وكان مولعاً بالزمن.
في مسلسل من اخراجه وكتابة زوجته دلع الرحبي وبطولة منى واصف وسلاف فواخرجي وجمال سليمان ومن انتاج العام 2005، حمل عنوان قصيدة ابو فراس الحمداني التي غنتها أم كلثوم “عصيّ الدمع”، يلعب دور قاضٍ يترك القضاء في نهاية المسلسل ليعمل في تصليح الساعات المعطّلة، بعدما يكتشف استحالة اصلاح النظام القضائي السوري المتوقفة ساعته “منذ بدايات القرن الماضي” كما يقول لصديقه المحامي في الحلقة الأخيرة.
المسلسل فيه تشريح عميق للمجتمع السوري في حبكة درامية تجمع بين زمنين عبر الموسيقى الكلاسيكية الغربية والموسيقى الشرقية المتمثّلة بأعمال أم كلثوم. دور “الساعاتي” الذي لعبه حاتم علي في المسلسل هو دوره فعلياً في الحياة. كان المخرج السوري منهمكاً طوال الوقت في محاولة إصلاح الزمن عبر أعماله. وهو ما عكسته اختياراته للسير التاريخية التي قدمها، خصوصاً في أعمال مثل “عمر” الذي تناول سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، أو “صلاح الدين الأيوبي”، أو “الملك فاروق” الذي أثبت مقدرة كبيرة لدى حاتم علي في “غزو” الدراما المصرية والتربّع على “عرشها”، أو “التغريبة الفلسطينية” التي تحاول سرد تفاصيل المعاناة الفلسطينية منذ الانتداب البريطاني وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي، او ثلاثية الأندلس (“صقر قريش”، “ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”) التي تروي حكاية العرب مع الاندلس من الفتوحات وحتى سقوط غرناطة (كتابة وليد سيف)، أو “الزير سالم” (كتابة ممدوح عدوان) الذي يحكي قصة حرب البسوس عبر شخصية الشاعر الجاهلي عدي بن ربيعة، كلها أعمال بطلها الزمن، و”الساعاتي” حاتم علي يحاول تحريك عقاربه في محاولة الفهم والإفهام عبر الكاميرا التي تضبط الزمن متلبّساً في مكانه الأصلي وتعطيه أبعاده الضرورية لتفسيره ووضعه في سياقاته.
توقّفت ساعة قلبه فجأة عن العمل، بعدما اتعبته محاولات إصلاح الزمن، بلا جدوى.
هذا الإشتغال بالزمن التاريخي، ترافق مع لعب مع الزمن الحاضر عبر الأعمال الدرامية التي تناولت المجتمع السوري وتناقضاته من “الفصول الأربعة” إلى “الغفران” و”أحلام كبيرة” و”قلم حمرة” الذي يحكي تأثير الثورة السورية والفترة التي سبقتها وتلتها على الطبقة الوسطى السورية، واضطر علي إلى تصوير المسلسل كله في بيروت ونجح في إظهارها مطابقة للعاصمة دمشق، وعرض المسلسل في رمضان العام 2014 على شاشة الأم بي سي. في هذه الأعمال التي يحضر فيها الهمّ السوري المجتمعي، يبدو الزمن كساعة رملية، يقلبها حاتم علي للمحافظة على حركة الرمال في قمقم الوقت، مع نجاحه في منعها من الإفلات من بين أصابعه. حتى عندما يغيب السياق التاريخي، بمعناه التقليدي، يحضر التوثيق بأبعاده المجتمعية، مع ما يحمله ذلك من رسائل مبطنة وذكية يضمّنها في المشاهد والحوارات واللقطات اللماّحة والموهوبة التي تقول الكثير بوقت قصير وتصفع المشاهد لإيقاظه من رتابة الحياة إلى صدمة الدراما.
هكذا مثلاً يدخل خالد تاجا في مشهد متكرر في “عصي الدمع” يومياً إلى قصر العدل ليسأل أحد المحامين: “سؤال لو سمحت يا أستاذ؟ نحنا هون وين؟”، وحين يجيبه “نحنا هون بقصر العدل”، يستدرك تاجا: “قصر شو؟”، ليرد المحامي بثقة: “العدل”. فينفجر تاجا من الضحك.
