لا يُمكن اعتبار تكريم المطربة اللبنانية فيروز خبراً مهماً أبداً، فدولاب سيدة الشام الأولى مُكتنزٍ عن آخره بأوسمة ونياشين لم ينل مثلها بطل في الحرب العالمية الثانية.
ولا يمكن أبداً اعتبار أننا نبالغ إن قلنا إن وسام “جوقة الشرف” الفرنسي نال شرف أن تُوضع فيروز ضمن قائمة الفائزين به.
لكن هذا الحدث، على الأقل، منحنا فُرصة الكتابة مُجدداً عن سيدة نالت من المكانة ما جعلها تستحقُّ أن تُوضع صورتها بدلاً من شجرة الأرز في علم لبنان.
وبالرغم من أن سيرتها قُتلت بحثاً في كُتب ودراسات أكاديمية فإنها ظلّت مداداً أبديّاً لا بد أن ينهل منه كلّ عاشق للفن وكل مُحب للإبداع العربي.
وظلّت السيرة الفيروزية قادرة دوماً على منحنا جوانب جديدة تستحقُّ تسليط الضوء عليها كلّما أمعنّا النظر.
وفقاً لأرقام مجلة “فوربس”، فإنها المطربة العربية الأعلى مبيعاً في التاريخ بعدما تجاوزت أرقام شراء أسطوانتها الـ80 مليوناً.
ولا عجب في ذلك، فلقد شاركت فيروز في أكثر من 20 عملاً فنياً مسرحياً، وغنّت قرابة 3 آلاف أغنية.
وصفتها المجلة الأمريكية بأنها “المغنية العربية الأعظم على الإطلاق”، التي ذاع صوتها في أنحاء العالم وليس الشرق الأوسط فحسب.
في عام 1966م، حينما قابلتها أم كلثوم للمرة الأولى في لبنان دعتها لزيارة مصر قائلة: “مستنيكِ 30 مليون مُعجب”.
لا ندري من التغطية الصحفية التي أقيمت لِلّقاء، إن كانت فيروز أخبرت أم كلثوم أنها كانت تهرب من منزلها في حي “زقاق البلاط” البيروتي لتستمع إلى أغانيها في راديو الجيران.
حينها كانت لا تزال طفلة فقيرة تُدعى نهاد وديع حداد، بالكاد كان دخل والدها الذي يعمل في مطابع جريدة “لوجور” يكفي لتغطية نفقات أبنائه (هدى، آمال، جوزيف) الأساسية.
لم يكن ليتخيّل أن ابنته ستتحوّل لاحقاً إلى “المطربة فيروز”، التي اجتمع بها حمادي السيد، سفير الجامعة العربية في باريس، في لقاء أذاعه التلفزيون الفرنسي، فخاطبها قائلاً: “أنتِ رمز وحدة لبنان، وإنسانة يجد العرب فيها ذاتهم.. وأنا أرثي لحالك لأنه ليس سهلاً أن يكون المرء رمزاً، وأن يكون فيروز”.
غنّت في مركز جون كيندي للفنون المسرحية في العاصمة واشنطن وفي قاعة ألبرت الملكية في لندن، وفي عام 1961م، قامت بجولة ناجحة في البرازيل والأرجنتين سحر صوتها الجميع، وكتبت عنها صحيفة لاتينية: “إن صوت فيروز تتمثل فيه 4 آلاف سنة من الحضارة”.
ولو صعدت “جارة القمر” إلى القمر وغنّت لأطربت الكويكبات التي تدور حوله وقالت لها “كمان يا سِت”.
كيف حقّقت فيروز كل هذا؟ وكيف صعدت على أكتافنا حتى ناطحت حنجرتها السحاب وهزَّ صوتها السماوات والأرض؟
فقط لأنها تمتلك حنجرة شاجية؟
أم أن ما خفي دوماً أعظم؟
اللقاء الذي غيّر المسار
شكّل عام 1951م انعطافة مهمة في حياتها بعدما دبّر مدير الإذاعة حليم الرومي، والد المطربة ماجدة الرومي، لقاءً بعاصي الرحباني.
