تحاول “قسد” عبر عملية “معركة العودة” السيطرة على كامل مناطق شرق نهر الفرات في دير الزور، وإبعاد خطر الميلشيات الإيرانيّة الذي يهدد نفوذها، ما يتوافق مع رغبة أميركية غير معلنة في إبعاد تلك الميليشيات وتأمين قاعدتها في حقل غاز كونيكو القريب.
أطلق “مجلس دير الزور العسكري” التابع لقوات “قسد” صباح يوم أمس الثلاثاء 3 كانون الأول/ ديسمبر، عملية عسكرية في ريف محافظة دير الزور الجنوبي الشرقي، بمشاركة أبناء القبائل العربية، بخاصة قبيلة البقارة، بهدف السيطرة على مناطق نفوذ النظام السوري والميليشيات الإيرانية شرق نهر الفرات.
العملية التي حملت اسم “معركة العودة”، بدأت صباحاً عبر محورين، المحور الأول، من جهة بادية بلدة خشام باتجاه الجنوب إلى مركز بلدات خشام ومظلوم. أما المحور الثاني فانطلاقاً من دوار المعامل باتجاه قرى الصالحية والحسينية، التي تُعتبر مدخل مركز مدينة دير الزور الشمالي.
العملية بدأت بتمهيد ناري من القوات المهاجمة على خطوط التماس، ثم دخلت آليات ثقيلة من الجرافات، في محاولة لكسر السواتر الترابية على خطوط الجبهة، للسماح للقوات المهاجمة بالتوغل داخل المناطق المستهدفة.
قوات النظام السوري ردت على الهجوم بقصف مدفعي وصاروخي استهدف مناطق التماس، إضافة الى استهداف قرى الحصان والجنينة ومنطقة المعامل، كما دفعت بتعزيزات كبيرة لصدّ الهجوم، منها مقاتلون من لواء الباقر الذي يقوده نواف البشير، وآخرون يتبعون لقوات “القبائل والعشائر”، التي يتزعمها شيخ قبيلة العقيدات إبراهيم الهفل.
رغم مرور 24 ساعة على الهجوم، لم تتمكن قوات مجلس دير الزور العسكري وأبناء القبائل التي تسانده، من إحراز أي تقدم على طول خطوط المواجهة، بسبب الكثافة النارية لقوات النظام والميليشيات الموالية لها، إضافة الى عدم وجود قوات عسكرية كافية دفع بها المجلس أو قوات “قسد” إلى خطوط الجبهة، بينما اكتفى طيران التحالف الدولي بقصف مواقع للنظام في بلدة مراط بعد ساعة من الهجوم بغارتين فقط.
تهدف قوات “قسد” ومجلس دير الزور العسكري، من “معركة العودة”، إلى مجموعة من الأهداف، منها ما هو عسكري أمني، وآخر يتعلق بتحسين علاقتها مع السكان المحليين في المنطقة، وآخر سياسي للضغط على النظام السوري.
أما الهدف العسكري والأمني، فهو السيطرة على قرى الحسينية، الصالحية، حطلة، مراط، مظلوم، خشام والطابية، التي تقع شرق نهر الفرات، والتي سيطرت عليها قوات النظام والميليشيات الإيرانية عام 2017، بعد انهيار تنظيم “داعش” في المنطقة.
معارك حول “الغاز”؟
تهدف “قسد” من عملية السيطرة على هذه البلدات والقرى السبعة، إلى السيطرة على كامل مناطق شرق نهر الفرات في دير الزور، وإبعاد الخطر الذي يهدد نفوذها انطلاقاً من هذه المناطق، بخاصة بعد محاولة إيران عبر لواء الباقر في دير الزور الذي يقوده نواف البشير، وجيش القبائل والعشائر العربية الذي يقوده إبراهيم الهفل، شنّ هجمات عليها انطلاقاً من تلك المناطق خلال العام الماضي.
