حل المفكر اللبناني شارل مالك، الذي كتب كتاباً مبكراً عن القضية الفلسطينية حتى قبل قيام إسرائيل، قول مشهود يقول فيه «لقد أتم اليهود استعدادهم لإقامة دولتهم بالقوة، فإن لم يقضِ العرب على هذه الدولة في غضون سبعة أيام، ستدوم سبعة أشهر، فإن لم يقضوا عليها في غضون سبعة أشهر ستدوم سبعة أعوام، فإن عجزوا عن إزالتها في سبعة أعوام، فإنها ستدوم سبعين عاماً وأكثر…»، نحن الآن في الأكثر… ووضع يده على أسباب احتمال العجز، أولاً تمزّق العرب، وحتى أهل القضية، وثانياً بُعدهم عن الأخذ بأسباب العلم الحديث. السببان اللذان أشار إليهما ذلك المفكر تفاقما، فنحن، حتى في الصف الفلسطيني، متشرذمون، وفي العلم ما زلنا في الأساطير والخرافات، لقد كانت رؤية متقدمة لم يقبلها معاصروه، وعلى الرغم من كل ما مر بنا في السنوات التي تفوق السبعين ما زال كثير منا لا يقبلها. العلاقات بين الإمارات وإسرائيل كأي حدث كبير من الطبيعي أن ينقسم الناس حوله فتجد مؤيدين للحدث ومعارضين له، في ظل هذا الاستقطاب غير المسبوق وحتى غير العقلاني بين العرب.
في هذا المشهد صور من غير المعقول في المواقف السياسية وهو كثير، فقد وجدنا ردود فعل سياسية ليس لها علاقة بجوهر القضية، تلك المواقف تقع في أفضل الأحوال في نطاق «النفاق السياسي» المفضوح، وحتى غير العقلاني في مقاربتها للموضوع. فعلى الرغم من أن دولاً عربية لها تماس مباشر مع الحدود الإسرائيلية قد وقعت في مراحل سابقة على اتفاق ما مع إسرائيل، وأخرى لها علاقات غير معلنة، فإنها لم تتخلَ عن جوهر القضية الفلسطينية، بل ساعد موقفها في ملفات كثيرة على والوصول إلى اتفاق ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما حدث ويحدث من قبل الإدارة المصرية، التي ما زالت بين فترة وأخرى تتوصل إلى تهدئة (هدنة) بين «حماس» وإسرائيل، كما أن الأردن الرسمي ما زال مع الحق الفلسطيني وله رأي في الكثير من الملفات، ومنها الأماكن المقدسة التي لا تزال تحت إشرافه، فأي افتراض يمكن القول معه إن دولة الإمارات سوف تخرج عن ذلك السياق وقد أعلنت بوضوح أن إحدى أهم نقاط الاتفاق الأخير أن تتوقف إسرائيل عن قضم أراضٍ فلسطينية جديدة، وهي – أي إسرائيل – تفعل ذلك في السابق رغم قرارات الأمم المتحدة الشاجبة! أخذ ما هو ممكن في مقابل ما هو متوقع في ظل ظروف قاهرة وموقف دولي عاجز هو الخيار الإماراتي. الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أراد كما يقول المثل أن يصطاد في الماء العكر، فعلى الرغم مما هو معروف من علاقات تركية – إسرائيلية واتفاقات تجارية وعسكرية متجذرة وسياحة ناشطة، فإنه هدد بسحب سفيره في أبوظبي احتجاجاً على العلاقات بين البلدين! ورغم فداحة الخروج عن العقل في ذلك التصرف، فإننا نجد بعض العرب يسوّق ذلك الفعل على أنه فعل وطني للسيد إردوغان، متناسين تماماً تلك العلاقات الاستراتيجية التي في وقت ما أخذت الرئيس إردوغان إلى إسرائيل. الأقدح أن موقف إردوغان في مؤتمر دافوس شتاء 2009 في مواجهة شيمون بيريس والذي جعل كثيراً من مواليد غزة في ذلك العام يسمون باسمه في جائحة عاطفية كالعادة، قد كشفه أخيراً السيد داود أوغلو بقوله: إنه هو من كتب رسالة الاعتذار (السرية حتى حينه) من إردوغان لبيريس، يعتذر فيها عن ذلك الموقف