هل هناك مشهد اكثر تعبيراً عن غياب العدالة في سوريا من مشهد بسيط وذكي كهذا؟
لماذا كثرة الإستشهاد بـ”عصيّ الدمع”؟ لأن هذا المسلسل لم يأخذ حقه تماماً من بين أعمال حاتم علي الأخرى، ولأن الشخصية التي يؤديها حاتم علي أمام الكاميرا تشبه شخصيته التي يعيش فيها وراء الكاميرا كمخرج، ولأن عنوانه يعبّر تماماً عن حال كثيرين من محبّي حاتم علي الذين غصّوا بدموعهم مع سماع خبر وفاته بأزمة قلبية قبل يومين من نهاية هذا العام المشؤوم.
أعمال حاتم علي
هل تذكرون عملاً درامياً عالج مأساة الفلسطينيين أفضل من “التغريبة الفلسطينية”؟، أو عملاً تاريخياً يروي قصة حدثت في العصر الجاهلي جذب ملايين المشاهدين في الوطن العربي بأجمعه مثل “الزير سالم”؟، أو أعمالاً علَّقت قلوبنا بالأندلس وجمالها وعكست لنا الحضارة التي بناها المسلمون هناك مثل “صقر قريش” أو “ربيع قرطبة” أو “ملوك الطوائف”؟ أو أعمالاً حاكت البيئة السورية والعلاقات الاجتماعية بين عائلاتها مثل “الفصول الأربعة” أو “أحلام كبيرة”؟
هذه نبذة عن أجمل أعمال حاتم علي:
الزير سالم.. من أعمال حاتم علي التي لا تنسى
حاز مسلسل الزير سالم، الذي عُرض قبل 20 عاماً من الآن، شهرة واسعة في كافة أرجاء الوطن العربي، ولعله من الأعمال الدرامية الأيقونية التي ما زالت عالقة في أذهان الكثيرين. ولا عجب في ذلك، إذ اجتمعت عدة عوامل أسهمت في رواج هذا العمل، أبرزها الحبكة الدرامية الشيقة التي ألفها الراحل ممدوح عدوان، والإبداع الذي أُخرج به العمل من قِبل حاتم علي، واجتماع عدد كبير من نجوم الدراما السورية في هذا العمل مثل سلوم حداد وفاديا خطاب وخالد تاجا وعابد فهد وفرح بسيسو وسمر سامي وسامر المصري وغيرهم.
كما كان “الزير سالم” انطلاقة للعديد من الوجوه الشابة إلى عالم النجومية، كان أبرزهم تيم حسن وتاج حيدر.
وتدور أحداث المسلسل حول الحرب التي اشتعلت بين أبناء العمومة من أجل ناقة وامتدت قرابة 20 عاماً وقيل 40.
ثلاثيّة الأندلس
ما بين عامي 2002 و2005 أخرج حاتم علي 3 أعمال تتحدث عن الأندلس، ابتداء بـ”صقر قريش” مروراً بـ”ربيع قرطبة” وانتهاء بـ”ملوك الطوائف”.
لكل جزء من هذه الثلاثية استقلالية من حيث الحكاية والأجواء والشخصيات، لكن يجمع بين الأجزاء الثلاثة إبداع حاتم علي، الذي حرص على إخراج تحفة بصرية خلدت اسم حاتم علي في عالم الإخراج.
التغريبة الفلسطينية
“أيقونة دراما القضية”، هكذا وصف مسلسل التغريبة الفلسطينية، الذي اعتبره النقاد أفضل معالجة درامية للقضية الفلسطينية على الإطلاق، بنص قوي من المؤلف وليد سيف ورؤية إبداعية من المخرج حاتم علي، شق هذا العمل الدرامي طريقه إلى النور بعد 4 سنوات من كتابته، ليصبح واحداً من أهم الأعمال الدرامية التي تناولت معاناة الفلسطينيين على مر الزمان.
يروي المسلسل قصة أسرة فلسطينية فقيرة تكافح من أجل البقاء في ظل الاحتلال البريطاني، ثم خلال الثورة الفلسطينية، وفي خيام اللجوء بعد النكبة، حيث تُلخص الأحداث التي مرت بها هذه الأسرة حقبةً تاريخيةً هامة في حياة الفلسطينيين، امتدت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي.