يتوافق هدف قوات “قسد” من تأمين مناطق سيطرتها، مع رغبة أميركية غير معلنة في إبعاد تلك الميليشيات وتأمين قاعدتها في حقل غاز كونيكو القريب، الذي لطالما تعرض لاستهدافات مباشرة من الميليشيات الإيرانية والروسية عبر تلك القرى، بما فيها هجوم قوات فاغنر التي حاولت الوصول الى الحقل عام 2018، لكن تدخل طيران التحالف منعها، بالإضافة الى هجوم ميليشيا الباقر العام الماضي، الذي تزامن مع ثورة أبناء القبائل العربية على الإدارة الذاتية على خلفية حل مجلس دير الزور العسكري واعتقال قائده أحمد الخبيل أبو خولة.
طرد قوات النظام والميليشيات الإيرانية من هذه المناطق إلى غرب نهر الفرات، سيؤمن مناطق سيطرة “قسد” شرق النهر، ويجعلها بعيدة من هجمات تهدّد زوالها، كون وجود النهر يشكل حاجزاً طبيعياً يمنع الهجمات الكبيرة، بخاصة في ظل دمار جميع الجسور التي تربط ضفتي النهر. تبقى فقط الهجمات الصغيرة التي يشنها مقاتلون عبر النهر، وهذه يُمكن التعامل معها بتكثيف الحراسة ونقاط المراقبة على طول النهر.
إعادة المهجّرين و”التقرّب من المجتمع العربي”
هدف قوات “قسد” الثاني من المعركة، هو تحسين علاقتها مع المجتمع المحلي العربي في المنطقة، بخاصة أهالي القرى السبع المهجرين منها منذ عام 2017، الذين يعيشون في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وقسم منهم ينضوي تحت مجلس دير الزور العسكري التابع لها، إذ يقود هؤلاء احتجاجات مستمرة تطالب “قسد” بالسيطرة على المنطقة وإعادتهم إليها.
كما تحاول الإدارة الذاتية “التقرب من المجتمع العربي” من خلال هذه العملية، بسبب اتهامها بعدم مهاجمة النظام والميليشيات الإيرانية، بخاصة مع التطورات العسكرية في شمال غربي سوريا وتقدم فصائل المعارضة إلى أطراف مدينة حماة، حيث يعتبر المجتمع المحلي النظام وإيران عدواً حيوياً له، وكان هذا أحد أسباب تمسّكهم بالإدارة الذاتية، لعدم توافر أي خيار آخر أمامهم سوى النظام وحلفائه في مرحلة انهيار “داعش”.
بين الهدفين العسكري وتحسين العلاقة مع المجتمع المحلي، لدى الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا وذراعها العسكري “قسد”، هدف سياسي، يتمثل في الضغط على دمشق للوصول إلى تسوية مرضية بين الطرفين، تحقق مطالب الإدارة الذاتية بخاصة المتعلقة بأكراد سوريا، مع إصرار النظام طوال تلك السنوات على عدم تقديم أي تنازلات ومطالبته لها بالعودة إلى كنف الدولة السورية من دون شروط مسبقة.
تعد معركة العودة محدّدة الأهداف عسكرياً وتندرج ضمن المعارك المحدودة غير المفتوحة، إلا أنها ستكون صعبة عسكرياً لأسباب عدة.
أولها، أن منطقة العمليات العسكرية وساحة المعركة المحيطة بالقرى السبع صعبة على القوات المهاجمة، بسبب وجود مساحات كبيرة مكشوفة بين تلك القرى والبلدات وخط التماس مع قوات “قسد”، ما يُلزم القوات المهاجمة التقدم عبر أراضٍ تساعد على التخفّي أو تأمين الحماية، ما يجعلها تحت مرمى نيران القوات المدافعة التي تستخدم الغطاء الناري الكثيف لمنع التقدّم.