المسرحي، والذي لم ينقطع منذ ذلك الوقت، فعلى من تقرأ مزاميرك يا طيب! الحقيقة أن إردوغان اكتشف نغمة الطرب التي تجعل الكثيرين يرقصون عليها (اللعب على العاطفة)، وهي ورقة لها علاقة بما يعرف اليوم بالسياسات الشعبوية التي هي أبعد ما تكون عن التحليل العلمي! لقد أهين سفير إردوغان علناً في وزارة الخارجية الإسرائيلية وسجلت تلك الإهانة وأذيعت على الناس، لم يسحب السفير! بيت السيد إردوغان السياسي كله زجاج تجاه إسرائيل ويرمي الآخرين بالأحجار، المؤلم حقاً ذلك التبرير الذي سمح لبعض العرب غض الطرف ووقر في الآذان عن كل تلك العلاقات، فأحد الخطوط الجوية في الشرق الأوسط (هما اثنان فقط) التي تخدم في مطار بن غوريون هي الخطوط التركية! في المقلب الآخر دخل النظام الإيراني على الخط وتعدى كل قواعد العلاقات الدولية وعلى مستوى السيد رئيس الجمهورية خرج التنديد وصولاً إلى «الخيانة»! ثم أضافت الصحافة الإيرانية على التنديد بالتهديد، فقالت إن «الإمارات أصبحت هدفاً شرعياً»! فيما يقارب إعلان الحرب، وأوعزت لمتحدثيها (العرب) الرسمي حسن نصر الله، حيث تجاوز كل مشكلات لبنان المستعصية والضخمة، حيث ما زالت بيروت تدفن ضحايا تدخله في الدولة، ليلقي دروساً على دولة الإمارات وينضم إلى حفلة التهديد والوعيد! في الوقت نفسه، إن أي عاقل يعرف أن الموضوع هو مناصرة لإيران وليس حباً في فلسطين، فلم تقدم إيران إلى العرب إلا القتل والتدمير وخراب الأوطان ولا استثناء للفلسطينيين، وتشجع الفرقة بينهم وتدفع بعضهم للإمعان في تفقير شعبه وحرمانه كما تفعل مع «حماس» في غزة.
ليس هناك خلل فقط في مرسل الرسالة المنافقة تجاه القضية، لكن أيضاً يوجد خلل لدى شريحة واسعة من المتلقين العرب الذين طرحوا عنهم التفكير العقلاني المتوازن، وتسابقوا للاصطفاف في الإدانة والشجب متوسلين تارة غطاءً دينياً أو سياسياً أو حتى أخلاقياً، وذلك بالبعد عن مناقشة جوهر القضية والإمعان في تسييس كل ما حولها والفقر الشديد في رسم خطط المواجهة والتي لم تعد ممكنة عسكرياً، بل هي ممكنة حضارياً، إلا أن مفردات العدة الحضارية ليست جاهزة مع الأسف في فضائنا العربي المغطى حتى الثمالة بالعاطفة والتمني. قبل سنوات كنا في ندوة علمية في بيروت، وكان من بين الحاضرين شخص من فلسطينيي الداخل أعرفه أيام الدراسة في الغرب، فسألته: هل تعلمتم شيئاً من النظام الإسرائيلي في التعددية والشفافية، تعينكم على مواجهته؟ الرجل ابتسم وقال: هم تعلموا أشياء كثيرة منا! لذلك؛ فإن العاقل عندما يقرأ ذلك الانقسام المريض في الصف الفلسطيني وذلك الانتشار فيما يعرف بالفساد، وفي الوقت نفسه يدخل رئيس وزراء إسرائيلي سابق السجن، ويطارد آخر بتهم الفساد كل يوم وتقوم ضده المظاهرات، ويعين النظام الإسرائيلي عربياً مسلماً سفيراً له، لا يستطيع إلا المقارنة، بين ما يتوجب أخذه من أدوات العلم في إدارة المجتمع، وما يفعله الجهل والشعارات حتى بقضية عادلة، هذا إن أزحنا ولو مؤقتاً عنصر التقدم العلمي والتقني، الذي جعل هذه الدولة تبقى وتتوسع كما توقع ذلك المفكر اللبناني شارل مالك، ونبقى مصرّين على معاداة المستقبل.
آخر الكلام:
المؤسف أن كل هذه الضجة القائمة اليوم تعتمد مثل سابقاتها على العاطفة المؤقتة بلا أدنى استخلاص لأي درس سياسي نافع.