يحكي عاصي: “جعلناها -أي فيروز- تغني الألوان الأوروبية الصعبة في البداية، ثم الألوان الشرقية، وجميع الألوان ومع كل الأوركسترات، وكانت بذكائرها تساعدنا وتساعد نفسها على الوصول، ومن هنا أصبح لفيروز خبرة كبيرة من الصعب أن تتأتى لمطربة أخرى غيرها”.
والذي نجح في تقديم فيروز بشكلٍ لم تعرف له لبنان نظيراً، صدحت بأغانٍ راقصة مثل “نحنا والقمر جيران”، وأغانٍ فولكورية مثل “البنت الشلبية”، وأغانٍ ذات حكاية درامية أشبه بالقصة القصيرة مثل “وقّف يا أسمر.. في إلك عندي كلام”.
استطاع الرحابنة تخليص الأغنية اللبنانية من التكرار والسذاجة والأغنية محدودة الإمكانيات التعبيرية، وقاطعت فيروز الأغنيات الطويلة التي امتازت بتكرار الكلمات والتطريب المفتوح ولجأت إلى أغانٍ قصيرة لم يزد طولها على 4 دقائق كثيفة المعاني.
وبمساعدة فيروز قادا تياراً موسيقياً فريدة تفوّقت فيه كتابة الأغنية وأحيت التراث الزجلي، ولاحقاً أعادا إطلاق المسرح الغنائي العربي الذي بدأت خطواته الأولى مع الفنان الكبير سيد درويش، بعدما انتصروا فيه إلى الهوية الوطنية فدشّنوا ما أطلقوا عليه الدبكة اللبنانية، وانحازوا للغتهم الشامية وحدها والتي أطلق عليها رحباني اسم “اللهجة البيضاء”.
وفي عام 1952م، عرف الثنائي أنهما يسيران على أصحِّ الطرق بعدما حقّقت أغنيتهما “عتاب” نجاحاً مذهلاً في جميع أرجاء الوطن العربي.
وبعدها استمر الثنائي في تعاون هو الأبرز في تاريخ الفن العربي، وحققا بموجبه نجاحاً مذهلاً أقلق رئيس مصر جمال عبدالناصر شخصياً، فعقد اجتماعاً بصحبة عددٍ من أرفع معاونيه لمناقشة حدث جَلل، وهو أن شعبية فيروز بالعالم العربي فاقت المعقول، وهو ما اعتبره المجتمعون يُهدّد الأمن القومي المصري الذي يرى أن الصوت العربي الأول يجب أن يكون مصريّاً، وهي المهمة التي فشل فيها فنّانو مصر أجمعين بعد رحيل كوكب الشرق أم كلثوم.
أمر عبدالناصر بمسح مصر طولاً وعرضاً والاستقرار على صوت جميل تجري له عملية إعداد فني وإعلامي وسياسي غير مسبوقة ترفع من نجمه ويُزيح فيروز عن عرشها.
تم ترشيح المطربة الأوبرالية عفاف راضي، والتي تبنّاها الملحن العبقري بليغ حمدي بناءً على توصية رئاسية، ونجح في استغلال كافة قُدراتها الصوتية في أكثر من عملٍ حققوا نجاحاً معقولاً، لكن في النهاية لم تتحقّق المهمة الرئيسية، ولم تقترب عفاف، ولا غيرها، خطوة واحدة من سيدة الأرز القاطنة في أعالي الجبال.
***
“شاهدت تلك المرأة، وكانت نجمة رائعة تستطيع بصوتها أن تؤدي أي أغنية.. لديكم أعظم المغنين في العالم”.
