في روسيا، منذ عام 1991، يعد 30 تشرين الأول/ أكتوبر رسمياً يوم ذكرى ضحايا القمع السياسي، والمقصود بهم ضحايا العهد الستاليني تحديداً، والنظام السوفياتي عموماً.
من المفترض أنه يومٌ لتذكّر الملايين من الأفراد، من شعوب واثنيات مختلفة، ممن أعدموا أو أرسلوا الى المنافي ومعسكرات العمل الشاق (الغولاغ) أو ماتوا جوعاً أيام ستالين، أو تعرّضوا للملاحقة والتضييق والسجن. يوم لتذكّرهم وإعادة الاعتبار إليهم، وكثيرون منهم ما زالوا مجهولي الاسم والحكاية.
في اليوم نفسه، من عام 2017، على التقاطع بين الطريق الدائري الثاني وجادة الأكاديمي ساخاروف في العاصمة الروسية موسكو، دشّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكيريل بطريرك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، نصباً لضحايا القمع السياسي، وأعلن بوتين أثناء تدشين النصب “حرصه على عدم تكرار هذا القمع”.
يُعرف هذا النصب بجدار الحزن، Stena Skorbi، وهو مصنوع من البرونز القاتم، على شكل أقواس من البشر مُبهمي الملامح. وسرعان ما أثار جدار الحزن انتقاد المعارضين واحتجاجهم، من أفراد ومنظمات، إن لجهة شكله الفني، وإن لجهة اعتباره، بحسب رأيهم، صورةً عن نفاق السلطات الروسية وتبييضها لصفحتها، فيما يزداد القمع السياسي في البلاد، واستحواذ هذه السلطات على جهود كثيرين في البحث عن ضحايا القمع ومعرفة هوياتهم وقصصهم، ورد اعتبارهم، وكذلك توجيه النقد الى النظام الذي سبّب هذه المآسي، والنظام الذي أتى من بعده.
يقع هذا النصب على جادة الفيزيائي أندري ساخاروف، أب القنبلة الهيدروجينية السوفياتية، الذي تحوّل بعدها الى ناشطٍ لحقوق الإنسان وداعية للحد من انتشار الأسلحة النووية. والحقيقة أنه هو، ومجموعة من المعارضين، مَن جعلوا يوم 30 تشرين الأول/ أكتوبر ذكرى لضحايا الستالينية والنظام السوفياتي، حين أضربوا عن الطعام في ذلك اليوم من عام 1974.
نال ساخاروف جائزة نوبل للسلام عام 1975. اضطهده النظام السوفياتي مع زوجته ونفاهما، قبل أن يسمح له ميخائيل غورباتشوف بالعودة إلى موسكو عام 1986، بُعيد إطلاقه البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) والغلاسنوست (الشفافية).
توفّي ساخاروف في كانون الأول/ ديسمبر عام 1989، ولم يشهد زوال الاتحاد السوفياتي. لكنه أصبح في بداية العام نفسه أول رئيس لإحدى الحركات المدنية الأطول عمراً في روسيا، وهي “ميموريال”، التي نالت قبل أيام جائزة نوبل للسلام.
الهدف من “ميموريال” كان نبش الذاكرة السوفياتية، والبحث عن ضحايا العنف والقهر الستالينيَين، خاصة في فترة الرعب، أو التطهير الكبير، بين عامَي 1936 و1938، والتي فاق عدد ضحاياها مليون قتيل، يضاف إليهم الملايين ممن قضوا خلال فترة حكم ستالين، بين 1929 و1953. إضافة الى ذلك، هدفت “ميموريال” إلى نشر القيم الديموقراطية، وحكم القانون، من أجل تفادي عودة التوتاليتارية.
وفي التسعينات، تمكنت ميموريال من الولوج الى الأرشيف الكبير للاستخبارات السوفياتية، الـKGB، وخليفتيها الروسيتين، الـFSK ثم الـFSB، إثر أوامر الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين بجعل الملفات المرتبطة بضحايا الاتحاد السوفياتي علنية، غير أن صحافيين استقصائيين برهنوا أن الـFSB عرقل عملية الوصول إلى المعلومات وأخفى الكثير من الملفات.
