يمرر الكاتب الآيرلندي أوسكار وايلد عبر مجموعته القصصية «بيت الرمان» فلسفته على لسان البشر، وحوريات البحر، وأزهار التيوليب، وحيوانات الغابة، وحتى الكائنات الخرافية المستوحاة من الميثولوجيا اليونانية، في جموح خيالي في نسج الحكايا والحِكم، حيث الجمال «مُسكن للألم»، على حد تعبير أحد أبطال قصص «بيت الرمان» التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع بالقاهرة، وهي من ترجمة إيناس التركي التي أشارت إلى أنها الترجمة العربية الأولى لهذه المجموعة التي تعد واحدة من روائع أعمال أوسكار وايلد.
يقف الصيّاد «صيّاد السمك وروحه» عند لحظة تقرير مصير عجائبية، فهو مشغول بفكرة الانفصال عن روحه التي باتت حاجزاً بينه وبين الزواج من حورية البحر التي فتنته بجمالها وعذوبة غنائها خلال رحلات صيده، فزواجه منها بات مرهوناً بشرط وحيد وهو أن يتخلص من روحه البشرية التي أصبحت عبئاً عليه، بحسب أعراف أهل البحر.
يقول: «فما قيمة روحي بالنسبة لي؟ فأنا لا أراها ولا أستطيع أن ألمسها، ولا أعرفها»، هكذا يُردد وهو يحكي للراهب قصته، الذي يُثنيه عن جنونه بقوله إن الروح «أثمن من ذهب العالم وياقوت الملوك». لم يقتنع الصياد العاشق فيعرض روحه للبيع في سوق التجار، لكنهم يرفضون: «ما الفائدة التي نجنيها من روح بشرية، فهي لا تساوي حتى قطعة صغيرة من الفضة»، مقترحين عليه في المقابل بيع جسده، عندها يكون عبداً، «ويمكن وقتها أن يساوي شيئاً بالنسبة لهم إذا باعوه لملكة».
ثم يستعين الصياد بدهاء ساحرة تعيش في كهف قَصِيّ، فتوصيه أن يُولي ظهره للقمر حتى يمتد ظله فيقطعه بسكين، فـ«ظل الشخص هو روحه»، كما قالت له، وما إن يهم بقطع ظله، تتوسل له روحه بأن يُبقيها، وتطلب منه أن يُبقي لها قلبه كي لا تشعر بالوحدة في هذا العالم القاسي، فيرفض ويقول لها: «وبمَ سأحب معشوقتي لو أعطيتك أنت قلبي؟»، تطلب منه أخيراً أن يلتقيا مرة كل عام على الشاطئ ذاته الذي افترقا عليه فيوافق.
كل عام تناديه روحه فيصعد للقائها، تخبره في العام الأول عن صولاتها في عالم الشرق، وتقايضه بمنحه مرآة الحكمة التي تعكس أمامه الحقيقة أينما كانت مقابل أن يتحدا من جديد في جسد واحد، ولكنه يرفض «الحب أفضل من الحكمة». ويعود أدراجه لحورية البحر الصغيرة. في العام الثاني تناديه وتسترسل في حديثها عن رحلتها للجنوب، وتُجدد المقايضة بخاتم من يملكه يصبح في ثراء ملوك العالم، فيرفض وحجته «الحب أفضل»، وفي العام الثالث أغرته الروح بمصاحبته لمدينة قريبة حيث ترقص فيها امرأة حافية القدمين، فيستمع الصياد لكلمات روحه، فحورية البحر ليس لديها قدمان، ولا يمكنها الرقص، واشترط على روحه ألا تزيد رحلتهما على يوم واحد ليعود لحوريته.
