نفدت على وجه السرعة التذاكر إلى حفل عمرو دياب في لبنان. وكذلك إلى حفل كاظم الساهر في المغرب. الأول تقاضى 750 ألف دولار، أما الساهر فقد بيعت التذاكر إلى حفله بما يراوح بين 50 و150 دولاراً. هذه الأرقام ليست مفاجئة في عالم الفنون والرياضة على أنواعها، من الرسم إلى الغناء إلى الكرة إلى مادونا التي قاربت ثروتها المليار دولار.
غير أن الحدث في حالتي دياب والساهر، أن الأرقام دُفعت في بلدين ترتفع فيهما نسبة الفقر، ونسبة ما دون الفقر، كما هو الحال في لبنان، حيث يقال إنها بلغت 80 في المائة. هناك إذن شطط اجتماعي، أو أخلاقي ما بين خط الطرب وخط العَوَز! أنت في بلدين يتبعان النظام الرأسمالي، وهو نظام ناجح وبلا قلب ولستَ في نظام اشتراكي فاشل وكبير القلب. والحل الوسط لم يقبله البشر أو يرضون به في أي زمان أو مكان. فالذي يملك يقول لماذا تريد أن تحرمني من سهرة عمرو دياب ما دمت أصرف من مالي وحلالي. والذي لا يملك يقول لك إن تذكرة كاظم الساهر تعادل دخلي الشهري.
يمكن العثور على شيء من العدل هنا، في أن عدداً كبيراً من المطربين حتماً يتصدق ويشارك، وأن الرجلين يدفعان الضرائب. وقد قرأت مرة مقابلة للمطرب العراقي يقول فيها إنه من عائلة مؤلفة من ستة أفراد، كانوا ينامون جميعاً في غرفة واحدة، أي لا تحاولوا أن تعلموني معنى الفقر وعيشته.
هذا النوع من الثروات التي يحققها هذا النوع من النجوم، أهميتها في كونها غنى معلناً ومباشراً. ليست متأتية عن صفقة أو شراكة أو نسبة تتضمن احتمال الغش أو الربح الجائر، وإنما هي، بكل بساطة، موهبة كانت تساوي 10 شلنات وأصبحت تساوي 10 ملايين، بأي عملة كانت. لا يعني شيئاً القول إن أجر عمرو دياب عن حفل واحد (نحو 30 مليون جنيه)، يعادل كل ثروة محمد عبد الوهاب. أو أن «أحلام» أغنى من أم كلثوم. الأرقام في هذا الفضاء الجماهيري مجرد أوتار وحناجر. وتر يرمي السحر على سامعيه فإذا القاعة تهب هاتفة مع كوكب الغناء: فكَّروني إزاي، هوه أنا نسيتك؟
تمتلئ مطاعم لبنان وحاناته وصالاته وكأنها حرب تتحدى الخراب والأسى. ناس تريد أن تقرع الطبول لكي ترد عنها المزيد مما هي فيه. تريد أن تغني في صوت عالٍ مثل خائف الليل الذي يرفع صوته لكي يبعد الأشباح. وينسى اللبنانيون وهم على هذه الدرجة من الخوف أن أشباحهم في النهار… لا في الليل.
سوسن الأبطح:الغد الفرنسي
حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير مصدّق بأن أعمال العنف انتهت في بلاده، وإن هدأت، بعد خمسة أيام من الشغب، أحرقت خلالها خمسة آلاف سيارة وما لا يقل عن ألف مبنى، بينها مدارس ومكتبات وقاعات رياضية، وبلديات، وسرقت محلات تجارية واعتُدي على رؤساء بلديات. ثمة اقتناع بأن ناراً تحت رماد، وأن الآتي لن يكون سهلاً.
تسمع تشخيص ماكرون لأسباب الغضب، تظن أنه رئيس من العالم الثالث، يتهم وسائل التواصل المحرضة، يتحدث عن تأثير عنف ألعاب الفيديو، وما توحيه للمراهقين من رغبة في تقليدها، يهدد الأهالي بمعاقبتهم؛ لأنهم يتركون أطفالهم في الشوارع بعد منتصف الليل يعيثون فساداً. وكله صحيح في جانب منه إلا أن القضية أكبر، والشرخ يزداد عمقاً.
فرنسا تغيرت ديموغرافيتها بمرور الوقت. الدول الاستعمارية لم تتمكن من إغلاق أبوابها، حين بدأت تشعر بالخطر. فهي إن توقفت عن استقبال المهاجرين اختنقت وشلّت، وإن استقدمت اليد العاملة التي تحتاجها، انقلبت قيمها، وتحولت ملامحها.
تمشي في باريس، فلا تعثر على فرنسا التي كنت تعرفها قبل عشرين سنة. تستغرب أن ترى صناديق خضراوات معروضة أمام سوبر ماركت، ومحلات تبيع كل شيء وأي شيء في وقت واحد، من الحذاء إلى زجاجات النبيذ وأغطية الأسرّة، في جادة السان ميشال التي كانت مقصد الطلاب والمفكرين، وقِبلة الباحثين عن الإصدارات وأهم المكتبات.
