لو محوت محيط الدائرة فسينهار مركزها، المركز سيتحول إلى مجرد نقطة عادية، لأن المركز مركز بفضل المحيط، وعليه فإن علاقة السيد والعبد تبدأ في التهدم بفعل نشاط العبد نفسه.
بفهم تلك الفكرة نستطيع تفكيك عقدة ارتباط كل هامش بالمركز، وفهم العلاقة التركيبية للظروف الطبقية وللصراعات المتعددة التي طرحها القائمون علي فيلم “طفيلي”.
قال مخرج الفيلم في كلمته بحفل الأوسكار، إنه لم يتوقع أن ينتشر الفيلم هذا الانتشار العابر للغات والجنسيات والشعوب، وأن الفيلم ليس بناطق باللغة الكورية وحسب؛ بل ينطق بلغة غالبية العالم، لغة الفقر والاستغلال.
من هنا نستطيع أن نقر بأن المفارقة التي أتى بها العمل ليست بجديدة، وليست بشيء مُبهم؛ بل إنها مفارقة اليوم والأمس والغد، إنها فكرة الصراع الطبقي، قد تغيب وتبتعد وتتهمش، وقد يتم تمويهها بصراعات وتعقيدات عديدة، ولكنها تقترب ما إن يعي الهامش أو المحيط وجوده.
عائلتان كوريتان تمثلان تلك المفارقة، عائلة تمثل المركز، والأخرى تمثل الهامش، والواقع هو ما يجمعهما من خلال إطار علاقة السيد والعبد.
عائلة المركز تعيش في أرقي الأحياء المعزولة والمنَّسقة بشوارع نظيفة وممهدة، ببيت مقام على مئات الأمتار بطابقين ومساحات خضراء وقبو أرضي وخدم وسائقين ومعلمين خصوصيين وطبيعة استهلاك غير محدودة، وحجرة خاصة للملابس، وأجود الخمور والطعام والفاكهة المستوردة، ورفاهيات ورحلات ورغبات مجابة للأبناء.
أما عائلة الهامش فلا تمتلك مما سبق إلا قبواً أرضياً للعيش، مساحته بضعة أمتار، في أحقر الأحياء الشعبية، تعيش وتقتات تلك العائلة بأكملها على صناعة وتوريد صناديق لتغليف البيتزا لأحد المحلات التجارية.
ما هو الإطار الممكن من خلاله أن تتداخل العائلتان في علاقة اجتماعية؟!
بالطبع إطار السيد والعبد، فأسرة المركز تريد خادمة ومدبرة منزل، كما تريد سائقاً، ومعلمين ومربين للأبناء، وحتما تلك الوظائف وقفٌ على صراع ثانوي ينشأ بين الطبقات الأدنى والأفقر، الباحثة عن عمل بأجر مُجزٍ.
عائلة تبحث عن توفير سبل راحتها، وأخرى تبحث عن تحسين أحوالها بعض الشيء، ولكن من السهل أن تجد عبداً، والأصعب هو أن تفرض نفسك كعبد!
فطبقاً للمبدأ السائد الذي تحيا في ظله الطبقات الوسطى والفقيرة، مبدأ “استغل واغتنم الفرصة” أو مبدأ “من أين تؤكل الكتف؟!”، تلك المبادئ التي تحكم فرص العمل، غاضةً البصر عن المؤهلات الشخصية والقدرات الذاتية والشهادات التعليمية، لصالح التوسط والوصاية، فهكذا تجري الأمور، وهكذا جرت وأتت بفرصة عمل لأحد أفراد عائلة الهامش، كمعلم لأحد الأبناء، وببعض من الفهلوة واستغلال الفرصة استطاعوا أن يعرفوا من أين تؤكل الكتف؟!
