“إن الحب في كل زمان وفي كل مكان، لكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت”
إن صادفت رواية الكاتب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز” الحب في زمن الكوليرا، وقرأت أربعمائة وأربعة وأربعين صفحة كاملة، فبالتأكيد تقع عيناك على تلك الجملة المذكورة في البداية، وعند انتهائك من الرواية يُحفر معنى تلك الجملة في ذاكرتك للأبد، وتوقن المغزى الحقيقي من عنوان الرواية.
رغم أن الأحداث الرئيسية في الرواية تدور عن قصة حب بين شاب فقير وفتاة غنية، وتلك القصص تم استهلاكها كثيراً في الروايات، لكن السر يكمن في التفاصيل.
تفاصيل الكاتب التي تجعل من روايته حدثاً استثنائياً، وهذا ما فعله ماركيز عندما جعل من قصة حب عادية ملحمة درامية بوجودها في زمن الوباء وشبح الموت في كل مكان حولهما.
نحن لا نشعر بقيمة ما حولنا أو حتى أنفسنا إلا في اللحظات الأخيرة، وقت الحروب والمرض نصبح بشراً آخرين، إما نزداد بشاعة، أو تزداد الحياة بداخلنا رغم الشعرة التي تفصل بيننا وبين الموت، ونحيا ويتغير التاريخ الزمني، لكن يبقى تاريخ المرض والموت واحداً بمختلف الأسماء، ويبقى تاريخ البشر واحداً بمختلف التطورات.
الوباء احتلال لا تكفيه حرب واحدة..
قد تكون البداية من صحن خفافيش دسم، أو حرب كيميائية بين الدول، لا أظن أن ذلك يشكل فارقاً كبيراً الآن، لكن بين ليلة وضحاها بالتحديد في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بمدينة ووهان شرق الصين، بدأ انتشار فيروس كورونا في جميع أنحائها وخارج حدودها، كان يتخذ البشر وسيلة تنقله الوحيدة ليعلن احتلاله للصين بأكملها ومن ثم احتلاله لأكثر من127 دولة أخرى.
والمعتاد أن الزمن يستمد طاقته ليتمدد من إعادة نفسه، بمختلف المسميات والأشخاص، لكن بطبع واحد يحمل الكثير من القسوة والقليل من العدل.
بداية من الهند مروراً بكل بلدان العالم، بدأت الكوليرا في الانتشار في شتى بقاع الأرض في عام 1817، ذلك الوباء استطاع أن يحصد الملايين من البشر بمختلف جنسياتهم وأصولهم، لم يعرف العنصرية أبداً في انتقائه للضحية القادمة، قتل الآلاف من القوات البريطانية، وأكثر من 15 مليون هندي بين عام 1817 و1860، والوفيات الروسية خلال تلك الفترة الزمنية تجاوزت مليوني نسمة، حتى وصل البلاء إلى مكة المكرمة وتوفي نصف الحجاج.
لذلك أصبح وباء الكوليرا من أكثر الأمراض المعدية التي فتكت بالحياة البشرية، وهو بكتيريا تصيب الجهاز الهضمي، ومعظم المصابين لا يمرضون مباشرة لأن تلك البكتيريا لديها القدرة على الاستمرار في الجسد لمدة تتراوح من 8-14 يوماً.
كيف ضرب طوفان الكوليرا مصر!
الموت الأسود، اللقب الذي ناله طوفان الكوليرا بانتشاره وسط المصريين وقتله الآلاف منهم خلال ثلاث هجمات شنها على مصر في ثلاث فترات زمنية مختلفة..
بدأت الهجمة الأولى في محافظة دمياط يونيو/حزيران 1883، وانتشر الوباء بسبب أن احد قادة البواخر البريطانية القادمة من الهند إلى بورسعيد كان يحمل المرض، وبمجرد أنه خطا خطوته الأولى في دمياط حتى بدأ انتشار الوباء بين الناس.
وفي ذلك الوقت حاول الاحتلال البريطاني استغلال الوضع، ونشر شائعات بأن الوباء مصدره في الأساس مصر محاولاً استغلال ذلك الوباء في عزل مصر عن باقي العالم، لكن أكدت البعثات الطبية بعد ذلك أن المرض موطنه الأصلي كان الهند.
وانتشر المرض من دمياط إلى باقي المحافظات وتجاوز عدد ضحايا الوباء في القاهرة وحدها خمسة آلاف ضحية، وكان يومياً يقتل الناس بالمئات.
حتى ديسمبر/كانون الأول 1883، عندما انتهى طوفان الكوليرا في مصر وفي طريقه بلغ عدد القتلى 60 ألفاً، ولم يكن مرَّ على مصر قبل ذلك مرض أبشع من هذا الوباء.
