عُرف عن الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي ألمعيته في مجالات مُتعددة وشغفه بتحويل تجارب حياته إلى مادة لمؤلفاته الروائية والقصصية. ومن هنا تأتي غزارة نتاجاته بحيثُ هناك من يعتقدُ أنَّ همنغواي كان قناعاً لأكثر من المؤلف ويَصْعُبُ بالنسبة لشخص واحد أن يكون على هذا القدر من النبوغ والقدرة على الإبداع في أجناس أدبية متنوعة ناهيك عن عمله كمراسل الحرب والاهتمام بهواياته الأخرى كمُتابعة مسابقات الخيول وألعاب الدراجات النارية والصيد والتزلج. إذ يُمكنُ معاينة عالم همنغواي وما اختبره في مضامير الحياة داخل رواياته وقصصه، لكن ذلك لا يحجبُ أهمية ما دَّوَنَه صاحبُ «الشيخ والبحر» على شكل يوميات في كتابه المعنون «باريس عيد، وليمة متنقلة» الذي نشر في عام 1963 بعد مرور سنتين على انتحار همنغواي. تَكمن قيمة هذا المُؤَلَف الذي نقله إلى العربية علي القاسمي بوسمة المركز الثقافي العربي مرفقاً بقدمة ضافية، أن القارئ يُطالع تلاحم الكتابة مع وقائع حياة الكاتب، إذ يتبين أنَّ همنغواي قد جمع في بوتقة أعماله الأدبية كل مُشاهداته وما عاشه من أنماط الحياة في محطات مُختلفة. إذ ترى أن مؤلف «لا تزال الشمسُ تُشرق» لم يخسر الحياة مقابل مُغامرة الكتابة بل يستمدُ من نسغ يومياته موضوعَات تُصْبِحُ سبيكةً للرواية أو القصة، كما أن الكتابة لديه بمثابةٍ دافع ليشرعَ الباب على مصراعيه بوجه رهانات الحياة.
طقوس الكتابة
بجانب كل ما سلف يعرضُ همنغواي في يومياته الباريسية آراءه عن طريقة الكتابة وهو كان يكتبُ في غرفة تطلُ على سطوح ومداخن الحي، ويذكرُ ما يحتاج إليه خلال كتابة القصة وعندما لا يَتَمكن من الاستمرار في الكتابة يقفُ مًحدقاً في سطوح باريس إذ يقول لنفسه: (لا تقلق لقد كُنتَ تكتبُ دوماً من قبل وستكتبُ الآن، كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة). ومن ثُمَّ أنَّ همنغواي لا يميلُ إلى الزخرفات والالتواءات اللفظية بقدر ما يركزُ على اختيار الجملة الخبرية البسيطة لينطلق منها السردُ مُنساباً. وفي السياق نفسه يشيرُ صاحب «يملكون ولا يملكون» أنّه منذ اللحظة التي يتوقف فيها عن الكتابة لا يفكرُ في الموضوع إلى أن يستأنف مشروعه في وقت لاحق، مُنصرفاً إلى القراءة. كما أن همنغواي كان يحذو حذو نيتشه عندما يفكر في موضوع ما يمارسُ المشي أو يراقبُ الناس وهم مندمجون في حركة الحياة اليومية. ومثلما أن شوارع باريس لا تخلو من المتاجر والمطاعم كذلك تنتشرُ أكشاك لبيع الكتب على الأرصفة إذ هناك فرصة لإشباع نهمك المعرفي عبر التحري والبحث عن عناوينك المُفضلة. فحسب ما يذكرُ همنغواي أن مرتادي بعض المطاعم يتركون وراءهم الكتب، يبيعها الخدم لأصحاب الكشك، كما يأخذُ هؤلاء أيضاً الكُتب التي يستغني عنها نزلاء الفنادق، هكذا يبدو أنَّ القراءة ليست نشاطاً نُخبوياً في باريس إِنَّما هي عنصر من ثقافة المجتمع وجزء أساسي من أسلوب حياة الإنسان.