فاقتنصت الأخت وظيفة معلمة أيضاً، وتسلم الأب عمله الجديد كسائق، ولم يتبقَّ سوى الأم التي بالنهاية أصبحت مدبرة للمنزل، والآن أصبحت العائلتان تحيا حياة واحدة، حياة المركز الذي بحاجة لهامش، السيد الذي يلزمه عبد، المالك والمستحوذ ومصدر الدخل في جانب، والطفيلي على الجانب الآخر.
الجزء الأول من الفيلم يُبرز طريق الحصول على وظيفة، المليء بالصراعات العنيفة التي تصل للحالة الدموية التي تملَّكت أسرة الهامش، للحفاظ على ما تملَّكته أمام المنافسين السابقين، الذين لم يبقَ لهم أيضاً سوى أن يقاتلوا، كأنها امتداد لحالة الحرب التي طغت على الكوريين، إثر الاحتلال الياباني ثم حرب الكوريتين، وماذا الآن بعد انتهاء الحروب واستتباب الوضع وتحوُّل كوريا الجنوبية لعملاق رأسمالي حديث؟!
هكذا هو الحال المزري الذي صوَّره المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون: الفقر بكل تجلياته، التفاوت الطبقي الصارخ المتعارف عليه عالمياً، إنها “الطفيلية” الناشئة عن الوجود الرأسمالي نفسه، وهكذا هي شرور الفقر التي تدفع المرء إلى أن يقاتل ويتآمر ويخطط لكي يعمل، سائق أو معلم أو خادم، أو بالأحرى عبد.
تبدو الحياة واحدة، في حين يخبرنا الواقع بالاختلاف، فالمطر ينزل على الجميع، ولكن هناك من يراه رومانسياً وهناك من يراه كارثياً، في واحدٍ من أقسى المشاهد الانفعالية، على أريكة مريحة يتغازل أب وأم ويتهيئان لممارسة الجنس في ليلةٍ ممطرة، في حين يحرسان طفلهما المدلل والمغامر الذي يقضي ليلته في الحديقة بداخل خيمة أمريكية الصنع مانعة للمطر، وعلى الجانب الآخر تجد العائلة الأخرى قبوها الحقير وقد غمرته واختلطت به مياه الأمطار بمياه الصرف، فيغرق البيت ولا يجدون سوى مأوى عام ليبيتوا فيه!
نعم، تبدو الحياة واحدة، والواقع هو اختلاف للأذواق والاختيارات الفردية، ما الفارق بين الأنيق المُهندم الذي يفوح منه عطر “بلو دو شانيل” أو الحقير العامل الذي تفوح منه روائح رواد المواصلات العامة؟!
الفارق أن الأول يجلس مع عشيقته ليتأفف ويشمئز من رائحة سائقه الكريهة، في حين لا يغلق الثاني نافذة القبو وعندما يأتي عمال رش المبيدات الحشرية الحكوميون لرش الحي، يحث أفراد الأسرة على إبقاء النوافذ مفتوحة. ويقول: “سنحصل على إبادة مجانية!”.
المشكلة لا تكمن في شرور الفقراء ولا أخلاقيات الأغنياء؛ بل في كون النظام الرأسمالي مصمَّماً بالأساس على خلق الثنائية: سيد/عبد، مالك/أجير، ثروة/أجرة، لذا فمن يتخيل أنه من السهل إذابة كل تلك الفوارق الطبقية والتناقضات الحياتية والشعورية فهو واهم، فالترديد الدائم لمقولة “الحياة فرصة” هي مقولة رأسمالية بامتياز، هي مقولة غير عادلة بالمرَّة، لأنها تنظر إلى الحياة والواقع على أنهما سيان على الجميع، بينما واقعنا، واقعنا الطبقي يخبرنا عكس ذلك.