تكمن أهمية العمل وعبقريته في أنه لم يلخص فقط تاريخ تلك المرحلة، بل استعرض كذلك الحياة الاجتماعية الفلسطينية بأطيافها وطبقاتها المختلفة، إذ تميز بتنوع شخصياته، فضم الفلاح والعامل والشاعر والمثقف والثائر والإقطاعي وحتى الخائن لوطنه.
الفصول الأربعة
يعدّ مسلسل الفصول الأربعة من كلاسيكيات الدراما السورية التي تركت بصمة فنية في تاريخ الفن الشامي، وبمشاركة نخبة من نجوم الصف الأول على الشاشة الرمضانية.
المسلسل الذي عُرض في عام 1999، ثم مجدداً عام 2002، تناول الحياة اليومية لأسرة دمشقية والعلاقات الأسرية التي تربط بين أفرادها والأسر المحيطة بها.
منهم الأرستقراطي، والعامل، والعزباء، والمتزوج، والعانس، وما إلى ذلك من تنوُّع فسيفساء في أفراد المجتمع.
وشكَّل طاقم العمل نقاط قوة العمل، إذ ضم نخبة من نجوم الصف الأول، منهم جمال سليمان وخالد تاجا وبسام كوسا وسلمى المصري ومها المصري وديما بياعة ويارا صبري وغيرهم الكثير.
وكان يتم استضافة بعض الفنانين المرموقين لحلقة واحدة فقط، نذكر منهم: دريد لحام، وغسان مسعود، وفرح بسيسو، وسلاف فواخرجي، وغيرهم الكثير.
حاتم علي متعدد المواهب
رغم تميزه وسطوع نجمه في عالم الإخراج، فإن الراحل حاتم علي كان قد بدأ حياته المهنية في التمثيل الذي تميز فيه أيضاً، إذ أدى العديد من الأدوار التي لا تزال عالقة في الذاكرة، مثل دوره في مسلسل “هجرة القلوب إلى القلوب”، و “العبابيد”، و”قصة حب عادية جداً”، و”مرايا” بأجزائها المختلفة.
كما خاض حاتم علي تجربة الكتابة، وله مجموعتان قصصيتان هما: ما حدث وما لم يحدث، وموت مدرس التاريخ العجوز.
وفي عالم المسرح كتب حاتم علي ثلاث مسرحيات بالتعاون مع المخرج المسرحي زيناتي قدسية بعنوان الحصار. كما كتب مسرحية “حكاية مسعود” و”مات 3 مرات” و”البارحة- اليوم- وغداً”.
كما أنتج علي العديد من المسلسلات والأفلام منها: فيلم “علاقات شائكة” عام 2006 ومسلسل “طوق الياسمين” وفيلم “8 ملم ديجيتال” .
وأعلن علي رسمياً في 25 ديسمبر/كانون الأول عام 2007 افتتاح شركته “صورة للإنتاج الفني”، التي بدأت أول إنتاجاتها مع مسلسل “صراع على الرمال”.
حاتم علي وزوجته وأولاده
لم تكن حياة المخرج الراحل الشخصية تحت الأضواء، لكن من المعروف أنه متزوج من الكاتبة والحقوقية السورية دلع الرحبي منذ عام 1990، وله منها ولدان.
ومن الجدير بالذكر أن حاتم علي من مواليد عام 1962، وقد ولد في الجولان، ثم نزح مع عائلته التي استقرت في مخيم اليرموك.
وهو حاصل على إجازة في الفنون المسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق عام 1986، قسم التمثيل.
في قصيدة ابو فراس الحمداني بيت غنته أم كلثوم يقول: “اذا الليل أضواني بسطتُ يد الهوى/ وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر”. وهذه حال كثيرين سيجدون دمعهم يخونهم حينما يقعون على مشاهد من إخراج “الساعاتي” الذي توقّفت ساعة قلبه فجأة عن العمل، بعدما اتعبته محاولات إصلاح الزمن، بلا جدوى. لكن العزاء يبقى في بيت شعري آخر من قصيدة “عصي الدمع”: “هو الموتُ فاختر ما علا لك ذكره/ فلم يمت الإنسان ما حييَ الذكرُ”.