تدور منذ مدة حرب طاحنة حول أضخم صحيفة في التاريخ. وأنا خارجها ولا أعرف عنها شيئاً، وأنا نادم لأنني لا أعرف. والصحيفة طبعاً هي «تويتر» التي جعلت العالم كله يغرد معها. أو بالأحرى قسمته إلى قسمين: مغرد ومتخلف.
كنت أعتقد أن التطور موضة لا علاقة لي بها، لأنني ولدت لزمن غير زمنها. وعندما بدأ ظهور أمين معلوف في الأدب العالمي، قال لي إنه خرج من عالم الحبر والورق ودخل عالم الكومبيوتر، وراح يشرح لي فوائده وحسناته، ورحت لا أسمع ولا أصغي ولا أهتم. هكذا بدأتُ الكتابة وهكذا سوف أستمر. ورحت أقنع نفسي بخرافات من مثل إحساس القلم بحفيف الورق وترهات أخرى من ذرائع الخاملين.
بعد أعوام قليلة من ذلك اللقاء مع أمين أبلغتُ في الجريدة أن المقالات المكتوبة بخط اليد لم تعد مقبولة مطلقاً. وبدل أن أتعلم مثل غيري على صف الكومبيوتر، بحثت عن طابعة تحارب في قراءة خطي وفك رموزه ودافنشي كود، وتصف المقال وتدخله باب العصر، بينما أنا في الخارج أتفرج.
كنت أكتب عن تخلفي عن اللحاق بالركب مهاذراً، غير مدرك أنني أضحك من نفسي. ووجدت أنه لم يعد في إمكاني حتى أن أطلب سيارة تاكسي لأنني لا أعرف معنى «لوكيشون» على الهاتف. أصبحت عبئاً على جميع أصدقائي الذين يتواصلون بوسائل الضوء وأسلاك الأثير. وبدوت في المؤتمرات مثل راعي ماعز يغني في القفر وحيداً على نايه.
الشيء الوحيد الذي استطعت استخدامه من أدوات العمل الحديثة هو الآيباد.
شكراً يا سيدي ومولاي آيباد. شكراً ومن أين لك كل هذه القدرات: معه أقرأ كل صحف العالم. وأترجم كل الكلمات التي أريدها بكل اللغات. وأبحث عن كل موعد وتاريخ واسم وكتاب وقصيدة وإعلان مبوب وابنة شقيقة الإسكندر المقدوني. يوفر علي الأستاذ آيباد الذهاب إلى المكتبة العامة وإلى بائع الصحف وبائعة الأغاني، ويساعدني في الحساب وفي معرفة طقس البلدان، ويعطيني التهجئة الصحيحة للكلمات، والأسماء، ويشرح لي آلام المفاصل ومعاني الكلمات ويمدني بما كانت تمدنا به من تواريخ وأمثال الروزنامة المعلقة على جدار المطبخ، ويحجز مقاعد السفر، دائماً على الممر، لأن مقعد النافذة يجعلك تزعج جارك عندما تستأذن منه للمرور إلى الحمام. الآيباد مكسب جميل والتخلف عن عصرك خطأ لا يدفع ثمنه سواك.
أكرم البني:عن المشهد العالمي للعام الجديد!
يصح اصطفاء حدثين مهمين، من مروحة أحداث واسعة شهدها العام الفائت، يرجح أن يكون لهما التأثير الأبرز، وإن بدرجات متفاوتة، في تكوين المشهد السياسي العالمي للسنة الحالية، وهما ما يفترض التوقف عندهما لرصد ارتداداتهما على مقومات الأمن والحياة والاستقرار، وعلى العديد من بؤر الصراع والتوتر.
الحدث الأول هو الحرب الروسية الأوكرانية، بما خلّفته من انفتاح المجتمع الدولي على معالم مرحلة خطيرة من الصراع بين الغرب والشرق، تستمد مقوماتها من مناخات الحرب الباردة، وتحدوها عودة بغيضة للصورة النمطية عن دول كبرى تستهتر بمصير الشعوب الضعيفة وحقوقها، وليس لديها أي خوف من الرأي العام والمؤسسات الأممية، تتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في التعاطي مع الآخر ومنازعته على الهيمنة والنفوذ، وتسعى لإرهاقه بالعقوبات الاقتصادية ومحاصرته بما أمكن من التخندقات والتحالفات الحادة، والأسوأ حين يترافق ذلك مع تواتر التهديدات باستخدام أسلحة فتاكة، كالسلاح النووي!
يرجح أن تستمر هذه الحرب طويلاً مع انعدام فرص وقفها وصعوبة التوصل إلى تسوية، فقيادة الكرملين، ورغم ما تعانيه من انتكاسات عسكرية وصعوبات اقتصادية، لن تتراجع عما بدأته وتقبل الهزيمة، بينما يتضح مع كل يوم يمر مدى إصرار الدول الغربية على تقليم أظافر روسيا وإنهاء مخاطرها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي عالمياً وأوروبياً، ما يعني أن الدعم العسكري الغربي لتعزيز صمود الأوكرانيين لن يتراجع، ولن يغير هذه الحقيقة المعاناة اللافتة لعديد من الدول الأوروبية من نقص الغاز والنفط، ولا نيل الجمهوريين المتحفظين على دعم أوكرانيا، الأغلبية بمجلس النواب الأميركي، وآخر دليل، الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني لواشنطن، وما رافقها من قرارات عززت الدعم المالي والعسكري، بما في ذلك تزويد الجيش الأوكراني بمنظومة «باتريوت».
