الكويت: هل الحل في الحل؟
في 18 مايو (أيار) الماضي صدرت صحيفة «القبس» وعلى مدى صفحتها الأولى افتتاحية بعنوان مثير للقلق: «الكويت ليست بخير». تجاوزت الافتتاحية تقاليد الكويت وتقاليد صحافتها في التعبير عن التأزم السياسي الذي تمر به البلاد منذ فترة، وأدّى إلى حالة «من التفكك» كما سماها الشيخ مشعل الأحمد ولي العهد، أو «السير نحو المجهول» كما حذرت «القبس» التي تحدثت عن شلل في الإدارة وخلل في النمو «فيما تقطع الدول الشقيقة الأخرى ملايين الأميال».
في الأزمات الكبرى والطريق المسدود تلجأ الكويت إلى الدستور حَكَماً. وتسعى إلى الحل عن طريق حل مجلس الأمة الذي فيه الخصام. والحَكَم كما قال سيد الحكمة المغناة. ويبعث حل البرلمان والانشغال في انتخابات جديدة نوعاً من الحيوية السياسية التي يعشقها الكويتيون، لكن الأزمة الحالية تبدو وكأنها أبعد من ذلك، كما يلمح كتّاب وكاتبات البلاد.
المسألة اليوم أبعد من «الحيويات» العادية بكل وضوح. وعندما اطمأن قادة الخليج إلى صحة نائب الأمير، أدرك الكويتيون، ومعهم العالم، أن ثمة وضعاً جدياً على مستوى القيادة، في الوقت الذي تتدهور فيه العلاقة بين المجلس والحكومة على نحو لم يُعرف من قبل. وإذا لم تكن هذه أسوأ الأزمات، فإنها بالتأكيد أسوأ الأوقات. وما فعلته «القبس»، المحافظة في العادة، أنها كشفت أمراً كان معلوماً، أكد مدى خطورته القرار الأميري الذي كان متوقعاً كآخر الدواء.
لم تعد المسألة مسألة الفوضى التي تسببها مواقع التواصل التي قال الشيخ مشعل قبل فترة إنها تفكك الوحدة والألفة، ولا سلوك بعض النواب الفاقع والخالي من آداب المسألة، بل استغلال الدستور لإسقاط الوزراء بعد أسبوعين من وصولهم، أو منعهم أساساً من مباشرة عملهم ومسؤولياتهم. وقد انعكس هذا التجميد المتعمد والسافر على كل نشاط آخر في البلاد.
كانت الكويت نموذج الدولة العاملة بالقانون والدستور، تغبطها على ذلك دول عربية كثيرة. وفي ظل أمير الاستقلال الأول عبد الله السالم، وأمير الاستقلال الثاني جابر الأحمد، تأكدت سمعة النموذج ودولة القانون والحياد وحماية البلاد من الشوائب والفساد الصغيرة والكبيرة.
القضية الكويتية، خصوصاً في المرحلة الراهنة، ليس مسألة داخلية فقط. لقد انحسرت الدولة، أو انكفأت قليلاً، بعد الاحتلال لكي تنصرف إلى ذاتها. لكن موقعها في الخليج، وفي العالم العربي، يزداد أهمية، وليس العكس. وفي كل بلد عربي حرص على أن تخرج سريعاً من أزماتها المتلاحقة التي هي في الحقيقة أزمة واحدة.
أكرم البني:أي أفق أمام السوريين؟
لا حلول في الأفق ولا أمل بخلاص قريب… هي عبارة تتردد بأشكال مختلفة على لسان غالبية السوريين أينما كانوا، يحدوهم قلق وخوف عميقان من بؤس ما ينتظرهم ومن تواتر انحدار أمنهم وشروط حياتهم ومستقبل وطنهم نحو الأسوأ.
