حاولت في البداية ألَّا أصدق ما أرى وأسمع. تمنَّيت لو كان الأمر خدعة تلفزيونية. وتمنَّيت أيضاً أن يكون مسرح الأحداث غريباً لا يعنيني. لم أوفق. فأنا أعرف الشوارع، وأكاد أعرف المباني؛ إنها بيروت. وغمرني خجل فظيع. خشيت أن يتابع الأولاد ما أتابع فتصدمهم حقيقة البلاد التي نحاول ألا تسقط تماماً من ذاكرتهم.
قلت غمرني الخجل وأنا على بعد آلاف الأميال. شبان موتورون ينتشرون في أحياء المدينة يبحثون عن فرصة اشتباك مع مواطنيهم. وكان بينهم من يطلق شتائم نابية بحق رموز تخص المذهب الآخر. شتائم تستحضر سموم التاريخ لسكبها فوق جروح الحاضر. ودائماً يعثر على من يرد الإساءة بمثلها. ومع الألفاظ النابية تردد صوت طلقات نارية وأعمال رشق بالحجارة. كان المشهد المؤلم يدور في شوارع بيروت محاولاً إيقاظ خط التماس الشيعي – السني الذي عاود إطلالته في القرن الحالي بفعل تزايد عدد المغامرين وانحسار عدد العقلاء.
في جزء آخر من المدينة كان يدور مشهد مخجل آخر. كان ذلك على خط التماس بين الشياح وعين الرمانة، أي في المكان الذي شهد في 1975 الرصاصات الأولى في الحرب اللبنانية. وهنا كان الاحتكاك بين الشيعة والمسيحيين. وبسرعة قياسية تردد صوت عيارات نارية، واستُحضِر قاموس الحرب وكراهياته. وتشاء الصدفة أنني أعرف تلك الطريق. وأنها للأسف تفصل بين طائفتين وقاموسين وتصورين مختلفين لمصير سلاح المقاومة ودور «حزب الله» خصوصاً بعدما تبين أن الجنرال ميشال عون لم يحمل معه إلى قصر بعبدا مشروع حل لهذا الخلاف الجدي حول مستقبل لبنان وموقعه وترتيب التعايش بين مجتمعاته.
والحقيقة هي أن بيروت تموت. تموت بصفتها تجربة تعايش. واقتصادها يموت. وأمنها يتصدّع. البطالة قياسية والخبز يزداد صعوبة. وعلى الصعيد العملي شاركت الدولة الفاسدين في السطو على مدخرات الناس. ها هي بيروت تموت. قطاعها المصرفي يموت. جامعاتها اللامعة تستعد لمصير سيئ. لم تعد المدينة تعد بشيء في حسابات المستقبل. ومن لم يهاجر يحسد مَن فعل.
قبل يومين من هذه المشاهد البيروتية المريعة كنت غارقاً في مشاهد بيروتية مختلفة. غاب محسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي»، صاحب القدرة الاستثنائية على القراءة والتحليل، وإن تباينت نظرتك معه جذرياً. غيابه فتح لدى جيل من اللبنانيين الذين لم يقدموا بعد استقالتهم من وطنهم دفاتر الذكريات. تعرف بيروت جيداً هذا الفتى الجنوبي الذي تقدم مظاهراتها واعتلى منابرها وشغلها بمقالاته ومعاركه وتحليلاته. تعرف بيروت الرجل الذي لم يكسر الغزو الإسرائيلي لبيروت في يونيو (حزيران) 1982 إرادته. الرجل الذي أطلق مع جورج حاوي، الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي اللبناني»، نداء المقاومة الوطنية من منزل كمال جنبلاط في بيروت. وتشاء الصدفة أن يرتبط شهر يونيو (حزيران) أيضاً باستشهاد حاوي، واستشهاد سمير قصير.
يصحح محسن إبراهيم الروايات. ينفي أن يكون لعب مع جورج حاوي دوراً في تحريض كمال جنبلاط على التشدد في لقائه الأخير مع حافظ الأسد. ويقول إنهما طلبا من جنبلاط ألا يرجع بأجواء خلاف مع الرئيس السوري. يؤكد أن ياسر عرفات كان خائفاً على حليفه جنبلاط، وكان يعتقد أن لقاءه مع الأسد قد يجنبه المصير الذي انتهى إليه.
