عذراً، عن المزيد من فرنسوا ميتران. بعضه استناداً إلى «الحقبة الجميلة»، وبعضه إلى ما سبق من متابعات عمرها أكثر من نصف قرن، تخللتها تغطية معاركه الانتخابية في باريس. أنا والزميل أنطوان بارود مصوراً. انطباعات لا تُنسى عن رجل جاف، متشاوف، مأخوذ بكونه يخوض معركة الرئاسة ضد «الرجل الكبير»، كما يسميه المؤلف، أي: شارل ديغول.
كان للمرشح الاشتراكي نابان ظاهران يدلان على طبعه المائل إلى الخبث، وقد نصحته مديرة معركته الانتخابية لاحقاً بأن يقلمهما، ففعل. وتغير الشكل فيما بقي قول المثل ثابتاً بأن «الطبع يغلب التطبع». كان فرنسوا ميتران ذا قدرات خطابية، ومثقفاً إلى حدٍ بعيد، ومتطلعاً إلى أدباء الحداثة لأنهم «يخدمونه» أكثر من الكلاسيكيين الكبار.
بدأ حياته في اليمين الجاهل مشاركاً في العنف. ولما رأى الفرص أكبر في اليسار قفز من دون تردد. ولم يتردد لحظة أيضاً في تعيين سياسية مغمورة ووزيرة زراعة سابقة تدعى إديث كروسون، رئيسة للوزراء. وأعطى حقائب وزارية إلى نساء أخريات، مما حمل الرئيس جاك شيراك على القول يوم كان رئيس وزرائه: لا ندري إذا كانت هذه حكومة أم حريماً.
ولم يكن يتوقف عند خجل أو ورع. وكان كثير العمل، شديد الحيوية، كثير التنقل. وذات يوم شرح للمؤلف سرَّ الخطابة قائلاً: «يجب أن تفعل ما يفعله المحامون. إنهم يبدأون الخطاب في صوت خافت جداً لكي يجتذبوا الانتباه. وعندما يتأكدون أن الناس بدأت بالإصغاء يرفعون أصواتهم».
استبقى زوجته الأولى، الرسمية، وعاش معها ومع عشيقها «المسيو جان». وعلى مقربة من الإليزيه عاش في شقة سرية – علنية مع المرأة التي أحبها وهي في الرابعة عشرة، يكبرها بثلاثين عاماً. وظل يكتب إليها الرسائل كل يوم. وقد نشرت هذه بعد وفاته في نحو 1140 صفحة، ولست أعتقد أن لها قيمة أدبية أو سياسية كبرى. رجل يطرح نفسه أمام الفرنسيين في أدوار عدة، منها الدور الأحب إليهم: «العاشق الأبدي».
تحدى الرجل الأكثر انتهازية في تاريخ فرنسا الرجل الأكثر نزاهة في تاريخها أيضاً. ثم وصل العام 1980 في مفاجأة لم يصدقها أحد. هو أولاً. وقعت فرنسا في محنة الرئيس الانتهازي مرة أخرى مع نيكولا ساركوزي الذي وصل إلى عتبة السجن بسبب فضائحه، ومنها تلقّيه التبرعات من القذافي لمعركته الانتخابية، ثم شن الحرب عليه.
يتسرع الفرنسي أحياناً في انتخاب سياسييه. وهذه نقطة ضعف أساسية في النظام الديمقراطي في كل مكان عبر التاريخ. أميركا انتخبت جورج دبليو بوش، وبريطانيا انتخبت سيدة، لم تبق ما يكفي لأن نحفظ اسمها. خطأ مهني أن يخلط الصحافي بين انطباعه الشخصي والحقائق. كلما صدر تقييم جديد لفرنسوا ميتران تأكد انطباعي الأول.
سوسن الأبطح:جنوح الفلسفة
تريد اليونيسكو من العالم أن يتفلسف، للناس أن يطلقوا العنان لأفكارهم، أن تكون في الخميس الثالث من كل نوفمبر (تشرين الثاني) أخيلة البشر حرة، لتتصور مستقبلها، وكيفية إعادة بناء أخوّتها المفقودة. هذه السنة، العنوان هو «الإنسان الآتي»، والحال ضياع وفوضى وخوف من حروب وفقر وجوع. ثمة اعتقاد بأن الفكر وحده قادر على اجتراح معجزة الخلاص. ووسط أجواء الاحتفالات بقيمة العقل، وثمار الاجتهاد، تأتي إنذارات، من عدة مدن فرنسية، تحذر من مهرجان للفلسفة سيقام، بالمناسبة، في 7 مدن تنظمه جمعية «نيو أكروبوليس» المرخصة في البلاد منذ 1973. ومع ذلك، تحوم الشكوك حولها، وصدرت بحقها عدة مذكرات، تضعها على اللائحة السوداء.
منظمة غير ربحية تأسست في الأرجنتين عام 1957، على اعتبارها مدرسة للفلسفة، وتطورت لاحقاً وانتشرت، وتحولت إلى منظمة تعرف بنفسها بأنها تعنى بالدراسات والممارسات الفلسفية.
ومشكلة الفلسفة في المتفلسفين، الذين يتطرفون يميناً أو يساراً، ويؤدي الشطط إلى جرائم، والمبالغة إلى كوارث، ثم تتساءل عن جدوى أن يترك الحبل على غاربه، حتى يصعب عليك فهم الفرق بين إعمال العقل لصالح الخير، أو إعماله للتلاعب بالآخرين، واستغلال ضعفهم.
