الكثير من السوريين اليوم يؤدون دور المتفرج، المتفرج الذي لا يُرحم، بل يعاني من الاستبداد الموازي والمتجاور بين النظام والمعارضة. في هذه الديناميكية، على كل سوري أن يشعر بالقمع من طرف ما؛ لا أحد يملك قدرة التملص من قبضة القمع. والأسوأ، أن المتفرج فقد قدرته على التأثير أو الشعور بأن سوريا تعنيه وهي تحترق بهذا الشكل المأساوي.
غيرت عملية “ردع العدوان” التي تقودها فصائل المعارضة السورية المسلحة الواقع السياسي خلال أيام معدودة، إذ سيطرت الفصائل على مساحات واسعة من سوريا من ضمنها مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، وحماة والآن على أبواب حمص، الاختبار الحقيقي لهذه الفصائل في ظل التوترات الطائفية والأقليات الخائفة على مصيرها بوجود عناصر متشددة لا تخفي خطابها الطائفي.
تطمين الأقليات الدينية (المسيحيين والعلويين) والإثنية (الأكراد والأزيديين) عبر “فيديوات ترويجية” قابله صمت النظام السوري، وتراجع قواته بصورة لم يصدقها البعض، وتلويحه و”قسد” بخطر “داعش” وتحركها في البادية السورية.
انطلقت المعركة بتنسيق عالٍ بين الفصائل، وخلال ساعات الهجوم وامتداده لأيام، ترافق مع “إعادة انتشار” للجيش السوري الذي يتراجع بصورة مستمرة، وانبرى الآلاف من المغردين والمؤثرين للتعليق على الحدث، متفاعلين مع حالة فرح سادت بين معارضي النظام السوري، برز أيضاً مؤثرون ساخرون اجتاحوا وسائل التواصل الاجتماعي، معبّرين عن أكثر الغرائز عنفاً بطريقة ساخرة وشامتة.
تصاعدت مظاهر الشماتة العدوانية سريعاً لتصل إلى حالة من الانفصال العاطفي، وشكل من أشكال الوعيد المؤجّل للجنود السوريين، المجنّدين إلزامياً، إذ تعرضوا للضرب في استعراضات مسرحية مُهينة، وفي أخرى تحوّل الأمر إلى نوع من أنواع استعراض الأخلاق، كسؤال الجرحى منهم “هل أنت علوي أم شيعي؟”، أثناء نومهم في أحد المشافي، وكأننا أمام تعداد أو استعراض للفرق والطوائف بين الطرفين، المسلحين!.
تتناقض الفيديوات، بعض المقاطع تُصوّر بُعداً متعاطفاً مع “الأسرى”، وبعضها يدعو إلى قتلهم وتقتلهم على الهواء مباشرة، لكن لا انتهاكات مسجلة حد الآن، وانتشرت آليات تنفيس جمعي وفردي قاتمة، حيث اختلطت مشاعر الفرح بالنصر ورغبة دفينة في الانتقام، مع حذر وريبة جراء ما حدث وسرعته !.
عاد المشهد السوري ليحمل خليطاً من التفكك الأخلاقي وتصريحات تحتفل بـ”النصر القادم من الله” ومكارم أخلاق “أحفاد عُمر”، وانتشر التلذذ بفيديوات ترافقها كلمات ” فطايس، دعسناهم، جايين نحرقكم” وبدأت التأويلات حسب كل خائف. لكن نصر أو هزيمة، نحن المدنيين نشاهد عاجزين أمام الاثنين، بين من يملأ حلب كهرباء وماء ويحافظ على أشجار الميلاد، وبين خوف من الطيران الذي قد يقصف المدينة بمن فيها!.
“خائن أو حُر”
عادت السجالات السورية إلى شكلها الأولي، بين “خائن” و”حُر”، بين من يؤيد إخراج النظام وقواته وميليشياته الطائفية من البلاد، ومن يرى في هذا التحرير نوعاً من الفوضى أو الحرية السلبية التي لا تبني شيئاً.
