمستشرق مرجليوث، جاء الدور على الطعن في كتاب إبداعي، حيث ادعى أحمد ضيف زميل بعثة طه حسين إلى فرنسا أن العميد سرق روايته «منصور» وضمنها «الأيام». ويجد ضيف إلى اليوم من يستعيد تقولاته عن طه حسين، استناداً إلى أن البطل صبي ريفي لا أكثر!
ترصد ضيف لطه حسين هو الأقل تماسكاً والأكثر انكشافاً، لكن قضية مرجليوث أخذت زمناً أطول، رغم أن المبالغات من شأنها أن تقلب الأمر إلى مزحة؛ حيث زج الخصوم أنفسهم باسم مرجليوث مرة أخرى طعناً في كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم».
لم يستند طه حسين في عمله إلى منهج الشك الديكارتي بكامله، ولا يمكن وضعه داخل هذا المنهج وحده، لأنه كان دائم البحث عن منهج. وبدا استخدامه للمنهج الاجتماعي في دراسة أبي العلاء، فقد كتب: «أبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل في إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسية والاجتماعية، بل والحال الاقتصادية». وفي كتاب قادة الفكر (1925) يقول: «الشاعر والكاتب لا يستمد شخصيته من شخصه وحده. وإنما يستمد أكثر فنه وأكثر شخصيته من أشياء أخرى ليس له فيها حيلة (…) وأكاد أقول إن الفرد نفسه ظاهرة اجتماعية». كما يبدو واضحاً لدى طه حسين اعتماده على المنهج التاريخي في استقصاء المصادر وتفنيدها.
ويستشهد النابي بدراسة سيد البحراوي للتأكيد على أن طه حسين عرف المنهج المادي كما كان يفهمه فرنسيو القرن الثامن عشر وامتدادها عند أصحاب المدرسة الطبيعية في النقد. وفي كل ذلك كان طه حسين يؤكد دائماً على ضرورة تجرد الباحث من الهوى والعاطفة.
يخصص الباحث فصلاً من كتابه للمقارنة بين رؤيتي طه حسين وتزفيتان تودوروف لتدريس الأدب، ليجد التشابه بين ما بدأ به طه حسين حياته في البحث وما انتهى إليه تودوروف في نهاية رحلته عبر كتابه «الأدب في خطر – 2007».
بين صرخة في بدايات القرن العشرين وأخرى في بدايات القرن الحادي والعشرين، يعتقد النابي أن الدرس الأدبي تاه وواصل طلابه حالة من الاغتراب، خلال سطوة المناهج الشكلانية. وما ثار عليه تودوروف في النهاية يشبه ثورة طه حسين على الشروح اللغوية كما وجدها في دروس شيوخه من أمثال سيد بن علي المرصفي.
ويقرأ المؤلف التقاطعات بين طه حسين وتودوروف، برغم الفارق الزمني بينهما؛ فكلاهما درس في فرنسا، وتأثر بأساتذته من الفرنسيين. ذكر طه حسين تأثره بعالم الاجتماع إميل دوركايم، الذي أشرف على رسالته عن ابن خلدون، وكذلك تأثر تودوروف برولان بارت وجيرار جينيت. وكلا الوافدين (طه حسين وتودوروف) تأثر بالظروف السياسية والاقتصادية في علاقته بفرنسا، فكان أن انتهيا إلى التأكيد على الغاية الاجتماعية من الأدب.
لشخص طه حسين وجوه متعددة، فهو العاشق والمقاتل الصلب في السياسة والناقد المُعنف الذي لا يخلو نقده من قسوة. هذا الثراء في شخص طه حسين ثراء آخر في وجوه كتابته وتنوعها، ما بين القصة والنقد والسيرة والتاريخ والمقالة السياسية.
