تقسم الدول وفق مفاهيم تأسيسها، إلى ولايات، أو إمارات، أو محافظات، أو مقاطعات أو جهات. والهدف ليس الفصل بينها، بل تنظيم الوصل والوحدة في ظل مركزية واحدة وقوانين واحدة وتأكيد مبدأ المساواة، وبالتالي، العدل. كل هذه مفاهيم بديهية طبعاً، تتعرض أحياناً للخلل. الدولة الوحيدة التي تعاني من خلل دائم في مسارها الوطني هي لبنان. فمن حيث الشكل، تم تقسيمه إلى محافظات وأقضية وفقاً للنسب الطائفية. غير أن الحاصل هو أن الحروب الأساسية والدائمة هي بين الطوائف نفسها. أقدمها وأكثرها شراسة ودموية هي بين الموارنة أنفسهم. يليها انقسام الدروز تاريخياً مع أولوية دائمة لآل جنبلاط، الذين خرجت منهم شخصيات تاريخية في الرجال وفي النساء. الشيعة كانوا ينقسمون في الماضي بين الإقطاع وتمرد اليسار، وهم الآن يخوضون المعركة الانتخابية موحدين مرحلياً، لأن بقاء التحالف بين «أمل» نبيه بري و«تيار» ميشال عون ينتهي مفعوله لحظة إعلان النتائج.
الخلاف السني – السني ليس جديداً. الجديد فيه ضراوته. والرجل الذي كان يفترض أن يتزعم الحركة السياسية السنية في أصعب مراحلها منذ الاستقلال، لم يقرر فقط العزوف، بل مقاطعة الانتخابات. مشهد لا يذكر إلا بالموارنة، أمس واليوم وغداً: أولاً الانقسام ضمن البيت الواحد بين سعد الحريري وشقيقه البكر، وثانياً بين الحريري وحلفاء وأصدقاء الأمس من سنة ومسيحيين ودروز وشيعة. وفيما يجلس الحريري خلف صمته الغامض، يغرد بعيداً عنه سياسيون بارزون وقياديون مثل فؤاد السنيورة ونهاد المشنوق ومصطفى علوش وأحمد فتفت وسواهم.
المستفيد الأول من هذه البلبلة العامة هو «حزب الله». وعزوف الحريري «المؤقت» أكبر هدية تقدم إليه. وما كان تردداً في حسابات الربح والخسارة أصبح مرجحاً. هذا الوضع له تسمية في الفرنسية: الخسارة المربحة. وأريد أن أقول للرئيس المعتكف إن السياسي الناجح هو الذي يعرف كيف يخسر، وليس فقط كيف ينجح.
والمؤسف أن الرجل أخفق في نجاحه وأخطأ في الخسارة والابتعاد عن حلفائه، عن حق أو عن خفة. الكثير من خيارات سعد الحريري كان خاطئاً وقصير المدى. ولذلك كانت أضراره بعيدة المدى، عليه وعلى لبنان. وكثير من الدروب التي اختارها، طوعاً أو خلافه، تؤدي إلى ما أدت إليه.
لا تليق الانتخابات للبنانيين. شعب يهوى الرقص على قبره. دفع المرشحون 100 ألف دولار للظهور في البرامج التلفزيونية من أجل اجترار الكلام نفسه. والناس جائعة وحزينة وتأكل من أكياس القمامة في الشوارع. والقمامة تلال وجبال وشواطئ. ومرض وأذلاء. وعتم وظلام وقهر ووقاحات يشيب لها الولدان. قدر ولا قضاء. وقضاء ولا حياء. امرأة تعبر بيروت نصف عارية لكي تحمل القضاء على النظر في دعوى طلاقها وأحقيتها بحضانة أطفالها. لا. لم نرَ مشهد هذا الزوال من قبل. قضاء لا يريد النظر في دعوى طلاق، ولا يقدر على النظر في ثالث أقوى انفجار في التاريخ. وشعب معركته على التلفزيون، ما بين غائب عن الوعي، وغائب عن الضمير، وغائب عن الإحساس. أجل!