ثم عاد مرة أخرى عام 1902، وبدأ انتشاره من معسكرات الجنود الإنجليز في التل الكبير، ثم انتقل إلى باقي مصر وقضى في تلك المرة على حوالي 35 ألف شخص.
وفي المرة الثالثة، وكانت تلك المرة الأخيرة التي يطمع الكوليرا فيها في احتلال مصر كغيره من المستعمرين الأجانب، بدأ الأمر من مركز فاقوس بالشرقية عندما مرض اثنان من الفلاحين وتم تصنيفهم في البداية مريضي تسمم غذائي لكن بعد يومين ساءت حالتهما بشدة وتم نقلهما للمشفى، وفي نفس العنبر مات 7 حالات وبعدها تم إعلان انتشار الكوليرا في مصر مرة أخرى عام 1947.
وفي تلك المرة انعزلت مصر عن العالم كله بالفعل لتستطيع السيطرة على الوباء وتم منع السفر من وإلى مصر، وقام الجيش والشرطة بمحاصرة القرية ومنع الخروج والدخول منها، وعزل الحالات المصابة، ومنعوا السفر بين المحافظات، وكان مسموحاً بشرط واحد هو أن المسافر تم تطعيمه ويحمل تصريحاً طبياً، ووضع تحت المراقبة لمدة 6 أيام قبل سفره، وإذا تم اكتشاف مسافر بدون تصريح يتم عزله ووضعه في الحجر الصحي.
في ذلك الوقت لم يكن هناك علاج للمرض سوى الفاكسين، ورغم أن الوباء لم يفرق بين غني أو فقير لكن العلاج كان يجيد التفرقة بجدارة، فكان الفاكسين باهظ الثمن وقصر استخدامه فقط على الفريق الطبي وأصحاب الثروة والنفوذ، وبعد ذلك بعام رحل وباء الكوليرا عن مصر بلا رجعة.
اليوم السادس.. حكاية فيلم استغل عظمة الفن في توثيق المصائب
“لقد أصيب حسن بالكوليرا، كررتها صديقة لنفسها عدة مرات لكي تقتنع، الآن حسن والكوليرا أصبحا شيئاً واحداً فلا بد من قبولهما معاً، كالموت والحياة يجب قبولهما معاً”.
لم يكن ماركيز الوحيد الذي غلف عمله الفني بدرامية الوباء القاسية، فعلتها الأديبة الفرنسية “أندريه شديد” في روايتها اليوم السادس، التي قام بعد ذلك يوسف شاهين بتحويلها إلى عمل سينمائي من إخراجه وإنتاجه عام 1986 وبنفس اسم الرواية.
كان يحكي عن مصر في الأربعينيات عندما هاجمتها الكوليرا، متجسدة الحكاية في صديقة التي تسعى لشفاء حفيدها حسن من الكوليرا في 6 أيام، ويقينها بحدوث ذلك عندما يرى بحر الإسكندرية لأول مرة، في تصورها البسيط أنه عندما تهاجم الحياة المتمثلة في البحر، ألم الموت الساكن داخل حسن المتمثل في الكوليرا سوف تنتصر الحياة كعادة النهايات السعيدة دوماً، لكن أيهما سوف ينتصر! ذلك السؤال الذي تغرق فيه كمشاهِد لنهاية الفيلم.
يحتوي الفيلم على ملحمة من العظمة تظهر في أغنية من كلمات صلاح جاهين وهو يصف تلك المأساة على أنغام عمر خيرت، بصوت محمد منير الشجي.
“بعد الطوفان نلقى الصديق الزين.. يتسندو على بعض بالكتفين..
ونقول ده والله حرام ما بنبتديش العلام غير بالطوفان يعني؟
لازم طوفان.. لازم طوفان!”
ويظل السؤال القائم، لازم طوفان لتستيقظ البشرية من غفلتها!
أعلم أن يوماً سوف تنجلي الكورونا، لكني أجهل الوقت بالتحديد، أو بعد كم ضحية سوف ينتهي الوباء!
لكني أتمنى يوماً أن أعود لأعانق أحبائي بدون خوف من أن أصيبهم بعدوى لا أعلم هل وصلت لي لتسكن جسدي بعد أم لا!
عندما تُقبل الزيارات مرة أخرى، ونعود لنحتضن السماء بحرية بعيداً عن حوائط المنازل، ونصلي سوياً ونضحك بلا خوف، ونشعر بلذة النجاة المؤقتة، ثم بعدها نعود لنعتاد روتين الحياة الطبيعية مرة أخرى ونمارس كل عاداتنا المدمرة للكوكب، وتتحقق جملة فيلسوفي العظيم نجيب محفوظ “آفة حارتنا النسيان لذا تتكرر مصائبنا”، ولذلك يعيد الزمن نفسه دائماً.