المُطربة الأمريكية بيونسيه تتحدث عن فيروز
كيف أصبحت السيدة الأولى؟
منحتها إذاعة الشرق الأدنى فرصة العمر، وحوّلتها من فتاة تغني في الكورال إلى مطربة يسهر على راحتها حليم الرومي ومن بعده عاصي الرحباني، لكنها لم تتردد لحظة في مقاطعة هذه الإذاعة خلال عام 1956م بسبب تبنيها سياسة مؤيدة للعدوان الثلاثي على مصر.
قررت أن تُوقع على هذه الإذاعة أعظم عقاب بالدنيا فحرمتها من صوتها وانتقلت إلى إذاعة دمشق.
يقول الشاعر عماد أبوغازي: لا يُمكن فهم صوت وحالة فيروز دون معرفة أبرز خصال الحضارة الفينيقية التي تلقي بمؤثراتها -من قرونٍ غابرة- على المكان اللبناني والشخصية اللبنانية، صوت فيروز هو صوت فينيقي يُجسِّد معاني الخفة والسرعة والآلام السطحية.
وحينما قرّر اللبنانيون أكل لحم إخوتهم أحياءً، وتقاتلوا في حربهم الأهلية قررت فيروز أن تخاصمهم جميعاً، فامتنعت عن الغناء داخل لبنان لكنها لم تغادره أبداً إلا لتغنّي من خارجه لأهله ثم تعود إليهم آملة أن يكونوا قد عقلوا.
تجلّى موقفها من هذا الجنون الدموي الذي عربد في بلدها الحبيب، عندما وقفت على خشبة مسرح في دمشق عام 1976م، تشدو “بحبك يا لبنان يا وطني بحبك.. بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك”.
وحين توقفوا عن القتال صالحتهم!
وقفت فيروز على مسرحٍ نُصب نصفه في الجنوب ونصفه في الشمال تصدح للبنان.
لم تُغنِّ لقائدٍ أو لزعيم
لم تشدُ بحكمة رئيس أو بمشروع عملاق
لم تشكر حتى المتحاربين على التوقف عن القتال
فقط خاطبت لبنان، وهتفت “لبيروت من قلبي سلام”، التي بدت كأنها صرخة احتجاج تدعو للتوقف عن العنف والتفرغ لإعادة إعمار البلد.
وبالرغم من أن بيتها، وهي المسيحية، كان يقبع في قرية مُسلمة فإنه لم يُمس بسوء، حتى في أعتى لحظات الجنون الطائفي الذي مزّق البلاد، في تأكيد مستمر من كافة اللبنانيين أن كل شيءٍ في هذا البلد قابل للدهس عليه إلا سيدة الجبل.
ويُحكى أنه خلال اندلاع أعمال القتال المريرة، عندما عرفت الفصائل اللبنانية بنبأ مقتل زوجها أعلنت وقف إطلاق النار!
فُتحت نقاط التفتيش، وسُمح للجنازة عبر شوارع بيروت من الجانب الغربي المسلم حيث عاش عاصي إلى الجانب الشرقي المسيحي حيث دُفن.
وكلّه كرامةً لعيني الست فيروز، التي فعلت ما لم تفعله كافة نداءات الأمم المتحدة، وربما لو أعمل أحدهم عقله ووسّط فيروز لإصلاح البين بين الفصائل المتحاربة لانتهت الحرب في ربع ساعة بدلاً من 15 سنة.
في بلد الاستقطاب الأول في العالم، نأت السيدة فيروز عن كل هذا وترفّعت عنه كسحابة مطر فوق صحراء عطشى، وبالرغم من أصولها المسيحية لم تنحز أبداً لطرفٍ دون آخر أو لكتلة سياسية دون أخرى.
لم تخض انتخابات ولم تُدلِ بصوتٍ أبداً ولم تُناصر أيَّ مُرشحٍ مهما كان، لم تظهر في لجنة اقتراع ولم ترفع بندقية في وجه أحدهم ولم تضع على كتفيها علماً حزبياً إلا علم لبنان.