بعيداً عن موالي النظام، الذين شعروا بالخوف واعتبروا المقاتلين المحررين “إرهابيين”، برز سجال آخر بين معارضي النظام أنفسهم. شعور البعض بأن ما حدث لا يمثّل تحرراً حقيقياً أدى إلى انقسام جديد، بل وأكثر تكثيفاً، داخل صفوف المعارضة، وسادت فوضى سلطوية في المناطق التي خرج النظام منها.
رفض بعض أنصار “الثوار- المجاهدين” استقراء هذه الفوضى أو فهمها في المناطق التي سيطر عليها جديداً، خصوصاً أمام حديث عن تسليم “حكومة الإنقاذ” حكم حلب، واستبدل السؤال السياسي بـالخدمي، عبر توفير الماء والكهرباء والإنترنت، مع ذلك تحضر أطياف عدالة انتقامية وعدوان مستتر، سيؤسس من جديد لنزاع داخلي جمعي قد يُعيد إنتاج الصراعات بشكل أعمق، صراعات لا يمكن تجاوزها بتفعيل القطاع الخدمي في حلب وحماة!.
في هذا السياق، لا تنفك مصطلحات الإسلام السياسي عن لعب دورها في تأسيس التعبئة الأيديولوجية، واستعراض “مكارم الأخلاق” لدى المسلحين، مقابل “أخلاق” النظام والتقتيل الطائفي الذي شهدته سوريا، هذه الرؤية لا تمنع أي حوار فقط، بل تُعيد كل جهة إلى تموضع طائفي صارخ، أما حلّ “هيئة تحرير الشام”، فلا يعني بناء دولة سورية مدنية أو فتح حوار قائم على الحقوق والواجبات، خصوصاً أن تاريخ الهيئة والنظام في تصفية الخصوم واضح وموثق.
الاحتفاء بالانتقام؟
يخلط أغلب إعلاميو “ردع العدوان” بُعداً إنسانياً مع بُعد انتقامي، وبرزت خطورة المؤثرين على “تيك توك” و”يوتيوب” بشكل هائل، فأغلبهم إما برفقة مع “االمجاهدين -الثوّار” أو خارج البلاد، ولهم تأثير على الظاهرة الاجتماعية السورية عموماً، لافتقار سوريا النوعي والعميق للنخب السياسية المؤثرة، أو الأحزاب، أو حركات التجمع المدني، ما أسبغ على السوريين تبنياً لمشاهد السلاح والحديث الانتقامي، ومصطلحات التحرير ضمن سياق “إلهي”.
يتسطح العقل السوري ويعيش على حوادث سطحية ظاهرها الفرح، من دون التمعن والتفكير بالغايات الكبرى البعيدة التي يُمكن صنعها، فالرغبة في التخلص من النظام؛ ورغم مشروعيتها، لن تودي إلى شيء، طالما لا يملك المدنيون أي خطة تُوضع أمامهم، لا شيء يُرى إلا بوصفه تحرراً وانتقاماً.
ما يزيد الوضع سوءاً هو انخراط بعض مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي في دعم حركة “ردع العدوان” بأساليب تتّسم بالشماتة أو تعكس تضخماً نفسياً ناجماً عن سباق المشاهدات وما تعرضه صفحاتهم بشكل مكثف. يظهر أن البعض يتناول الأحداث وكأنها فرصة لزيادة التفاعل، متجاهلين عمق القضية السورية. بدلاً من التركيز على أبعاد الصراع الحقيقي، ينغمسون في إطلاق شعارات وكلمات عدائية وسطحية، مما يُفقد القضية عمقها ويحوّلها إلى مجرد صراع بين شخصيات إعلامية، لا نضال وطني.
هذا التوجه يخلق شعوراً لدى المتابع بأننا أمام استراتيجية تهدف إلى إلهاء العقل السوري، عبر إشغال الناس بقضايا هامشية تزيد الانقسام. ما كان تراجيدياً يتحوّل إلى بطولات زائفة يصنعها مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي، مما يضر بالمشهد الإعلامي، فيجعله أداة للتسلية بدلاً من نقل المعرفة.