هنا تبدأ روحه في تحريضه على أفعال الشر، مرة تدفعه لسرقة كأس فضي، وأخرى تأمره بصفع طفل، وأخيراً بالشروع في سرقة ذهب وقتل رجل طيب. يكتشف أن روحه باتت محض شر. وحين يستغرب أفعالها، تجيبه: «هل نسيت أنك لم تمنحني قلباً؟»، يقرر التخلص منها من جديد كما علمته الساحرة فيكتشف أن قطع ظله وروحه لا يكون إلا مرة واحدة في العمر، وأن روحه الشريرة سترافقه على الدوام. لكنه يظل يبحث عن حوريته في أنهار البحر، رافضاً الاستماع لكلمات روحه الداعية له بنسيانها «فقد بلغ حبه أعظم الدرجات»، ومع انكسار قلبه من شدة الحب، وجدت روحه لها مدخلاً إليه وعادا كياناً واحداً.
تضم المجموعة القصصية أربع قصص، وتقع في 217 صفحة، وعبر تلك القصص تتناثر ثمار الرمان في ثنايا السرد، يجعلها وايلد خيطاً رمزياً يجمع نسيج حكاياته الأربع، ويُبدع في خلق عشرات الصور الخيالية التي يسعى بها لخلق تناص، وحوار متكافئ بين عالمي الملوك والفقراء، ففي قصة «الملك الشاب» يجادل أحد الفقراء من بين حشد ضخم قائلاً: «يا سيدي، ألا تعلم أن حياة الفقراء تنبثق من حياة الأثرياء؟ فنحن نحيا من بذخكم. ومن رذائلكم نجني خبزنا. الكد من أجل سيد قاس أمر غاية في المرارة، لكن الأكثر مرارة هو ألّا يكون لدينا سيد كي نكد من أجله»، وفي هذه القصة يجد الشاب راعي الأغنام ابن السادسة عشرة من عمره نفسه فجأة في قصر منيف، ليعلم أنه الوريث الشرعي الوحيد للملك، وأنه ابن ابنة الملك التي دفعت ثمن حبها لشخص دون مستواها وقُتلت، لتبدأ حياة الشاب في التبدل الباذخ، ولكنه تبدل مقترن بحسّه الخاص في تلقي الأشياء: «أظهر الفتى علامات تدل على ذلك الشغف الفائق بالجمال»، وبات جل حلمه يتلخص في هيئته خلال حفل تتويجه «الرداء المصنوع من الذهب، والتاج المُرصع بالياقوت، والصولجان المُزين بصفوف وحلقات من اللؤلؤ».
ولكن الملك الشاب ينام في تلك الليلة لتزوره ثلاثة أحلام متتالية، يرى من خلالها الثمن الفادح الذي من أجله سيرتدي الرداء والتاج والصولجان. حلمه الأول صوّر له أيدي هزيلة ترتعد وسط هواء فاسد وثقيل وهي تحيك رداءه، والثاني يرى فيه نفسه على ظهر سفينة في رحلة صيد مرعبة تنتهي بنهاية دامية للغواص الذي وصل إلى أجمل حبة لؤلؤ ستزين صولجانه، وحلم ثالث يتصارع فيه الموت والجشع ليفتكا بمصير رجال يبحثون عن الياقوت من أجل تاجه، وهنا يستيقظ الملك الشاب صباح يوم تتويجه ليأمر حاشيته التي أتت له بالرداء والتاج والصولجان الفريدين: «خذوا هذه الأشياء بعيداً، وأخفوها عني، فقد نسجت يد الألم البيضاء هذا الرداء على نول الحزن، وهناك دماء على قلب الياقوت، بينما يرقد الموت في قلب اللؤلؤ».
ويختار الملك الصغير أن يذهب لحفل تتويجه بسترته المصنوعة من فراء الخراف وهو يرعى الأغنام، صانعاً من فرع من الأشواك حلقة على رأسه كتاج، وعصا الراعي البدائية كصولجان، ولكنه عندما يمر بين الشعب بهذا المظهر الزاهد، يصفه الأغنياء والفقراء على السواء بالشحاذ، ومهرج الملك، ويظل هو متمسكاً بهيئته ونبله، وهو يحكي للجميع أحلامه الثلاثة.