كان محسن إبراهيم دفتر المدينة يوم كانت حية حالمة يتسابق اللاعبون في العثور على موقع فيها أو اعتراف منها. جمال عبد الناصر الذي ربطته بإبراهيم علاقة ومودة كان مهتماً بصورته في الشارع البيروتي. وقال إبراهيم إن الزعيم المصري كان يسأله عن التفاصيل اللبنانية بعد أن يستهل الحديث بالاستفسار عن أحوال كمال جنبلاط، ويعرج على صحيفة «النهار» اللبنانية، ومقالات رئيس تحريرها ميشال أبوجودة. واستنتج إبراهيم أن عبد الناصر كان يعتبر أن بيروت تعطي ما يشبه الشرعية للزعامة العربية. ويضيف: «لهذا لازم حلم انتزاع الاعتراف من بيروت كل الذين أصيبوا بعقدة عبد الناصر. القذافي اشتهاها، وصدام تمناها، والأسد قبض عليها بعدما شكك بنواياها».
أحياناً ينعقد خيط من الود بين الصحافي والسياسي. وهذا ما حصل. وكان اللقاء بمحسن إبراهيم مثيراً مفيداً مهما اختلفت مع مقاربته. قدرة على التفاصيل والاختصار والرسم بالكلمات. وقدرة على تجديد حرارة الجلسة بملاحظة أو لقطة تضحك وتصيب. وقبل ذلك كله كان اللبناني الأوسع تجربة في السياسة العربية، وكان قوس صداقاته يمتد من الجزائر إلى عدن.
وكانت السباحة في ذاكرته ثرية ممتعة. يحكي ويستدرك. كأن يتوقف ليقول ضاحكاً: «واجهتنا مهمة حساسة إذ كان علينا في البداية أن نقنع القذافي بأن حبش عربي أصيل، وإن كان اسمه جورج». ويضيف: «وكان من همومي خلال أي زيارة لليبيا إقناع وليد جنبلاط بعدم المغادرة قبل انتهائها، فقد كان يصاب بالملل بعد وقت قصير من وصوله». ويفاجئك أحياناً بملاحظات من نوع أن «عرفات كان يعد حافظ الأسد رئيساً لدولة مهمة اسمها سوريا، لكنه كان يعد نفسه رمزاً لقضية جاذبيتها أوسع من الخرائط، ولم تكن هناك كيمياء بين الرجلين». أو حين يلاحظ أن «اثنين لم يتوقعا أن يصل الدور الإيراني إلى ما وصل إليه، هما حافظ الأسد ورفيق الحريري».
سألت محسن إبراهيم عن سبب سير عرفات في خيار أوسلو، فقال: «قرأ الوضع الدولي بعد غياب الاتحاد السوفياتي. وقرأ الوضع الإقليمي بعد معاقبة العراق على غزو الكويت. قرأ الأوضاع العربية وموازين القوى الدولية والأحوال المالية، وخاف على قضيته من النسيان والضياع. اعتبر أن الانتظار على أي شبر فلسطيني نوع من الضمانة، بعدما تأكد أنه ممنوع من الإقامة على خط التماس للاشتباك مع الجيش الإسرائيلي والتذكير بحقوقه».
كانت لمحسن إبراهيم علاقة خاصة بالقضية الفلسطينية. وعلاقة خاصة بعرفات انتقلت أيضاً لتستمر مع الرئيس محمود عباس، رغم اعتكاف إبراهيم عن أي عمل سياسي على الساحة اللبنانية منذ الثمانينيات، مكتفياً بالتفرغ لمراجعات اعترف فيها بثغرات وأخطاء.
قصة محسن إبراهيم قصة طويلة مهمة مثيرة. وأقسى ما فيها ليس موت الرجل، بل موت المدينة التي كان من نجوم منابرها ومعاركها وأحلامها الباهظة.