غسان شربل:«بيروت لا تستحق هذا العقاب»
في مركزِ الاقتراع في السِّفارة اللبنانية انتابتني مشاعرُ متناقضة. فرحت لأنَّ اللبنانيين لا يزالون يتوجَّهون إلى صناديق الاقتراع على رغم نجاح المنظومة الحاكمة في إفراغ هذه الممارسة من معانيها. لم تُسهم الدوراتُ الانتخابيةُ السابقة في وقفِ الانحدار الذي طبعَ العقودَ الماضية، والذي تحوَّل مريعاً في السنوات الأخيرة. في الدورات السابقة، ساهمت الأوراق التي أسقطت في صناديق الاقتراع في تعبيد الطريق نحو جهنَّم. ربما لأنَّها بايعت رجالاً لا ينتمون من قريب أو بعيد إلى منطق الدولة. رجال يعتبرون الدولةَ فرصة لنهبِ ما تبقَّى من المقدرات وللحصول على حصانات تمنع أيَّ محاسبة أو محاكمة. وخير دليل أنَّنا لم نشاهد مرتكباً واحداً وراءَ القضبان، بل شاهدناهم في المواقع نفسِها يحاضرون في الشفافية ودولة المؤسسات، بينما تزايد عددُ الذين ينقّبون في أكوام النفايات بحثاً عن كسرةِ خبز.
وزارني شعورٌ بالحزن لاعتقادي أنَّ اللبنانيين يتوجَّهون إلى الصناديق ويقترعون ضد أطفالهم. يقترعون لمصلحة زعيمٍ يعتبرون أنَّه سيفُ الطائفة أو المذهبِ أو المنطقة في وجهِ الآخر الذي كرَّسوه مصدراً للخطر على الجماعة التي ينتمون إليها. يذهب اللبنانيون إلى الاستحقاقات الانتخابية حاملين إرثاً صعباً من المخاوف التي تنتقل عبر التاريخ السري المسنونِ المفتوح دائماً وراء الستائر المسدلة. كأنَّ الانتخابات جولةٌ جديدةٌ من حرب أهلية اضطروا إلى إيقافها، قبل التمكّن من توجيه ضربةٍ قاضيةٍ إلى الطرف الآخر. يتعاملون مع الانتخابات بصفتها فرصةً لاستكمال حصارِ أو شطب من لا يشبههم أو من لا يستسلم لإملاءاتِهم.
في الانتخابات يعيد اللبنانيُّ ارتكابَ جريمة أقدم عليها في الموعد السابق. إنَّها إعطاءُ تفويضٍ جديد لرجل لم يفعل أكثرَ من العزف على العصبيَّات في المناسبات التي تُسمَّى ظلماً وطنيةً. يقترع مجدداً لرجل فاحت رائحةُ فسادِه في أي حقيبة وزارية شغلها. رجل لا يرى في الوطن غيرَ وليمةٍ سائبةٍ تغري بشراهة بلا حدود. ومن عادة هذا النوع من الشراهة أنْ يضاعفَ الجوع. لو سألتَ اللبنانيَّ في المقهى عن أفراد المنظومة لانهالَ عليهم بالهجاء المرّ. لكنَّه حين يرجعُ إلى عائلته وعشيرته وقبيلته وطائفته يغفر للفاسد كلَّ ذنوبِه، لأنَّه يعتبره محارباً موثوقاً في الحرب الأهلية المعلنة أو المضمرة.
الصحافيُّ تغريه الحكايات. أمضيتُ سنواتٍ طويلةً أتابع أخبارَ القساةِ في هذا العالم. وعثرت لدى هؤلاءِ على ما تقشعرُّ له الأبدان. لكن لا بدَّ من الاعتراف أنَّ هؤلاءِ الذين ولَغُوا في الدَّمِ والفسادِ لم يصلوا حدَّ نهبِ ودائع المواطنين في المصارف. لم يصلوا حدَّ اغتيال العاصمة التي تسلقوا أغصانَها للاستيلاء على المقدرات والمصائر والأعمار. استباح قساتُنا الخريطةَ من الوريد إلى الوريد ولم يرف لهم جفنٌ حين حوَّلوا اللبنانيين جموعاً «مشلعة» موزعةً على أبواب السفارات. وعلى رغم هذه المشاهد، تزدحمُ على الشاشات أصواتُ الفاسدين والفاشلين والمغامرين تشدُّ العصب وتوقظ الغرائز لتعودَ من الانتخابات بانتصار يمحو الجرائمَ السابقة ويمهد لتغطية الجرائم المقبلة.