ليس تسرعاً أو تبسيطاً اشتراط نجاح الحل السياسي في سوريا بنجاح توافق بين موسكو وواشنطن على فرضه وتنفيذه، بصفتهما الطرفين الأقوى والأكثر تأثيراً على مختلف الجهات الفاعلة والمتدخلة في الشأن السوري، ولولا تقدم هذا التوافق جزئياً، ما كان لبيان جنيف (2012) ولقرار مجلس الأمن 2254 وبيان فيينا (2017) وما تلاهما من مؤتمرات، أن يروا النور، وأيضاً لولا العبارات الواعدة التي كانت تصدر من اللقاءات المتكررة بين الرئيسين الأميركي والروسي، ما كانت لتظهر لدى السوريين المنكوبين مسحات مؤقتة من التفاؤل والأمل بالخلاص، سرعان ما تتحول إلى خيبات طويلة تؤكدها 10 سنوات عجاف مرت على بدء التفاوض، ونصفها على عمليات تخميد الصراع وتخفيف حدة المعارك، بينما لا تزال المعالجة السياسية تراوح مكانها أو تدور في حلقة مفرغة، وآخر دليل النتائج الضحلة للقاء آستانة الثامن عشر، الذي عقد أواسط الشهر الحالي وقبله بأسبوعين النتائج الهزيلة للجولة الثامنة من اجتماعات اللجنة الدستورية.
زاد الطين بلة تداعيات الحرب في أوكرانيا واندفاع الخلافات بين موسكو وواشنطن إلى الحد الأقصى، مجهضة أبسط الفرص للتوافق بينهما حول سوريا، ومرجحة احتمال تحويل بؤرة الصراع السوري إلى ورقة يستخدمها كلا الطرفين في لعبة الضغط وشد الحبال، بدليل ما أثير مؤخراً عن تعزيز حضور القوات الأميركية وتوسيع انتشارها في شرق البلاد، وتنامي التحذيرات من احتمال اشتباكها مع القوات الروسية أو أحد حلفائها، هذا عدا ما توفره عطالة التوافق بين موسكو وواشنطن من مناخ يشجع دولاً إقليمية لتعزيز نفوذها في سوريا وتحسين حصتها وموقعها الإقليمي، ومن هذه «القناة» يمكن النظر إلى مسارعة إيران للإفادة من الانشغال الروسي في أوكرانيا لملء الفراغ وتمكين وجودها العسكري، كما استعداد تركيا خوض حرب جديدة في شمال شرقي البلاد، بأمل فرض واقع جديد يمكّنها من محاصرة الوجود الكردي ومن تعزيز قدرتها على التأثير في المستقبل السوري، من دون أن ننسى استمرار وتيرة القصف الإسرائيلي ضد التمدد الإيراني في سوريا لتحجيم «الحرس الثوري» وميليشيا «حزب الله» وإبعادهما مسافة آمنة من حدودها… كل ما سبق ينذر بأفق مسدود لاستعادة وطن تتنازعه مناطق نفوذ تحكمها تدخلات عسكرية خارجية، لا يهمها مصير السوريين وإجماعهم الوطني، بقدر ما يهمها حماية مصالحها وجعل البلاد ميداناً لتصفية حساباتها وتحسين فرص نفوذها!
في الأفق ذاته، لا فرصة لإعادة الإعمار من دون تقدم التسوية السياسية، ومع عدالة هذا الشرط ومشروعيته، فإنه يعني أن العزلة والخراب والعوز والتشرد هي ما يحدد معالم المستقبل، ويعني أيضاً أن كل شيء مؤجل لتخفيف وطأة العجز عن معالجة مخلفات الحرب، ما سيفاقم معاناة السوريين وما يكابدونه، يحدو ذلك فشل جميع الأطراف المتصارعة؛ السلطة والمعارضة و«هيئة تحرير الشام» والقوات الكردية، في إدارة مجتمعاتها وتوفير أبسط مستلزمات العيش، ولا تكفي هنا الإشارة إلى ملايين السوريين ممن خسروا بيوتهم وممتلكاتهم نتيجة القصف والتدمير، وباتوا في حالة عوز شديد، ومثلهم من فقدوا أعمالهم ولا يجدون فرصة لتأمين دخل مادي يقيهم وعائلاتهم الجوع والحرمان، فالأمر طال غالبية العاملين في الدولة الذين باتوا يلهثون بلا جدوى وراء لقمة العيش مع الارتفاع الجنوني للأسعار والتراجع الكبير لقيمة الليرة السورية.