هذا الثراء جعل للعميد دراويشه وصنع أعداءه كذلك، وقد وصفوا سلطته بـ«الإقطاع الفكري» على نحو ما ذهب عبد الحي دياب في كتاب بهذا العنوان، لكن النابي لا يبدو من أولئك أو هؤلاء، يدرس مواقف الطرفين عائداً إلى الكثير من المقالات والكتب، غير غاضٍ طرفه عن هفوات العميد الفكرية وتحولاته، ومنها مثلاً موقفه من اعتصام درية شفيق وتسع سيدات في نقابة الصحافيين احتجاجاً على لجنة دستور علي ماهر عام ١٩٥٤، فقد كتب عنهن مقالاً بعنوان «العابثات» أتبعه بـ«العابثات ٢» تأكيداً على موقفه الدفاعي عن حركة يوليو (تموز)، متذرعاً بأن الظرف لا يحتمل القلاقل، بينما كان قد كتب في شبابه مناصراً قضايا المرأة معارضاً أستاذه الشيخ عبد العزيز جاويش عام 1911.
يلتمس النابي تفسيراً لقسوة طه حسين الفكرية في ظروف نشأته وما تحمله من شيوخه وخصومه منذ بداية طريقه الدراسي وعبر حياته مع الكتابة والنشر. لكنه مع قسوته اختط لنفسه منهجاً أوضحه في تقديمه لكتاب صديقه أحمد أمين «ضحى الإسلام»، وهو ألا يظلم كتاباً لأن صاحبه صديق له أو خصم، لكنه اعتبر الظلم الأشنع «أن تُثني على ما لا يستحق الثناء».
ويختتم النابي كتابه «استرداد طه حسين» بفصل عن رحلته إلى الأراضي الحجازية بمناسبة وصوله إلى جدة في مهمة ثقافية للجامعة العربية، وهي الرحلة التي عدّها معسكر التكفير عودة إلى الإسلام وتوبة.
لم يكتب طه حسين شيئاً عن تلك الرحلة، بعكس رحلاته في أوروبا، وترك أمر تدوينها إلى الآخرين، وقد سجلها محمد عبد الرازق القشعمي في كتابه «طه حسين في المملكة العربية السعودية: صدى زيارة عميد الأدب العربي للمملكة»، وقد أضاء بشمول رحلة التسعة عشر يوماً التي بدأها طه حسين في الخامس عشر من يناير (كانون الثاني) 1955 واستقبله فيها المغفور له الملك فهد وكان آنذاك أميراً ووزيراً للثقافة. وإثر انتهاء زيارته الرسمية سافر إلى مكة والمدينة المنورة. وكان للزيارة وما ألقى فيها من كلمات، وما رشح عن ذكر مشاعره عندما احتضن الحجر الأسود أثرها في استنهاض التلاميذ والخصوم، وتجدد جدل الشك والإيمان، وهو جدل سيستمر طويلاً فيما يبدو.
ولكل هذا الغنى في الشخصية والإنتاج يعتقد النابي أن طه حسين يحق في وصفه، عبارته هو التي قالها بحق المتنبي: ملأ الدنيا، وشغل الناس.
أخبار ذات صلة
طبعة عربية جديدة لـ«جسور ماديسون»
عوامل عديدة تجمعت لتجعل من «جسور مقاطعة ماديسون» تتحول من مجرد رواية قصيرة، سريعة الإيقاع، إلى واحدة من أهم الظواهر الأدبية في أواخر القرن العشرين على مستوى العالم، فقد صدرت في العام 1992 باعتبارها العمل الروائي الأول لمؤلفها «روبرت جيمس والر» الذي حصل على الدكتوراه في مجال بعيد عن الكتابة وهو البيزنس والاقتصاد كما تولى منصب عميد كلية إدارة الأعمال في جامعة أيوا الجنوبية، وبلغ عمره وقت صدور العمل 53 عاماً على عكس المتعارف عليه عادة بأن يصدر العمل الأدبي الأول للمرء وهو في العشرين أو الثلاثين. وبمجرد نشر الرواية تخطفها القراء وباعت حتى الآن، أكثر من ستين مليون نسخة كما ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة حول العالم. واللافت هنا أن أننا لا نتحدث عن عمل ينتمي إلى قالب تجاري نمطي مثل القصص البوليسية والتشويق أو حتى أجواء الرعب والسحر والألغاز.
