إذا كان الخوف من طبيعة عقلانيّة، والخُواف لاعقلانيّاً، فإنّ الهول هو ضدّ العقل. لا بل يبدو، حين يضرب ضربته، غيرَ قابل للتعقّل، ولا حتّى للتوهّم. «لسان العرب» ذكّر، في عرض معنى «الهول»، بـ «هول الليل وهول البحر». ونحن حين نقول: «يا للهول!»، نكون ندفع سبب الخوف من الواقع إلى ما يتعدّاه: إلى الخرافيّ أو إلى الطبيعيّ. ومن يقول: «هالَني الأمر» يكون قد نسب إلى ذاك الأمر قدرة على إلحاق الشلل بفهمه وحبسَه في اضطراب غامض ومفتوح. أمّا من يقول إنّه تعرّض للتهويل، فيكون يعلن أنّ ما تعرّض له محاولةُ دفعه إلى خارج احتمالات الواقع ومعطيات العقل والمنطق تسهيلاً لابتزازه. إنّ في الأمر خروجاً، كبيراً أو صغيراً، من رقعة الفيزيق إلى غابة الميتافيزيق.
الخوف الذي ينجم عن أفعال الحروب وتدميرها لا يندرج في الهول لأنّ تفسيره كامن فيه: إنّه الحرب نفسها، ومن ثمّ القدرة على الفهم والتأويل تبعاً لمعرفتنا بنزاع أطرافها ومواقفهم أو باستعداداتهم الحربيّة. هكذا وفيما نخاف في الحرب، فإنّنا نحتفظ بطاقة ما، قد تكبر وقد تصغر، على الاستيعاب والتحليل.
تفجير مرفأ بيروت، الذي تقع اليوم ذكراه السنويّة الأولى، هول كبير. إنّه الهول، بألف ولام التعريف. فهو، فضلاً عن ضخامته وضحاياه، وعن كونه «أكبر انفجار غير نوويّ» وفق الوصف الذي بات شائعاً، حصل في زمن عاديّ، أو أنّه ظاهريّاً كذلك. عاديّة الزمن، ولو ظاهريّاً، تجعل مَن يتعرّضون له عاجزين تماماً عن توقّعه أو فهمه، ناهيك عن التدخّل الذي يبقى متاحاً إلى هذه الدرجة أو تلك في أزمنة الحرب (وقد جاءت جائحة كورونا تُعدم فرص التدخّل).
هكذا يزلزل الهولُ الذي كانَه التفجيرُ عاديّتَنا الظاهريّة مثلما تفعل أحداث الطبيعة حين تضرب حالة من الاستقرار أو الاستقرار المتوهّم. وكمثل الأفعال الطبيعيّة، فإنّ الهول يمحو ويزيل على نحو جذريّ تاركاً مسرح الفعل قاعاً صفصفاً أو «صفراً»، على ما سمّى الأميركيّون مسرح جريمة 11 أيلول، قبل أن يستخدم اللبنانيّون التعبير ذاته وصفاً لتفجير المرفأ.
وهذا لا يعني أنّ الحدث غير سياسيّ، فهو سياسيّ حتّى النخاع، لكنّ سياسيّته محجوبة وصامتة، لا يسبقها ما يوحي بها كما لا يتبنّاها أحد ولا يليها تبرير. في هذا المعنى، يصحّ الهول وصفاً لأحداث مفاجئة، كانفجار تشيرنوبيل في 1986 وبيرل هاربر في 1941 و11 أيلول 2001 في أميركا، وبدرجة أقلّ قليلاً وصفاً لأحداث لم يكن واضحاً من الذي فعلها، ولم يكن مفهوماً لماذا فُعلت أصلاً، كحريق الرايخستاغ في 1933 وحريق القاهرة في 1952 وحريق سينما ركس في عبادان في 1978 (وبالمناسبة، فالحرائق الثلاثة مكّنت سلطة النازيّين في حكم ألمانيا، ومهّدت لانقلاب 23 يوليو في مصر، ولسيطرة الخميني على إيران).
وفي لبنان «الساحة»، جاء هول تفجير المرفأ متوِّجاً لأهوال سابقة أصغر. فحين كانت تنفجر مخازن أسلحة حزبيّة إبّان الحرب كان الهول يضرب البيئة المقيمة قرب المخزن، خصوصاً وقد أقنعها الحزبيّون أنّ الأسلحة خُزّنت هناك لحمايتها من عدوّ متربّص. وقد انتصب الهول بكامل جلاله الإفنائيّ حين فُجّر في بيروت مبنى السفارة العراقيّة عام 1981 ثمّ مبنى السفارة الأميركيّة في 1983، من دون أن تكون هناك حالة نزاع بين الدولة اللبنانيّة وأيّ من البلدين. وبالفعل فبين ليلة وضحاها اندثر مبنيان وسفارتان ورجعت قطعتا أرض إلى ما كانتا عليه قبل البناء عليهما فيما بات على البصر أن يعاود التكيّف. وزاد في هوليّة الهول أنّ الإفناء نزل بمبنيين يُفترض نظريّاً، ولا يزال كثيرون يفترضون، أنّهما وُجدا لحلّ النزاعات بالدبلوماسيّة. أمّا الهول الأكبر حتّى تفجير المرفأ فكان اغتيال رفيق الحريري الذي حينما انطلقت به سيّارات موكبه، يوم 14 شباط 2005، كان زعيماً لجزء معتَبر من اللبنانيّين، لكنّه بعد دقائق صار كومة من رماد مثله مثل 21 شخصاً آخر، ولم تحل عاديّة ذاك اليوم المشمس دون إصابة 220 شخصاً واشتعال النيران في عشرات السيّارات وتهدّم مبانٍ عدّة، وبعد ذاك وضع البلد برمّته على تخوم حرب أهليّة.
