«الصراع من أجل سوريا»
عام 1965 صدر للكاتب البريطاني، باتريك سيل، كتاب بعنوان «الصراع من أجل سوريا»، ما لبث أن تحول إلى مرجع تاريخي. كان «سيل» قد نشأ في دمشق حيث يعمل والده قساً بروتستانتياً، وقد أعطته تلك المرحلة ميزة على سواه: الطريقة البريطانية في البحث، ومعرفة المجتمع السوري في نسائجه العميقة. وتحول العنوان في حد ذاته إلى مظلة يمكن أن يُنشر تحتها أي كتاب. أول ما خطر لي ونحن نرى شوارع حلب شبه خالية، مثل قرية ريفية، ذلك العنوان المتكرر: من سوريا الاستقلال، إلى سوريا الأسد. دولة في صراع لا يهدأ، فيما عدا مرحلة قصيرة مع حافظ الأسد، والباقي ومنذ الاستقلال صراع في الداخل والخارج، صراع ثكنات، وصراع أجنحة. يحرك كل هذا التنازع شعار واحد: فلسطين.
غابت فلسطين قليلاً في حلب وإدلب وتل رفعت، لسبب المفاجأة المثيرة. هنا، وللاضطرار، سميت الأشياء بأسمائها. ولم تأخذ تركيا والأكراد في الاعتبار أن العالم العربي حقاً على الطريق إلى فلسطين. وإذا بالصراع من أجل سوريا تتسع دوائره، ويبدو واضحاً أنه ذلك الصراع الأبدي من أجل كل شيء.
مرحلة الرئيس حافظ الأسد، كان هناك الصراع، وإلى جانبه اهتمام ببناء الدولة والاقتصاد والدبلوماسية، وما إلى ذلك من ضرورات الدول العادية. الظروف الداخلية والخارجية لم تعط الفرصة نفسها للرئيس بشار. هذه المرة كان الصراع دموياً يشتت السوريين عبر الحدود. وبدا أنها معركة وجودية حاسمة، ولا تحتمل المزيد من التنظير.
والجوار نفسه لم يكن لا مبالياً أو محايداً. القوات التركية تدخل سوريا والعراق كأنها في مهرجان قومي من أيام السلاطين. وحدث تطور استراتيجي لا سابقة له: لبنان، الذي ليس سوى «خاصرة» سوريا، يقاتل من خلال «حزب الله» من أجل حماية النظام ويحول دون سقوطه، كما قال الرئيس بشار الأسد. ثم فجأة تنقلب المنطقة برمّتها بعد غزة. ويبدو من وجوه الصراع الضغط على دمشق لفك التحالف التاريخي مع إيران، الذي غير في الماضي الخريطة العربية في ركائزها.
كل يوم يتبيَّن أننا أمام صراع قوي ومتغيرات، نراها ولا نعرف إلى ماذا سوف تنتهي. أو إذا كان لها من نهاية.
من حيث المبدأ، فإن ما يجري في المنطقة يسرّ الخاطر، وليس العكس. ففي أي منطقة أخرى من العالم، يمكن أن ترى هذا الزحام من الإمبراطوريات، السابقة واللاحقة، تحاول استعادة بعض ما فقدته على مرّ العصور. حاول أن تسمي من تشاء: تركيا والإمبراطورية العثمانية، هنا، إيران وبلاد فارس. هنا، روسيا وحلم القياصرة بالمتوسط، في حميميم. اتبعني رجاء، بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، تتقدمها طبعاً القوة الأميركية بأساطيلها وحاملاتها وغواصاتها النووية.
أمضينا القرن الماضي في الشوارع نطالب بسقوط الاستعمار والإمبريالية. الآن نطالب بعودتهما. مرت ستون سنة على وفاة جواهر لال نهرو. وحتى اللحظة، تعود إليه الهند في كل شيء. الأكثر أهمية من طرد الاستعمار كان الدولة البديلة التي بناها. والوحدة التي أرساها بين مجموعات من المتخلفين والبدائيين.
الإمبراطوريات التي تحاول العودة من بوابات العرب، تجد أنه ليس من شيء تعود إليه. شعوب فقيرة وغارقة في الفقر والغطرسة. ما من مشروع واحد يستحق الذكر في أي حقل من الحقول. في اللقاءات التي أجراها الأستاذ غسان شربل مع صهر صدام حسين، روى الرجل أن زعيم حزب «البعث» فؤاد الركابي قال يومها لصدام: «إن عبد الكريم قاسم رجل نزيه، لكن الحزب قرر أنه يجب أن يُقتل».
بدأت يومها في العالم العربي سلسلة مشابهة من قرارات الأحزاب. آه، صحيح أنه نزيه، لكن يجب أن يقتل. ودائماً. في محاكمات خاصة بالرفاق. لا أعتقد أن بين الزملاء الصحافيين في العالم العربي من أجرى من المقابلات السياسية مقدار ما أجرى رئيس التحرير على مدى نصف قرن. وتشكل هذه المجموعة مرجعاً وثائقياً، مذهلاً. ومما أذكره من لقاءات رئيس التحرير حول الحرب اللبنانية قول إيلي حبيقة أنه أراد وضع «محشاية» لرفيقه سمير جعجع. و«المحشاية» في لغة المقاتلين الظريفة، هي التفجير الهائل. وعاد حبيقة فقتل في تفجير استهدف سيارته. بعدما كان تفجير آخر قد فشل في نسف يخته.
الفكر لا ينمو في الأزقة، ولا الخلق أو الدولة. والآن حان موعد المفكرين وأهل الرؤية وأهل العقل. «لغة التواصل… كلام زعران»