وفي الحقيقة لم تكن “ميموريال” منظمة مركزية واحدة، إنما شبكة من المنظمات المحلية، في مدن وجمهوريات الاتحاد السوفياتي، ثم في الدول التي استقلت بعد انهيار الاتحاد، وهي الآن تتألف من قسمين: “ميموريال” انترناشونال، التي تقوم بتسجيل الجرائم والمآسي التي حصلت في الاتحاد السوفياتي، ولها فروع في دول عدة، منها دول أوروبا الغربية، ومركز “ميموريال” لحقوق الإنسان، الذي يسجّل انتهاكات حقوق الإنسان في روسيا وجوارها، بخاصة مناطق النزاعات. ويتمركز نشطاء “ميموريال” في إقليم ناغورنو-قره باغ، وجمهورية ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا، وصولاً الى جمهورية الشيشان، حيث عاينوا الانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان، ونظّموا تبادلات لجثامين المقاتلين بين الجيش الروسي والمقاتلين الشيشان أثناء الحرب. ولكن عام 2009، أغلقت “ميموريال” فرعها في غروزني، إثر خطف وقتل الناشطة ناتاليا استيميروفا.
تعرّضت “ميموريال” للمضايقات من السلطات الروسية مرات عدة. وعام 2015، أعطت الحكومة الروسية “ميموريال” صفة العميل الأجنبي، Foreign Agent، وتختصر بالروسية بـInoagent، وهي وصمة من العهد السوفياتي، أُعيد إحياؤها عام 2012، وتعطى لمن ترى السلطات الروسية أنه يتلقى دعماً مالياً أو معنوياً من الخارج.
إثر ذلك، وبعد 32 عاماً على انطلاق “ميموريال”، أمرت المحكمة العليا في كانون الأول/ ديسمبر 2021 بإغلاق المنظمة في روسيا، لمخالفتها قانون “العميل الأجنبي”، فيما بقيت فروعها خارج روسيا نشطة.
لم يهزّ إقفال “ميموريال” المجتمع الروسي العريض، وسط صعودٍ لكل ما تقف المنظمة في وجهه في الشارع الروسي: منذ سنوات تتصاعد النوستالجيا لستالين، وهذا موضوع آخر، لكن جدار الحزن الذي دشّنه بوتين ليس الشاهد الوحيد على زمن القهر والتنكيل. في وسط ساحة لوبيانكا، يرتفع نصب يُدعى “صخرة سولوفيتسكي”، وُضعت هناك في 30-10-1990، مقابل مبنى لوبيانكا المهيب، الذي كان مقر الNKVD، جهاز الاستخبارات الستاليني الذي تحوّل الى الKGB، وحيث قُتل وعُذّب وسُجن كثيرون.
هذه الصخرة أحضرت من جزر سولوفيتسكي، في البحر الأبيض، أقصى الشمال الروسي، على الدائرة القطبية، من حيث كان سجن سولوفكي، من أقدم سجون الغولاغ، الذي تأسس عام 1923، قبل سنة من وفاة لينين. كذلك تنتشر في شوارع موسكو وحدائقها، وبقية المدن الروسية، أنصب كثيرة لتذكّر ضحايا الاستبداد، إن نفعت الذكرى.
لم تكد تمر ساعات على إعلان فوز “ميموريال” بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع ناشط بيلاروسي ومنظمة أوكرانية غير حكومية، حتى جاء الرد من النظام الروسي، حيث أمرت محكمة في موسكو بمصادرة مكاتب المنظمة في العاصمة الروسية، في تكريس لمنطق الاستبداد والقمع، وإحياء لزمن ستاليني تجهد “ميموريال”، عبر تذكّره، لكي لا يتكرر.
يبدو أن الذكرى لم تنفع.
- إعلان جوائز نوبل لعام 2022، بفوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو في الأدب، وأليس بيالياتسكي وجمعية ميموريال ومركز الحريات المدنية في السلام، وفوز كل من كارولين بيرتوزي ومورتن ميلدال وكارل باري شاربلس في الكيمياء، وفوز كل من آلان أسبيه وجون كلوزر وأنطون تسايلينغر في الفيزياء، وفوز السويدي سفانتي بابو في الطب، وبن برنانكي ودوغلاس دايموند وفيليب ديبفيج في العلوم الاقتصادية.