ويكابدون الأمرين من شح الكهرباء وغاز الطهي ووقود النقل والمواصلات والتدفئة، وطال أيضاً ملايين الأطفال الذين لم تعد تتوفر لهم فرصة الالتحاق بالمدارس، ربطاً بما خلّفه العنف المفرط من دمار في البنية التحتية وتراجع أداء كثير من المؤسسات الخدمية والصحية والتعليمية، وقد كثف الأمين العام للأمم المتحدة هذا المشهد المأساوي بأرقام مؤلمة عن 90 في المائة من السوريين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، وأكثر من 14 مليون إنسان (14.6) يحتاجون إلى المساعدات، ونحو 12 مليوناً (12) يعانون انعدام الأمن الغذائي! هذا عدا تنامي خوف السوريين على حياتهم ومصير أطفالهم، مع ارتفاع ظواهر ترويج المخدرات والفساد والابتزاز حتى باتت جزءاً من الحياة اليومية ترعاها سطوة الأجهزة الأمنية، وما خلقته من أذرع غامضة يمكنها أن تفعل بالمواطن ما تشاء من دون أن تخضع لأي مساءلة أو محاسبة، عدا الممارسات القمعية في مناطق سيطرة الأكراد، ثم ما تنتهجه فصائل إسلاموية متطرفة، أصابها العمى الآيديولوجي وتواجه قتلاً وتكفيراً كل من يخالف ما تعتقده، ساعية بالقهر والعنف إلى فرض نمط حياتها وما تحلله وتحرمه على البشر، من دون أن نغفل الخسائر المجانية التي يتكبدها المدنيون جراء استمرار تنافس تلك الفصائل ونزاعاتها البينية!
وفي الأفق أيضاً، ثمة ملايين اللاجئين تتعاظم في نفوسهم ظواهر التوجس والقلق، ليس فقط من عوامل الطبيعة بجنونها وعواصفها، خاصة من لا يزالون يحتمون بالخيام، أو من تراجع المعونات الأممية وتردي شروط حياتهم، التي زادها تراجعاً فيض اللاجئين الأوكرانيين، وإنما أيضاً من تغير موقف مجتمعات الاغتراب منهم، جراء ضغط كثرتهم عليها وتحسبهم من الاندماج والخضوع لقوانينها، علاوة على ما حصل من تعديات «داعشية» فيها أججت النفور منهم، ما صعب عليهم البحث عن حلول كريمة للاستمرار في العيش هناك، وتحمل ظواهر التمييز، وأحياناً العداء والإذلال.
كان ثمة حلم لدى السوريين أن ينتهي الصراع الدموي بصورة ترضي جميع الأطراف وتحقق أبسط المطالب التي ثأروا من أجلها، كان ثمة أمل بألا يعزز عناد المصالح الضيقة والروح الأنانية وقائع وتوازنات تستهتر بأوضاعهم وتكرس استعصاء أزمتهم، لكن أملهم خاب وحلمهم انطفأ، وباتوا يفقدون، يوماً بعد يوم، أبسط تطلعاتهم نحو الخلاص وتلك الرغبة البسيطة في العيش بسلام وكرامة، كما حال كل شعوب المعمورة، بينما يسكنهم هلع شديد، من أن يحمل الزمن المقبل مزيداً من الألم والتفكك والعوز والقهر