ثمة مذكرة لوزارة الداخلية الفرنسية، صدرت العام الماضي، تلفت إلى أن بعض المجموعات التي تتغطى بستار التفلسف وحرية الفكر والمعتقد تنتهك الحريات وتستعبد الأفراد. هناك مجموعات تمنع المنخرطين فيها من ممارسة حقهم في التصويت، وتصل بهم إلى انحرافات أو اعتداءات جنسية، ويتعرضون للضغط والنبذ حين يفكرون في التراجع أو يترددون في ممارسة السلوكيات المفروضة عليهم.
وبالعودة إلى «نيو أكروبوليس» التي لها عشرات المراكز في أنحاء فرنسا، ويوحي موقعها الرسمي، وبرنامجها لليالي الفلسفية، بأنها تعشق العقل وتناضل من أجل الانعتاق، فهي متهمة بأنها تروج لآيديولوجيا يمينية متطرفة، وأن لها ميليشيا سرية، وجهازها الاستخباراتي الخاص.
تقارير قديمة تشير إلى أن الجمعية تروج لعنصرية قريبة من النازية الجديدة، وتمارس استبدادية على أعضائها. كل هذا تحت ستار الفلسفة وإطلاق العنان للأفكار. هذه الفرقة ليست حالة معزولة، فنحن نسمع كل يوم عن فكر جديد. وما أن تفتح صفحات «تيك توك» أو «إنستغرام» حتى يطلع عليك حكماء العصر الحديث، الذين تجهل مؤهلاتهم، وخلفياتهم، أو مدى نجاحهم في حياتهم أو فشلهم، وكمّ العقد التي تحركهم، ليمطروك بنصائحهم. منهم تعرف كيف تصبح سعيداً. وأفضل وسيلة لجمع المال. وسبيلك للتخلص من الأرق. حتى كيف تنتقم من عدوك، أو من الذين تحتسبهم أصدقاءك.
لم تخلُ الفلسفة يوماً من خطر الانزلاق. الاشتراكية نظرية في غاية النبل والسمو حين تقرأها، ومع ذلك لم تجلب السعادة لأغلب المجتمعات التي طبقت فيها. تغلبت غرائز السرقة والانتهازيين على مصلحة عامة الشعب الذين تركوا في فقر وحاجة وشظف عيش. وجاءت النظرية الرأسمالية وقحة، جشعة، شجّعت على المنافسة والمزاحمة، وأعلت من قيمة الشطّار على حساب المساكين. وتباهى على الخلق الأغنى بينهم والأذكى والأقدر على مراكمة الثروات، والتمتع برغد الحياة. وبات من الطبيعي أن يملك 26 شخصاً في العالم ثروة تعادل ما يملكه نصف سكان الأرض. بل إن كلاً منهم، هو اليوم أنموذج للنجاح والتفوق، يباهى به ويحتذى. وصارت الرأسمالية، وقد اقترنت بالديمقراطية الأوفر شعبية بين الأمم.
لم تكن الفلسفة بريئة في أحيان كثيرة، وضحاياها بالآلاف. أنجبت نظرية تفوق العرق الأبيض، أسوأ أشكال الظلم والاستعباد، منذ القرن التاسع عشر. أقنع الغربيون أنفسهم بأنهم أعلى كعباً من بقية البشر، وأن بمقدورهم أن يستعمروا ويستعبدوا، ويمتصوا دماء أمم كثيرة، بحجة أنهم يسعون لتطويرهم وترقيتهم. ولا تزال نظرية استعمار الشعوب بحجة نشر الديمقراطية سارية المفعول، ومرحباً بها من بعض الضحايا. وهي واحدة من سلالات فلسفة تفوق الرجل الأبيض، التي تتناسل و«تندغم» في نظريات تتعدد أسماؤها، ويبقى مضمونها واحداً.
نظرية التفوق يطبقها الرجل الأبيض، لأنه يمتلك أدواتها التي حرم منها آخرون. لكن كل دين يرى في أتباعه تمايزهم على غيرهم، والسود لهم نظريتهم الفوقية أيضاً، وإن كانت أقل شهرة، وأتت كردة فعل على البيض. وبقي الأميركيون يستعبدون السود بوحشية، ويمارسون عليهم سطوتهم بشكل غير أخلاقي حتى بعد أن أصدر الرئيس أبراهام لنكولن إعلان تحرير العبيد عام 1863.
وفي الشرق كما في الغرب، عرفت اليابان قبل نهاية الحرب العالمية الثانية فكرة تفوق عرق الياماتو، وهم السكان الأصليون للبلاد، وأدعوا أحقيتهم في حكم كامل آسيا وبلدان المحيط الهادي.
من حق العباد، بل من واجبهم أن يتفكروا هذا الخميس، وكل يوم، للاهتداء إلى ما يجلب لهم السعادة والأمن، ويحد من الخراب الذي جلبوه لأنفسهم، لكن هذا يستدعي من المتفكر كثيراً من العلم والسماحة وحب الإنسانية، ونبذ الأنانيات التي حضت عليها بعض الفلسفات بشطحاتها وسقطاتها.
فأي الفلسفات نريد، هل فلسفة «داعش»، والشعبويات اليمينية المتطرفة التي بدأت تكتسح الساحة، أم فلسفة إدغار موران وعودة إلى ابن رشد الذي تمسك بالفكر الحر وتحكيم العقل، ورفض البناء إلا على المشاهدة والتجربة.
أهم وظيفتين للفلسفة هما مساعدة الإنسان للإجابة عن الأسئلة الوجودية، وتحريض فكره النقدي. أما الفلسفة الحديثة، بعد أن أسبغت عليها الصبغة الشعبية، وأنزلت إلى عامة الناس، صارت كلها إجابات قاطعة، وكان يرتجى منها ويؤمل أسئلة محرضة على التفكير والتمحيص والتدبّر.