تحكي الرواية التي صدرت طبعة جديدة منها عن دار «الكرمة» بالقاهرة، من ترجمة محمد عبد النبي، قصة حب شديدة الرهافة والخصوصية، من النوع الذي ينتمي للأساطير، أو يبدو مشوبا بالسحر رغم واقعيته الشديدة. الطرف الأول هو «روبرت كينكيد»، رجل في منتصف العمر، يعمل مصورا فوتوغرافيا لدى مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» الشهيرة. شخصية تتمتع بروح حرة، يرتحل طوال الوقت بحسب مقتضيات عمله. عرف العديد من النساء لكنه مع ذلك يعاني من الوحدة الشديدة. يصف المؤلف البطل على هذا النحو: «كان روبرت وحيدا بأشد ما تكون عليه الوحدة، توفي الوالدان، أقارب بعيدون فقد صلته بهم، وما من أصدقاء مقربين. كان يعرف أسماء بعض الأشخاص، مثل صاحب البقالة الذي على الناصية وصاحب محل التصوير الذي يشتري منه لوازمه، كما تربطه علاقات رسمية ببعض محرري الصحف والمجلات، ما عدا ذلك فلا يعرف أحدا ولا أحد يعرفه. يصعب على الغجر الرحل إقامة صلات مع الناس العاديين، وقد كان غجريا بمعنى ما».
في المقابل، هناك «فرانشيسكا» الزوجة الأميركية ذات الأصول الإيطالية التي تعيش حياة الريف بإحدى بلدات مقاطعة «ماديسون» بولاية «أيوا»، حيث تعاني من النمطية والتكرار وسط المزارع والحيوانات. يلتقيان حين تكون بمفردها لعدة أيام بينما يبحث هو عن جسر ما في المقاطعة فتنفجر الشرارة المفقودة، أي الشغف والهروب من الابتذال والعثور على معنى لحياة تتسرب سريعا من بين أيدينا كماء بين الأصابع. رغم أن «روبرت» لم يكن وسيما بل صاحب ملامح عادية إلا أنه أيقظ حلم الأمير الوسيم داخل فرانشيسكا الذي رأته على هذا النحو في انطباعها الأول: «كان طويلا ونحيلا وصلبا، وكان يتحرك كأنه العشب نفسه، بلا أدنى جهد وفي رشاقة. ينسدل شعره الرمادي/ الفضي إلى ما دون أذنيه ويبدو مشعثا طيلة الوقت، كما لو كان قد عاد لتوه من رحلة بحرية طويلة خلال ريح قاسية».
يكمن سر الرواية في قدرتها على تفتيت الواقع المبتذل بتكراره الأبدي والكشف عن شيء من السحر خلف الطقوس اليومية المملة. وهذا ما حافظ عليه الفيلم المأخوذ عنها وبنفس الاسم، بطولة وإخراج كلينت إستوود وميريل استريب، بل إن السينما منحت العمل بعدا بصريا مدهشا، فضلا عن قدرة النجمين المخضرمين على التقاط روح الشخصية برهافة ودهشة.
ولد «روبرت جيمس والر» 1939، وتعكس الرواية شغفه بالتصوير الفوتوغرافي الذي ظل يمثل بالنسبة له مزيجا من الهواية والاحتراف قبل أن يتوفى في 2017.
أما محمد عبد النبي، فهو كاتب ومترجم مصري. له كثير من المؤلفات بين القصة والرواية مثل «في غرفة العنكبوت» التي فازت بجوائز مختلفة ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية عام 2017، كما فازت أيضاً ترجمتها الفرنسية بجائزة معهد العالم العربي في باريس عام 2019. ترجم كثيراً من العناوين المهمة مثل رواية «تمبكتو» لـ«بول أوستر»، و«ضوء الحرب» لـ«مايكل أونداتجي»، وكتاب «قلق السعي إلى المكانة» لـ«آلان دو بوتون». وصدرت له عن دار «الكرمة» ترجمة روايتي» مليون نافذة» لـ«جيرالد مرنين»، و«النورس جوناثان ليفنجستون» لـ«ريتشارد باخ».