سمير عطا الله:يوم دُكَّت المدينة دكّاً
كنا في الطابق السادس من مبنى «النهار»، استوديو التلفزيون. انتهت مقابلة الزميلة موناليزا فريحة معي، وعادت إلى مكتبها في قاعة التحرير المحاذية. جمعتُ أوراقي، ووقفت للمغادرة. فجأة دوّى دويّ أحدث ما يشبه سحب الهواء من رئة المدينة.
كنتُ قد سمعت من الذين عاشوا الحرب في لبنان، أن الانفجارات المفرَّغة يلحقها انفجار ثانٍ بقوة الجحيم. وخطر لي تلك الثانية أن مبنى «النهار» هو الهدف، وأنني لا أملك الوقت للهروب، قعدت وجلست في مكاني، بحيث لا يتعذب جارفو الركام في لملمة الأشلاء. دبّ فيَّ حزن سريع على ما سوف أسببه من حزن لعائلتي.
الساعة السادسة وخمس دقائق، وقع صوت في حجم مليون صاعقة رعدية، أو مليونين. فلما وجدتني لا أزال حيّاً، تأملت الاستوديو حولي بحثاً عن الباب فلم أرَ سوى جدران متداعية. وبسرعة عادت موناليزا فريحة تبحث عني. ورفعت كومة من الخشب وخرجنا فلقينا عامل الهاتف جوزف أبي غانم أمامنا. قال لي: «يقولون إنه انفجار في (بيت الوسط) مقر الرئيس سعد الحريري».
«النهار» أو مقر سعد الحريري المُذهَب، الخوف واحد: لقد بدأت الحرب الأهلية التي يتحدث عنها اللبنانيون، خصوصاً المسؤولين، كما يتحدثون عن لائحة الطعام. نزلنا الدرج فوق الزجاج المحطم. ولم أكن أحس بأنني أسحب معي الدماء والنثرات الجارحة المذرية على مدى الأدوار الستة. وعندما وصلت إلى مدخل المبنى وجدت سيارتي التي قوّسها الانفجار، لكنني لم أجد السائق. في تلك اللحظة بدأت الصدمة تتحول إلى خوف: مسؤوليتي عن شاب عاد من سوريا للتو بعد الاحتفال بخطوبته.
كان الانفجار قد رمى به بعيداً، فأخذ يعدو كمن في كابوس لجوج. اتصلت به فقال إنه تدبر سيارة تنقله ويجب أن أتدبر أمري. كانت السيارات تتسارع في ساحة البرج مثل قفير نحل هارب. وحتى سيارات التاكسي، التي يتقاتل سائقوها عادة على راكب، أدبرت لا تتوقف لأحد.
في مثل هذا الانفلات الخائف والمجنون، عرفني شاب من طرابلس فتوقف لي، ثم أسرع كالصوت فوق الانفجار التالي. في هذه الأثناء كان ابني «يطرح النداء» عبر الوسائل طالباً المساعدة من أي مار في المنطقة. توقفت عند تقاطع طرقات أنتظر التاكسي الذي أرسله ابني إليّ. زجاج يملأ الأمكنة. وقال لي رجل يهرع نحو ملاذه في ذلك الاتجاه: «أخبروني أن سطوح الحي عندنا قد حلقت سطوحها حلقاً».
بدأت أدرك أن الصوت الجهنمي الذي سمعته قد زعزع بصوته المدينة. لم أعد أرى وأنا عائد إلى البيت سوى أناس يهرعون إلى بيوتهم. عندما وصلت إلى البيت وشاهدت التلفزيون، بدأت أدرك بعض ما حصل، ولماذا كان ابني وأمه لا يزالان يرتعدان. وفيما استمرت غيوم الانفجار في التصاعد بألوانها أطبق غيم أسود على صدر لبنان.
في مواجهة «الغموض وخطر الغموض»، انتشرت الرايات وانتعشت صناعة التحليل. البعض طلب منا أن نحمد الله لأن الانفجار وقع في اتجاه الشرق وإلّا لتناثرت المدينة برمّتها. ثم بدأنا نرى الضحايا والمشردين والبيوت المدمرة. فالأمهات الثكالى، فالأيتام، فالذين فقدوا، إلى جانب المأوى، الأقرباء والأصدقاء.
من الذي يوزّع هول «القيامة الآن» على البشر، وعلى اللبنانيّين تحديداً؟ أغلب الظنّ أنّه الطرف الذي لا يستوقفه البشر ولا المدن ولا المرافئ حين تستدعي مصالحه أو عقائده المتعصّبة ذلك. أغلب الظنّ أنّه طرف لا تُلبّى مصالحه بطريقة أخرى، فيما عقائده تجيز كلّ شيء. أغلب الظنّ أنّه… احزروا!