استمرار الحرب يعني أن ما فرضته العقوبات الغربية على روسيا وحلفائها، سوف يعزز ما حصل من تغيير كبير وخطير في النظام الاقتصادي العالمي، لا سيما فيما يتعلق بمصادر الطاقة وتنوع بدائلها وخطوط إمدادها، بينما ستزداد معاناة مجتمعات كثيرة في أفريقيا والشرق الأوسط من البحث عن الحبوب، وخاصة القمح مع صعوبة تصديره من أوكرانيا، ربطاً بتواتر موجات الغلاء وتراجع معدلات النمو عموماً، وارتفاع نسب التضخم، هذا إذا أفلت العالم من ركود قاسٍ.
يرجح في العام الحالي أن تظهر بوضوح تأثير وفاعلية العقوبات الاقتصادية الواسعة وغير المسبوقة التي فرضت على موسكو في إضعاف الاقتصاد الروسي وإنهاكه، كما ستطوى، وربما نهائياً، فكرة الرهان على استدراج قيادة الكرملين لفتح صفحة جديدة مع أوروبا، عبر تشجيع الانفتاح عليها وتقديم حوافز مادية ومزايا اقتصادية، لطمأنتها وتبديل مناخ التوجس والعداء نحو التعاون والشراكة، الأمر الذي أثار الأسئلة.. إن كانت الهزة الأوكرانية ستفتح الباب أمام توسيع الاتحاد الأوروبي، وتمكينه من الحفاظ على ديمقراطيات مستقرة تقترن بمستوى جاذب من الرفاهية الاجتماعية، وبالتالي عن رهان يتنامى على دور جديد لأوروبا، يعيد الشباب للقارة العجوز، كأكبر سوق داخلية في العالم، بكتلة سكانية تقارب النصف مليار إنسان، لتشكل قوة موحدة ومؤثرة يمكنها الحد من طموحات موسكو وبكين، وأيضاً من تفرد واشنطن، وقادرة على المساهمة بجدية في وضع معايير دولية حول الأمن والتجارة والنمو وتغير المناخ وحماية البيئة.
العالم في السنة الجديدة سيبقى ميدان صراع تعجز فيه المؤسسات الأممية بتركيبتها الحالية، كمجلس الأمن والجمعية العامة، عن تحقيق أي اختراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان، ما قد يفضي إلى المزيد من الانقسام والتخندق في مجلس الأمن، وإلى انحسار قدرته على لعب دوره في الوصول إلى حلول توافقية مقبولة تنهي ما يستجد من بؤر التوتر والعنف.
الحدث الثاني، هو تمدد الانتفاضة الشعبية واستمرار المظاهرات التي شهدتها إيران منذ شهور ولا تزال، وإن بأشكال وصور متنوعة، وتأثير ذلك، بشكل ظاهر أو مضمر، على المشهد العالمي وشؤون المنطقة.
من هذه القناة يمكن النظر إلى ما خلّفته تلك الانتفاضة من خلخلة للوضع الإيراني الداخلي، ومفاقمة مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، ومن فضح شدة فتك النظام وفظاظة تنكيله بالمتظاهرين السلميين، ما أدى إلى تنامي تأييد الرأي العالمي بشكل عام للشعب الإيراني وفي أوروبا وأميركا بشكل خاص، والأهم انعكاسه على الرغبة الغربية في تسريع التفاوض مع طهران، التي ترافقت مع وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، ليتضح في الأفق، خيار أقل حماسة وأكثر تشدداً في التعامل مع إيران وملفها النووي، ربما جوهره التخلي عن فكرة التعويل على استمالتها لوقف أنشطتها النووية عبر إغرائها برفع العقوبات.
ثمة من يتوقع بأن يكره هذا الخيار حكومة طهران، ربطاً بعجزها عن إخماد انتفاضة شعب تتفاقم أزماته ومعاناته، على القيام بتنفيذ إصلاحات اجتماعية وسياسية، وربما لإجراء مراجعة لتبديل سياساتها وأساليبها، مرجحاً تراجع قدرتها على شحذ التوتر المذهبي والطائفي وتسعير الحروب والنزاعات الأهلية لتصدير «ثورتها الإسلاموية»، خاصة بعد انكشاف ما سببته تلك «الثورة» من خراب في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي إيران ذاتها، وكيف أوصلت تلك البلدان إلى طرق مسدودة على صعيد تنفيذ برامج تنموية تنهض بالإنسان مادياً وحقوقياً؟!
واستدراكاً، هل يصح أن نتفاءل بأن يشهد العام الجديد تراجع دور حزب الله في لبنان في فرض سيطرته بقوة السلاح على الدولة ومؤسساتها، أو تراجع التدخلات التخريبية السافرة للميليشيا الإيرانية في العراق، أو انحسار دور الحرس الثوري والميليشيا الموالية له في سوريا، كما انحسار قدرة الحوثيين على إجهاض مشروعات التسوية السياسية في اليمن؟
مع ارتدادات هذين الحدثين، لا حلول للمحنة السورية ولا قاع، بل سيتعرف السوريون على مزيد من الإهمال الأممي والاستهتار الدولي بهم، على مزيد من التغول على حقوقهم وشروط حياتهم، واستمرار الاستباحة غير المسبوقة لأرضهم، واستسهال أطراف دولية وإقليمية ومحلية، تخريب وطنهم وسرقة ثرواته وتاريخه ومستقبله، سيتعرف السوريون على معاناة مركبة وغير مسبوقة يكتنفها المزيد من الضياع الوطني، والمزيد من التشتت والتمزق الاجتماعي والتردي الإنساني والاقتصادي والمعيشي، ما يجعل المثل الشعبي «الله يجيرنا من الأعظم» حاضراً بقوة، ويكرر كأمنية لغالبية السوريين في العام الجديد!