الأسوأ أن شخصيات إعلامية بارزة تنخرط في هذه الدوامة، مثل الهجوم المتبادل بين حسين مرتضى وآخرين، مما يعكس انحدار النقاش إلى خلافات شخصية، تُفقد القضية رمزيتها الوطنية، وتجعلها تبدو كصراع فردي بعيد عن جوهرها الحقيقي.
مرض العسكرة المزمنة
لم تكن ردة فعل النظام ومواليه المقربين سوى الدفع بالحرب إلى أقصاها، لا شيء يتغير في الوجه الآخر لهذه البلاد؛ سارع النظام إلى قصف المدنيين في إدلب وريفها وحلب، بدا الرد الخجول عنيفاً، لكنه غير كاف لإعادة ترسيخ سيطرته بأي وسيلة ممكنة. كأنه يعاني من مرض العسكرة المزمنة، لا شيء سوى في العنف، حيث يبني بقاءه على القوة المسلحة، ويرفض أي مقاربة سلمية أو سياسية.
وهذا ما دفع ثمنه أيضاً في عدم انجذاب مواليه، الذين لم يعودوا مثلما كانوا في عام 2011، فهروب الجيش لم يأتِ من فراغ، فإن لم تكن أوامر بالانسحاب، ربما من إحساس الجيش بأن لا أهمية أبداً تُرتجى بالقتال مع النظام، فراتب العسكري لا يتجاوز 23 دولاراً، ولم يعد الاستقطاب الطائفي للعلوين يُجدي نفعاً، لكن النظام يُراهن بدون أدنى شك على خطاب المعارضة لإعادة تحفيز العلويين للقتال معه، خاصة أنهم عانوا من فساد النظام وإفلاسه، كما عانى الشعب السوري كله.
ناهيك بخروج رامي مخلوف، الذي “خاصمه” النظام، وأعلن “ثقته” بسهيل الحسن، صاحب فكرة البراميل، محشّداً الطائفة العلوية، ومعلناً استعدادته للتبرع بما يفوق 3 ملايين دولار لـ”يد الحسن” من أجل محاربة “الإرهابيين”، هذه الدعوة لحمل السلاح، رافقها عروض ودعوات للتسلح مع رواتب من قبل وسيم الأسد مثلاً، الذي دعا “المواطنين الشرفاء” لتشكيل “مجموعات إسناد وحماية” لمحافظة اللاذقية وريفها، المناطق التي تحوي علويين ومسيحيين.
الخوف من المسلحين لدى المدنيين، تُرجِم بصور لأعداد كبيرة من سكان مدينة حمص، يقال إنهم علوييون، يتجهون نحو قرى الساحل، ودعوات إلى التسليح لم تظهر إلى العلن، عدا فيديو ترويجي من” مركز الدفاع الوطني” في اللاذقية، حيث يظهر ضابط يخطب بالمتطوعين بـوصفه “قوة التدخل السريع” لينتهي الفيديو بهتاف “بالروح بالدم نفديك يا بشار”.
هناك شيء لا يقدّره المعارضون المسلحون اليوم، بأن النظام لم يعد يملك أي هيمنة اجتماعية أو سياسية، النظام محاصر ومنهار وعنيد، و90 في المئة من الشعب تحت خط الفقر، وسادت دعابة سريعة في مناطق النظام: “الكهرباء جاية بحلب من الصبح للمسا من تركيا”، بات الناس أقل قدرة على الخوف أو الارتعاد من أي مصير جراء دور المتفرج الذليل الذي كرسه النظام.
حشد النظام إعلامييه لدعم الجيش السوري، بينما حاول الإعلام الرسمي إنكار الوجود الإيراني، برغم أن مئات الصور التي تملأ مناطق سيطرة النظام كانت كاشفة ومحرجة له، صور الخميني، وحسن نصر الله، والخامنئي، وسليماني أصبحت رموزاً واضحة في المشهد.