كما أن تمركز قوات النظام السوري على جبل مدينة دير الزور، يمنحها إشرافاً مباشراً على ميدان المعركة وخطوط إمداد القوات المهاجمة، ما يمُكّنها من استهداف التحركات عبر سلاح المدفعية والراجمات والهاون، وهذا ما منع حتى اللحظة إحراز أي تقدم على الأرض لمجلس دير الزور العسكري والقوات القبلية المساندة له.
ثانيها، عدم دفع قوات سوريا الديمقراطية مجموعات عسكرية إلى دير الزور للمساندة في المعركة، بسبب توجه معظم قواتها إلى مناطق ريف حلب الشرقي والجنوبي الشرقي، حيث التقدم مستمراً لقوات الجيش الوطني المدعوم من تركيا إلى مناطق سيطرتها، فتحاول دفع كامل إمكاناتها لصد الهجمات ومنع الجيش الوطني من تهديد مناطق نفوذها الاستراتيجي، بخاصة مدينة منبج وما حولها.
ثالثها، ضعف إمكانات مجلس دير الزور العسكري بالمقارنة مع قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران، إذ فقد الكثير من معداته العسكرية، مثل العربات المصفّحة والأسلحة النوعية بعدما تم حله واعتقال قادته عام 2023، وعند إعادة تشكيله لم يتلقَّ التسليح الكافي.
رابعها، عدم وجود دعم واضح من قوات التحالف الدولي للعملية العسكرية، باستثناء غارتين جويتين استهدفتا مواقع النظام وحلفائه. وبحسب قادة عسكريين في المجلس، فإن “الغارة لم تكن بهدف الإسناد إنما جاءت رداً على مصادر نارية استهدفت القوات الأميركية في حقل كونيكو”.
خامسها، وجود القوات الروسية في تلك المناطق، ووجود إيراني مباشر أيضاً، يهدف الى حماية بعض سكان تلك المناطق، بخاصة بلدتي حطلة ومراط (نصف سكانهما من الطائفة الشيعية)، اللتين تعرضتا لهجمات وتهجير خلال السنوات الأولى للثورة، بعد هجوم جبهة النصرة وفصائل محلية عليهما ثم العودة عام 2017 مع سيطرة النظام على تلك المناطق.
سادسها، انضمام مقاتلين من قبيلتَي البقارة والعقيدات إلى جانب النظام في المعركة، وهؤلاء لديهم الخبرة في التصدي لمثل هذه الهجمات، نتيجة انخراطهم بالصراع سابقاً ضد النظام و “داعش” ثم قوات سوريا الديمقراطية لاحقاً، إضافة الى العقيدة القتالية لمقاتلي الطائفة الشيعية في تلك المناطق التي يحاولون الدفاع عنها، إذ ينتمي معظمهم للحرس الثوري الإيراني وميليشيات حزب الله في سوريا.
رهانات “معركة العودة”
بناء على الأسباب المذكورة، قد تكون المعركة صعبة وشاقة على طرفي الصراع، لكنها تحمل في طياتها أمرين مهمين في حال انتصار أي من طرفي الصراع، فانتصار “قسد” سيكون ضربة قاتلة لمشروع إيران شرق سوريا، كونها تستغل أبناء المنطقة من الشيعة لتكوين نموذج عسكري مناطقي مرتبط بها ارتباطاً عضوياً، وهو امتداد لعملها في نبل والزهراء وكفريا والفوعة، مستنسخة تجربة الضاحية الجنوبية في بيروت.
أما فشل الهجوم ونجاح النظام وإيران في صده ومنع أي تقدم، فسيثبت هذا الوجود أكثر في المنطقة وتعود الهجمات منها إلى مناطق الإدارة الذاتية بوتيرة أشد قوة، ما يجعل المنطقة تعود إلى حالة عدم الاستقرار والفوضى في ظل وجود أخطار أخرى عدة كتنظيم “داعش” وغيره.