حسب وكيبيديا
ميموريال ((بالروسية: Мемориал); (بالروسية: mʲɪmərʲɪˈaɫ)) هي مجموعة عالمية لحقوق الإنسان، تأسست في روسيا أثناء تفكك الاتحاد السوفيتي لدراسة والوقوف على واقع حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي وغيرها من الجرائم التي ارتكبت في حكم جوزيف ستالين.[5][6] قبل حلّها وتصفيتها في روسيا، كانت ميموريال مكوّنة من كيانين قانونيين منفصلين، “ميموريال إنترناشيونال”، وهدفه تسجيل الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في الاتحاد السوفياتي، لا سيما خلال تاريخ الاتحاد السوفيتي (1927-1953)، و”مركز ميموريال لحقوق الإنسان” الذي ركّز على الناشطين الحقوقيين، خاصة في مناطق الصراع داخل روسيا الحديثة وما حولها.[7] هي حركة وليست منظمة مركزية، حتى ديسمبر 2021، ضمّت ميموريال أكثر من 50 منظمة في روسيا و11 في دول أخرى، بما في ذلك كازاخستان، أوكرانيا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، فرنسا.[8] على الرغم من أن التركيز على المجموعات المنتسبة يختلف من منطقة إلى أخرى، شاركت ميموريال مخاوف مماثلة بشأن حقوق الإنسان، وتوثيق الماضي، وتثقيف الشباب، وإحياء ذكرى ضحايا القمع السياسي[9]
ظهرت حركة ميموريال خلال سنوات البيريسترويكا في أواخر عقد 1980، لتوثيق الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في الاتحاد السوفييتي خلال القرن العشرين، ومساعدة ضحايا التطهير الكبير والجولاج وعائلاتهم.[10] بين عامي 1987 و1990، بينما كان الاتحاد السوفييتي لا يزال قائماً، أنشأ 23 فرعاً في المجتمع.[11] عندما انهار الاتحاد السوفييتي، ظلت فروع حركة ميموريال في أوكرانيا تابعة للشبكة الروسية. أنشأت بعض أقدم الفروع في شمال غرب ووسط روسيا، وجبال الأورال وسيبيريا مواقع إلكترونية لتوثيق الأبحاث المحلية المستقلة، ونشرت عن جرائم النظام السوفييتي في تلك المناطق.
بعد إقرار قانون الوكيل الأجنبي الروسي في يوليو 2012، تعرضت حركة ميموريال لضغوطات حكومية متزايدة. في 21 يوليو 2014، أعلنت وزارة العدل الروسية أن مركز ميموريال لحقوق الإنسان يعتبر” وكيلاً أجنبياً”. وقد امتدّ هذا الوصف في نوفمبر 2015 ليشميل مركز البحث والمعلومات في سانت بطرسبرغ وفي 4 أكتوبر 2016 شمل ميموريال إنترناشيونال نفسها.[12] في 28 ديسمبر 2021، أمرت المحكمة العليا الروسية منظمة ميموريال إنترناشيونال بالإغلاق بسبب انتهاكات قانون الوكيل الأجنبي.[13][14]anslation وقال محامي منظمة ميموريال إنها ستستأنف.[15] أمرت محكمة مدينة موسكو بإغلاق مركز ميموريال لحقوق الإنسان في 29 ديسمبر\كانون الأول 2021؛ واتهمها المدعون العامون بخرق قانون العملاء الأجانب ودعم الإرهاب والتطرف. في اليوم نفسه، طبقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إجراءً مؤقتاً يوجه روسيا إلى وقف التصفية القسرية لميموريال، في انتظار نتيجة التقاضي.[16]
أغلقت ميموريال ككيان قانوني في روسيا وتصفيتها في 5 أبريل 2022.[17][18] استمرت بعض أنشطة ميموريال في مجال حقوق الإنسان في روسيا.[19] تواصل ميموريال العمل في دولٍ أخرى، لا سيما في ألمانيت، حيث يوجد أقدم وأكبر فروعها غير الروسية. في أكتوبر 2022، كانت ميموريال أحد ثلاثة فائزين بجائزة نوبل للسلام 2022، مع منظمة حقوق الإنسان الأوكرانية مركز الحريات المدنية والناشطة البيلاروسية أليس بيالياتسكي، وذلك لجهودهم في توثيق جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وإساءة استخدام السلطة.