إغراءات المدينة
يُشارُ إلى أن السنوات التي عاش فيها همنغواي في باريس يسميها الفرنسيون سنوات الجنون، ويَذكرُ مؤلف «وداعاً أيها السلاح» طبيعة الحياة في مدينة النور إذ يقولُ، أن المرءَ كثيراً ما يشعر بالجوع في باريس لأنَّ واجهة المخابز مزينة بحلويات لذيذة. وحين كان يداهمه الجوعُ ولا يجدُ ما يسددُ به ثمنَ الطعام يسلك طريقاً إلى المتاحف لمشاهدة اللوحات لاسيما في متحف اللكسمبورغ، حيث يقول همنغواي: “إنَّ الجوع عمق فهمي للوحات سيزان وكنتُ أتساءلُ ما إذا كان سيزان جائعاً عندما رسمَ لوحاته؟ وافترضتُ أن هذا الرسام نسي أن يأكلَ وهو يرسمُ تُحفه الفنية”. ومن ثُمَ يستخلصُ همنغواي حتى من الجوع رؤية مُقتنعاً بأنَّ الجوع نظام جيد وبإمكانك أن تتعلم منه. هذا يكشفُ ما تتصف به شخصية الكاتب من القدرة على التأقلم مع ظروف صعبة وإيمانه بأنَّ نهر الحياة لا يتوقف ودائماً يوجد ما يُعَضِدُ اعتقاده بضرورة البحث عن أوجه جديدة للحياة، أضِف إلى ذلك أن شح الأموال وسوء أحواله الاقتصادية لا يمنعانه من مواصلة قراءاته إذ يبدأُ باستعارة الكتب من «مكتبة شكسبير» في شارع الأوديون. ولا ينسى همنغواي فضل صاحبة المكتبة بما أعطته من المجال لأخذ ما يرغب في قراءته من عناوين مختلفة، وبذلك يّتمكنُ من قراءة روائع الأدباء الروس. بجانب ذلك يتفاعلُ أرنست همنغواي مع الفصول، إذ يعجبه فصل الربيع ويقرب لك صورة بديعة لحلول الربيع في باريس حيث يمكنك من خلال الأشجار رؤية الربيع وهو يقترب، هذا ما يعني أن همنغواي مداركه منفتحة وذائقته صافية.
صداقات همنغواي
ينخرط همنغواي في أطياف المجتمع الباريسي ويرتادُ مقاهيه وحاناته ويتواصل مع الشعراء والأدباء والفنانين ويقيم علاقات وثيقة مع بعضهم مثل الكاتبة غير ترود شتاين، حيث يناقش معها مواضيع أدبية ما يعطيك تصوراً عن اهتماماته والكتب التي كان يقرأها، فهو قد راق له د.ه.لورانس لاسيما روايته «أبناء وعشاق» كذلك «الطاووس الأبيض»، كما هو مُعجب بتولستوي ويعتقد بأن صاحب «الحرب والسلام» جعل كتابات ستيفن كرين عن الحرب الأهلية الأمريكية تبدو كأنها تخيلات لامعة لطفل مريض لم يرَ الحرب. كما يضم هذا الكتابُ حواراً شيقا بين همنغواي وإيفان شبمان حول الأدب الروسي وأعمال دوستويفسكي، هذا فضلاً عما يذكره الكاتبُ عن تقديره للشاعر إزرا باوند وإخلاص الأخير لأصدقائه إذ أراد همنغواي أن يعلم الشاعر الملاكمة، كما كان يلعب معه التنس. وصاحب همنغواي الكاتب الأمريكي الشهير سكوت فيتزجرالد مؤلف رواية «غاتسيبي العظيم» حيث كان يعاني من فوبيا مرض احتقان الرئة ويشكو لصديقه همنغواي ما ينغص حياته الأسرية، ولم تكنْ هذه العلاقات على حساب اهتماماته الشخصية، وما نتوصل إليه بهذا الشأن أن همنغواي كان انتقائياً في صداقاته، فهو يقول: “إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسد يومك هو الناس وإذا نجحت أن تنحل من شبكة التزاماتهم فإنَّ كل يوم من أيامك يغدو بلا حدود”. ما يجدرُ الإشارة إليه في هذا الإطار أن همنغواي يؤمن بدور المكان في حياة المرء وضرورة توفير بيئة مُواتية لمن يزاول مهنة الكتابة ويسمي هذه العملية بـ”الازدراع”. وهو يعبرُ عن رؤيته حول علاقة الكتابة بالمكان عندما ضرب بمدينة شرونز مثالاً لمكان ملائم، حيثُ انتهى من إعادة كتابة روايته «لا تزال تشرق الشمسُ» في هذه المنطقة السياحية، كان يقيمُ همنغواي في شارع الكاردنال لوموان مع زوجته هادلي ويبدو مما يذكره الكاتب أن علاقته مع هادلي مبنية على الحب العميق والتفهم والاحترام، وتحاشي الانغماس في علاقات مبتذلة. عملَ همنغواي صحافياً لتغطية الحرب الأهلية الإسبانية وتوجت هذه التجربة روايته «لمن تقرع الأجراس»، واقتنع بأن يكون سائقَ سيارة الإسعاف بعدما رفضوا طلبه بالتجنيد نظراً لأنَّ باطن قدمه مسطح، كأنه تمَثلَ بذلك لوصية نيتشه، الذي يقول عليك العيش على فوهة البراكين.
ما يميز هذا الكتاب هو أسلوبه السلس الشيق واهتمامه بإيراد تفاصيل حياته اليومية وأسماء شوارع ومطاعم وفنادق كائنة في مدينة باريس وبذلك تدرك بأنَّ همنغواي لم يكن كاتباً روائياً فقط بل عمل مراسلاً حربياً وكان متشوقاً لمتابعة مسابقة الخيل ولعبة التزلج والمراهنات والقمار وعشق المقاهي وبالتالي عشق الحياة. وفي نهاية قراءة الكتاب لا تنفك تتساءل لماذا انتحر أرنست همنغواي الحائز على نوبل سنة 1952؟