لكن، تكشف الصور كيف عمل النظام على تحويل الثقافة الرمزية للمناطق التي يسيطر عليها، إلى أدوات قهر تحت قيادة إيران، من الأعلام السوداء إلى صور سليماني المنتشرة في كل مكان، يبدو أن الهيمنة الإيرانية لا تقتصر على السياسة أو العسكرة، بل تمتد إلى الهوية الثقافية لسكان تلك المناطق، في محاولة لإعادة تشكيلها بما يخدم المشروع الإيراني.
بدا وكأن المناطق العسكرية الخاضعة للنظام أصبحت تابعة لإيران، يسعى النظام إلى تثبيت هيمنته عبر رواية واحدة تتمحور حول مكافحة الإرهاب، متجاهلاً تماماً أي نظرة أخلاقية لتوجهات الناس أو احتياجاتهم. هذا السعي الأحادي يعكس فشله في تقديم أي مشروع سياسي، وردة فعله اليوم تؤكد أن النظام لن يفعل شيئاً على الإطلاق، في ما يخص الشأن السياسي.
ماذا بعد دور المتفرج القاسي؟
ما يلخص المشاهد كلها خروج المعتقلين السياسيين ركضاً من أبواب الفروع الأمنية، من دون أن ينتظروا شيئاً، سوى الخلاص من النظام ومن سطوته وآلته العنيفة. هذا هو أكثر مشهد يظهر على السوريين المستسلمين، خرجوا من الأبواب، من دون أن ينظروا إلى محرريهم، يحتاجون خلاصاً خارج أي إطار رمزي أو ديني أو سياسي، الركض بقدمين شبه حافيتين للوصول إلى أي مكان خارج السجون، أو سطوة الأسلحة أو العمائم.
عانى السوريون من استلاب هائل، بُني على مدى أربعين عاماً من نظام غير سياسي، يكرس شكلاً لدولة تُنظم الحشود الفيزيائية من دون أن تعترف بالسوريين كشعب، بل تراهم مجرد جمهور خاضع بلا إرادة، فالنظام وإيران لا يسعيان إلى تعبئة ثقافية، يستخدمان الرموز كوسائل لقهر ثقافة الجماعة السورية وترسيخ السيطرة.
بالتوازي مع ذلك، يتمسك النظام بـالاستدامة العسكرية كأداة لمنع النازحين والعائدين من العودة إلى بيوتهم، مع إدامة الانقسامات المجتمعية والسياسية، تلك التي تُخفي وراءها الخوف، الذي يلخص بأخبار عن ازدحام هائل في طريق حمص- طرطوس، وصور مئات السيارات تتجه بعيداً عن حمص، نحو قرى الساحل، هناك حيث الخوف على أشدّه.
الواقع اليوم، الذاكرة القهرية لانقسام السوريين، تدفعهم إلى تبني خطاب أحد المنتصرين، سواء من النظام أو المعارضة. لم يبقَ شيء من الدولة أو الرغبة فيها، وفقد السوريون، في ظل مجاعة كبرى وصراعات طويلة الأمد، أي نية أو طاقة للانفعال.
الكثير من السوريين اليوم يؤدون دور المتفرج، المتفرج الذي لا يُرحم، بل يعاني من الاستبداد الموازي والمتجاور بين النظام والمعارضة. في هذه الديناميكية، على كل سوري أن يشعر بالقمع من طرف ما؛ لا أحد يملك قدرة التملص من قبضة القمع. والأسوأ، أن المتفرج فقد قدرته على التأثير أو الشعور بأن سوريا تعنيه وهي تحترق بهذا الشكل المأساوي.
نستطيع أن نشارك كل سوري فرحه بعودته إلى بيته وقريته ومدينته، لكن على أمل أن يكون لهذا الفرح أمانٌ، ألّا يُقصف بالطائرات، وأن يتمكن كل نازح من العودة إلى بيته وبلاده من دون خوف وبسلام، ألّا يدفع الكل إلى مقتلة جديدة.
النظام السوري لن يستسلم، والإرادة الدولية تعتاش على فعل الفرجة أكثر من أي أحد. لكن، أقله، يملك السوري اليوم اعترافاً لنفسه، بأن دور المتفرج يحقق سلاماً داخلياً، كي لا يشارك في مقتلة، أو يحتفي بنصر قد يليه حريق.