وهكذا تخبرنا نهاية الفيلم المرعبة، نهاية ذروة العنف والصراع، حيث حفلة طارئة تقيمها العائلة الثرية بمناسبة عيد ميلاد طفلها، حيث يطلب الأب الغني من سائقه أن يتنكر في زي معين لتشكيل مشهد ما لصالح رغبات الطفل وتسلية الآخرين، كم يبدو الطلب تافهاً! ويستشعر هذه التفاهة الأب الغني وسائقه، ولكن الغني يبرر الأمر موجهاً كلامه إلى السائق: “اعتبِر الموضوع جزءاً من عملك، سأعطيك أجرة إضافية!”.
هكذا يكون الأمر، مقابل التأفف والاشمئزاز والتفاهة يكون أجرة إضافية!
لتتحول الحفلة بالنهاية لساحة دموية تماماً، نهاية لكل الصراعات الدائرة خلال الفيلم، ينتقم متنافس قديم من العائلة الفقيرة التي نازعته في قبوه وعمل زوجته الخادمة، بأن يقتل ابنة السائق، فيهرع الحضور، ويطلب مالك البيت الثري مفتاح عربته من سائقه، الذي يجلس أمام ابنته المطعونة، في حين لا يهتم مالك البيت إلا بنجدة أفراد أسرته، وأنه يريد مفاتيح سيارته، ليسقط بعدها مطعوناً من قِبل السائق.
في كل تفصيلة وجانب ومشهد بالفيلم، لا تستطيع إلا أن تكون غاضباً ومنفعلاً، لا تجاه القتل والعنف؛ بل تجاه أصل القتل والعنف، منبع الكراهية والتفاوت والتمييز الطبقي، الإطار المصمم الذي لا فكاك منه الذي لا ترى من خلاله إلا السيد سيداً والعبد عبداً، وبالنهاية الفيلم عمل فني بامتياز، أدى رسالة مثالية، وحبكة درامية وقصة وتناولاً، والأهم والأدعى هو الرسالة والموقف الاجتماعي، فلا شيء أكثر سهولةً من أن تكون تافهاً وعدمياً، بأن ينمو حس اللامبالاة تدريجياً، أن تعرف عن الألم والفشل والهزيمة والجوع والموت، ولا تنحاز، في وقتٍ كان مطلوباً أن تُنتَج روايات بلا صراع، وقصص أفلام تناسب الفئة العامة من جموع المتفرجين، غير المؤمنين بجدوى وماهية الحياة، قصص لأبطال خارقين، غير آدميين، لتصبح الرسالة النهائية:
إن البشر غير قادرين على تدبير أمورهم.
الإنسانية تسير نحو الهاوية.
مثلما ذكرتُ فالفيلم لا يأتي بجديد، في الوقت نفسه الذي يخبرنا الفيلم بالفكرة الغائبة والمستبعدة، التي كثيراً ما تم تمويهها وتشويهها، إنها فكرة الصراع الطبقي في عالم أفرغ الصراع من محتواه لصالح ما هو تافه، “فالتافهون سيطروا على مفاصل كل شيء”، بحسب تصريح آلان دونو، وغابت القضايا الكبرى التي تتصل عضوياً بحياة البشر ومتطلباتهم وتطلعاتهم لحياة آمنة وعادلة.
في الوقت الذي تميل فيه الفلسفات الجديدة -فلسفة ما بعد الحداثة- إلى اعتقاد أن هناك إما سرداً كبيراً واحداً، وإما كثيراً من الروايات الصغيرة، فيوبِّخون من يتحدثون عن الصراع الطبقي بأنهم ليس لديهم شيء ليقولوه عن الويسكي، وعن الجمال والشهوانية، عن الجنس والفوت فيتشزم، والسينما والتصوير الفوتوغرافي، وممارسة الرياضة وقراءة الأدب والنظافة الشخصية والتأثير البيئي من عوادم الكربون!
نعم، من يتحدثون عن الصراع الطبقي لا يخبرون عن كل شيء، ولكننا نستطيع أن نُخبر عن الأساس المُحدد لكل شيء، وكيف أن كل شيء هو في المسار العام للأحداث، كل شيء هو التاريخ، وكل شيء له تاريخيته، وهذا هو كل شيء.