كانت مشاكل شبان الضواحي مغلقة عليهم في أحيائهم، يغضبون ويحطمون ويتواجهون مع رجال الشرطة، وكأنهم لا يشكلون خطراً سوى على أنفسهم، صاروا يزحفون ويتمددون إلى وسط المدن. أصبحوا أصغر سناً، بينهم أطفال دون الثانية عشرة، وهم أسرع وأكثر خفة وشراسة وعناداً وإصراراً على التخريب.
لكن في فرنسا الغاضبون كثر، والمهاجرون ليسوا وحدهم المتحفزون للتظاهر والتعبير في الشارع. رأينا سلسلة من الموجات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة. تابعنا «السترات الصفراء» ومن بعدهم مظاهرات المناهضين للتطعيم ضد «كوفيد»، والمحتجين على القناع، تلتهم موجة المعترضين على إصلاح نظام التقاعد، والراغبين في وقف مشروع أحواض تجميع المياه الجوفية في سانت سولين وسط وغرب فرنسا، لاستثمارها صناعياً، وهم بالآلاف، يريدون حماية البيئة من جشع الصناعيين.
وزير الداخلية جيرالد دارمانان اعتبر أن أقصى اليسار، كما اليمين المتطرف، يمارس عنفاً شديداً ضد رجال الشرطة. «أمر لا يوصف ولا يمكن التغاضي عنه». في سانت سولين عثر قبل التجمع الكبير على معدات خطيرة وأسلحة من كرات حديدية ومقالع ومواد حارقة وسكاكين وفؤوس.
العنف سياسي أيضاً وفرنسا منقسمة، والشرخ يكبر، بين من عمل على تبرئة الشرطي وشيطنة الطفل نائل، ومن شيطن الشرطي وأخرج المراهق مجرد ضحية، أجهز رجل الأمن عليها بوحشية.
هناك من جمع المال لمناصرة أهل الشرطي الذي أردى المراهق، الجزائري الأصل، نائل ( 17 عاماً) حين رفض الامتثال للشرطة. هؤلاء تمكنوا من جمع ما يناهز مليون ونصف مليون يورو، وهو ما أسماه البعض «صندوق الفخر»، وسماه آخرون «صندوق العار»، ولم يكن يتوقع أن يحصل هذا الفريق على أكثر من خمسين الفاً. أما من طلبوا مساعدة عائلة الشاب نائل، فلم يجنوا أكثر من 300 ألف يورو. علماً بأن من يرى مشاهد الغضب والثورة، والمباني التي تنهار حرقاً وتخريباً، وتسقط كأنها مصنوعة من البسكويت ويشاهد النيران، وهي تشبّ في السيارات في الأيام الماضية، يظن أن المدن وضواحيها كلها في رفض واحتقان.
فرنسا مصدومة وخائفة، وتتوجس من غدٍ لا يبدو سهلاً. لقد فعلت الحكومات المتعاقبة الكثير لمساعدة أهالي الضواحي، صرفت الملايين على مشاريع الإسكان والتعليم والرياضة والفنون والمواصلات، لكن هؤلاء يقولون إن حياتهم لم تتحسن، وفرص العمل ليست أفضل، ولا المدرسة تؤهلهم لنجاح أكبر. تبين أن ضاحية «سان دوني» في باريس كانت تزار من قبل هيئات وزارية كل يوم تقريباً في السنوات الماضية، في حرص على إبقاء الأوضاع تحت السيطرة.
لكن بما أن «الفقر يولد النقار» وثمة من أضاف الانفجار. فإن مشاكل الهجرة والإحساس بالاضطهاد تتصاعد بعد الوباء وحرب أوكرانيا والأزمات الاقتصادية. في المقابل يتنامى شعور بعض الفرنسيين بأنهم باتوا محاصرين بفئة جديدة من الناس لا تشبههم. والسياسة كما في أماكن كثيرة، لا ضمير لها ولا خلق، هي استثمار، غالباً، وانتهازية وتوظيف في المشاعر. والمأساة أن هذا الصنف من الاستغلال اللاإنساني الرخيص بات مبرراً للوصول إلى قلوب الناخبين والفوز في الصناديق حتى في الديمقراطيات العريقة.
جنون المحتجين في الأيام الفائتة وبشاعته، سيكون مبرراً لمزيد من التضييق، ولكلام أعلى في العنصرية والانغلاق، وسن القوانين المتشددة. مشاهد العنف لن تنسى بسهولة. والإجراءات الحاسمة لا بد أن تتخذ. وفي المقابل ثمة من سيشعر بأنه مستهدف للونه أو لأصوله.
فرنسا ضائعة بين نارين، شارك في التأجيج والتجييش في كلا الطرفين، سياسيون ووسائل إعلام وكتّاب، وانتهى الأمر بإحراق وتكسير وخسائر، ومزيد من الكلام العنصري، والقليل جداً من الحكمة والروية والتعقل.