قبل سنوات، ذهبتُ إلى محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان. كانت بيني وبينَه مودةٌ طويلةٌ وكنت أحرصُ على الاستماع إلى قراءته حتى لو اختلفتُ معها أحياناً. مازحني قائلاً: «أخشَى عليكَ من التقاعد المبكر». استغربتُ فأوضح: «أخشى أن تواجهَ قريباً وضعاً لا يسرُّ الصحافي. وهو أن تأتيَ إلى البلد ولا تشعر بأي رغبة في لقاء سياسي أو محاورته. أخشى أن يكونَ البلد فقد معناه ودورَه وحيويتَه والقواعدَ التي سببت وجوده».
سألته أن يذهبَ أبعد. قال: «ارتكب اللبنانيون أخطاء قاتلةً بحق بلدهم. نحن كنَّا شركاء في ارتكاب بعض الأخطاء، لكن لم نفعل ما فعلَه الذين قامروا بكل شيء. لقد تخلَّى اللبنانيون (مداورة) عن لغة التعايش ومنتصف الطريق. قام لبنان على فكرة قبول الآخر والتعايش مع المختلف. فكرة شطب الذي لا يشبهُكَ وادعاء امتلاك الحقيقة كاملة، وفرضها بالقوة على الآخرين لا تبقي شيئاً من لبنان».
طلبت منه أن يعدّدَ الأخطاءَ الكبرى. قال: «كان رهانُ الحركة الوطنية على السلاح الفلسطيني لاستعجال التغيير خطأ كبيراً. وكانَ إيصال بشير الجميل إلى الرئاسة استناداً إلى عاصفة إقليمية أطلقها الغزو الإسرائيلي خطأ هائلاً. كانت (حرب الجبل) أكبرَ من قدرة لبنان على الاحتمال، لأنَّها أضعفت حصانةَ التركيبة اللبنانية. كان إصرارُ النظام السوري على تطبيق سوري لاتفاق الطائف عملاً خاطئاً وخطراً. لا يمكن أنْ أعدّدَ لك الأخطاء والخطايا. كان اغتيال رفيق الحريري انقلاباً داخلياً وإقليمياً استهدفَ الرجل وطائفتَه وموقعَها وكذلك موقع لبنان الإقليمي والدولي. وكان إيصالُ ميشال عون إلى الرئاسة خطأ هائلاً. لم يصل عون بانتخابٍ بل بانقلاب. فحين تبقي المركز شاغراً مشترطاً وصول شخصٍ بعينه، لا يبقى من اقتراع مجلس النواب غير التوقيع على هدف الانقلاب».
أضاف أنَّ «عون وصل في ضوء موقفه من اغتيال الحريري وسائر الاغتيالات. وفي ضوء أحداث 7 مايو (أيار). لقد تولَّى قائدٌ سابقٌ للجيش وأبرزُ زعيمٍ مسيحيٍّ التوقيعَ على إضعاف منطق الدولة إلى غير رجعة. قد يكون توهَّمَ أنَّه يستطيع التشاطر على المعادلات متجاهلاً أن مشروع (حزب الله) هو أيضاً أكبرُ من قدرة لبنان على الاحتمال».
طال الحديث مع محسن إبراهيم، لكنَّ مسألةً استوقفتني. قال: «لو كنت مكانَك لشكَّلت فريقاً مهمته كتابة قصة بيروت. هذه العاصمة تذهب في اتجاهات صعبة وخطرة. لا تستحق بيروت هذا العقاب».
زرتُ مركز الاقتراع اللبناني غداة عودتي من برلين التي ذهبت إليها لأعاينَ أحوال اللاجئين الوافدين من أوكرانيا؛ خصوصاً أنَّني كنتُ زرتُ المدينةَ قبل 7 سنوات حين فتحت ألمانيا أبوابَها أمام أمواج اللاجئين السوريين. كانت القصص التي استمعت إليها موجعةً، لكن لازمني شعورٌ أنَّ أوكرانيا قد تعود إلى الحياة الطبيعية أو شبهِ الطبيعية مع خريطة مبتورة، قبل أن يشهدَ لبنان قيامَ دولة تستحق التسمية. أعرف أنَّ أصواتاً نقيَّةً ارتفعت تعبيراً عن الشوق إلى رؤية دولةٍ ووطن. لكنَّ أغلبّ الظَّنِ أنَّ المنظومة الفاسدة ستحصل على تفويضٍ جديد. لا يستحقُّ لبنانُ هذا العقاب.