كانت الشمس ترتفع أعلى فأعلى. والصحراء بلا حراك، تمتص أرضها السخونة النازلة، وتزداد احتراقاً. لقد اقتربت الساعة التي يصبح فيها كل شيء جحيماً: الأرض والسماء ونحن. ويعتقد «ابن قبيلة اليوروبا»، أنه إذا تخلَّى عنه ظله سوف يموت. وها هي كل الظلال تبدأ في الانكماش والتضاؤل والتلاشي. إنه ذلك الوقت من اليوم الذي لا يعود فيه للناس والأشياء ظل وهم موجودون، ومع ذلك غير موجودين، تم اختزالهم إلى بياضٍ متوهج.
اعتقدتُ أن تلك اللحظة قد حانت، لكن فجأة ظهر أمامي مشهدٌ مختلف تماماً. الأفق الهامد، الذي سحقتهُ الحرارة انبثق فجأة إلى الحياة، وأصبح أخضر على مد النظر. أشجار نخيل طويلة ورائعة، بساتين كاملة منها على طول الأفق، تنمو بكثافة، من دون انقطاع. رأيت أيضاً بحيرات – نعم، بحيرات – زرقاء هائلة، ذات أسطح متحركة متموجة. نمت الشجيرات الرائعة هناك أيضاً، مع فروع واسعة الانتشار من اللون الأخضر الطازج والمكثف والعصاري والعميق. كل هذا يتلألأ باستمرار، يتلألأ، ينبض، كما لو كان مكللاً بضباب خفيف، ناعم الحواف وبعيد المنال. وفي كل مكان – هنا، من حولنا، وهناك، في الأفق – ساد صمت مطلق عميق: لم تهب الرياح، ولم يكن لبساتين النخيل طيور.
ناديت على السائق سليم أسأله هل يرى ما أرى. لكنه نظر إلى وجهي المتعرق المليء بالغبار من دون تأثر. ومدّ إليّ قربة المياه الجلديّة أشرب منها. ورحت أنهل حتى شعرت بالدوار، فاستندت إلى الشاحنة لكي لا أسقط. وهدأت قليلاً عندما شعرت بعطشي ينحسر والجنون في داخلي يتلاشى. وعاد المشهد إلى حقيقته. أفقٌ فارغٌ وبلا حياة. لقد انتهى عارض الهلوسة التي أصابتني. وها أنا أرى من جديد المياه المقززة الحارة المليئة بالرمل.
قضينا النصف الثاني من اليوم مستلقين تحت الشاحنة، في ظلها الخافت. في هذا العالم الذي يدور حوله كل شيء بآفاق ملتهبة، كنت أنا وسليم الحياة الوحيدة. تفقدت الأرض في متناول يدي، أقرّب الحجارة، بحثاً عن شيء حي، أي شيء قد يرتعش، يتحرك، ينزلق. تذكرت أنه في مكانٍ ما على الصحراء تعيش خنفساء صغيرة يسميها الطوارق نغوبي. عندما يكون الجو حاراً جداً، وفقاً للأسطورة، يعذب نغوبي العطش، ويائسة للشرب، ولسوء الحظ، لا يوجد ماء في أي مكان، وفقط الرمال الحارقة. لكن الخنفساء تعرف كيف تحمي نفسها، فتحبس الماء على جسدها وتلف نفسها كي لا ينشف الهواء الساخن الماء.