بقيت بعيدة عن التكتلات السياسية فاكتسبت احترام الكل، لهذا كان غضبها عارماً على ابنها زياد الرحباني حينما صرّح يوماً بأن أمّه تُحبُّ السيد حسن نصر الله قائد حزب الله، ليس فقط لأنه كشف سراً لم يكن عليه أن يبوح به، ليس فقط لأنه يُسيء إلى صورتها، وإنما لأنه يحرم لبنان من آخر رمز يُمكن للجميع أن يجتمعوا حوله بلا منغصات.
فلقد اختارت فيروز ألا تتحدث إلى الناس إلا باللغة التي تتفوق فيها وهي الغناء، وعدا ذلك فإنها تكاد لا تنطق.
وعندما اختارها الصليب الأحمر الدولي عام 1999م، كسفيرة تُمثّل العالم العربي، طلبوا منها إلقاء كلمة في مكتب الأمم المتحدة بجنيف السويسرية، رفضت وطلبت أن تغنّي بدلاً من خُطبة مملة لن يسمعها أحد.
لقاءاتها الإعلامية محدودة للغاية تكاد لا تُذكر، ضمنت بها ألا تقع في زلّة لسان تُغضب أحدهم أو تتبنّى رأياً يُعارضه آخر، فلم تشوّه أبداً صورة الملاك الذي يتجسّد لنا مع كل حفلة وبقي في أذهاننا بلا مُنغصات حتى الآن، تُحيطها هالة من الغموض والتقديس.
حتى قصة حبها مع صانع مجدها عاصي رحباني لم تتصدّر بها المجلات كما فعلت المطربة وردة والمُلحن بليغ حمدي مثلاً، ولم تتسابق الجرائد إلى ذِكر آخر أخبارهما وصورهما ولحظاتهما العاطفية، وحينما سُئلت عنه في لقاءٍ نادر أجابت ببساطة: “أنا ما اختارت شيء من اللي عملته، كله كان من اختياره”.
حينما قرّرت دعم القضية الفلسطينية فعلت ما لم ينجح فيه أهلها أنفسهم، وفي عام 1987م أجرت حواراً مع صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية قالت فيه: “عندما أغني ضد الاضطهاد ليس في الأمر مجرد إيصال كلمات وغناء بواسطة صوتٍ جميل. هذه هي مجرد أسلحتي التي أستخدمها، الأمر أشبه بالصلاة. عندما تصلي فأنت تنقّب في أعماق الروح، ما يصل منّي إلى الجمهور هو ما لا أستطيع السيطرة عليه من روحي”.
منحنا تنقيب فيروز في أعماق روحها 11 عملاً خالداً نصراً للقضية الفلسطينية بشتّى الصور، أبرزها “زهرة المدائن” التي قدّمتها عام 1967م فور سقوط المدينة بأيدي الإسرائيليين، حتى قال عنها الشاعر محمود درويش: “قدّم الرحابنة فناً لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم”.
وهي التحيات المباركات الطيبات التي قدّمتها لأهلها ثم رُدت عليها بأحسن منها، بعدما تقرر إهداؤها مفتاح القدس القديم.
كأعظم وسام في الكون يُزيد من ارتباطها بالسيرة المقدسية، فكلّما تهفُّ على خواطرنا ذكرى النكبة أو الانتفاضة لا نستحضر خطاباً نارياً لعبدالناصر أو فيلماً عن وقائع الحرب القاسية، فقط نُشعل التلفاز ونبحث عن صوت فيروز.
المصادر:
- كتاب “بليغ” لطلال فيصل، ص 133
- بحث “فيروز.. موهبة الصوت الملائكي” للناقد الأردني غازي أنعيم، الصفحة 3
- بحث “فيروز في الغناء العربي” للناقد اللبناني هاشم قاسم، ص 123
- رسالة دكتوراه “النزعة الإنسانية في الأغنية الفيروزية” للباحث جورج حداد، ص 24