موقع درج :باسكال صوما – صحافية لبنانية
تبدو حياتنا مؤجلة إلى زمن آخر. أتى فايروس “كورونا” وفرمل كل شيء، كأنه أوقف الأرض قليلاً عن الدوران، ومن حيث لا ندري أصبحت حياتنا في عطلة قسرية. علّق الحركة، أقفل الطرق، فبدت مدن صاخبة في إيطاليا ولبنان والصين وبلجيكا وغيرها، بغاية الوحشة.
إنها مشاهد لم نكن لنفكّر بأنها ستحدث حقاً، على الأقل بسبب وباء. كان يمكن توقّع مشاهد كهذه بسبب كارثة طبيعية مثلاً، فجزء من الصدمة التي نحن فيها الآن، أنها أتت من جرثومة صغيرة لا تُرى.
كثيرون ذهبوا إلى حجر إرادي في مدن كثيرة في العالم خوفاً من الإصابة أو العدوى في أماكن العمل أو وسائل النقل أو الأماكن العامة. المدارس والجامعات والمعاهد والحضانات كلها مقفلة، كذلك النوادي الليلية والمقاهي. المحال التجارية إما أقفلت أو تتوقّع أن تلحق بسرب الإقفال خلال أيام.
يروي أصدقاء لي في بلدان أوروبية استهدفها “كورونا”، أن قوانين العمل الأوروبية لا تلحظ ماذا يُفترض أن يحدث في ظروف كهذه، وإن كان للموظف الحق في البقاء في منزله من دون أن يخسر وظيفته وراتبه، أو أنّ عليه المجيء إلى مكان عمله على رغم المخاطر. لم يكن أحدٌ يتوقّع أن يقف العالم مشلولاً بسبب وباء.
ويبدو أن “كورونا” لن يرحم البشرية قريباً، ولا نعرف كيف سنخرج من هذا الهلع وهذا الحجر في بيوتنا، ومتى سنستطيع العودة إلى حياتنا. من سيموت ومن سيببقى، وكيف ستسير الحياة بعد ذلك؟ هل سنعتاد على العلاقات والمحبة عن بعد بلا عناقات وسلامات وقُبَل؟ هل سيصبح الرعب عادة وقيمة وأسلوب حياة؟ كيف ستصير العلاقات الاجتماعية في زمن ما بعد كورونا؟ هل سنخرج قريباً من زمن كورونا لنعود إلى حياتنا؟ هل سيعود الأطفال هذا العام إلى مدارسهم؟ كيف ستسير الأمور المالية والاقتصادية وسط هذا الرعب؟
في أوروبا يزداد المشهد تعقيداً في كل من فرنسا وألمانيا حيث تجاوز عدد الإصابات عتبة الألف. وتتجه الأنظار إلى إيطاليا بؤرة تفشي المرض أوروبياً، التي قفزت فيها الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية إلى درجات تثير الذعر، بعد تسجيل 126 حالة وفاة خلال 24 ساعة.
تغريدات مؤلمة انتشرت في الأيام الأخيرة لا سيما في إيطاليا عن خطورة الاستخفاف بموضوع اجتياح “كورونا” العالم. وتحدّث كثيرون عن أنّ هذا الجيل يخسر جدّاته وأجداده بسبب “كورونا”، ذلك أنّ مناعة كبار السن تكون ضعيفة وقد يعانون من أمراض أخرى، ما يصعّب شفاءهم من المرض.
تبدو حياتنا مؤجلة إلى زمن آخر. أتى فايروس “كورونا” وفرمل كل شيء، كأنه أوقف الأرض قليلاً عن الدوران.
في ألمانيا التي تعاني من تفشي المرض لا سيما بسبب جارتها إيطاليا، ردّ وزير الصحة، ينس شبان على الأصوات المطالبة بإغلاق الحدود، معتبراً أنها خطوة لن تنجح في منع انتشار فيروس “كورونا”، رافضاً بذلك أيضاً الدعوات إلى أن تحذو ألمانيا حذو جارتها النمسا وتمنع دخول الزوار من إيطاليا.
لكن وسط حالة الهلع المستشرية وتزايد حالات الوفاة بسبب “كورونا”، هل يمكن أن تتجه الحكومات الأوروبية إلى طرح مسألة إغلاق الحدود في ما بينها، للحد من تفشي المرض؟ وكيف ستكون حركة النقل في بلدان الاتحاد الأوروبي؟ وحركة العمل؟ ذلك أن أعداداً كبيرة من الأوروبيين يعملون في بلدان أخرى مجاورة.
في موازاة ذلك، تزداد المخاوف من إمكان انتشار “كورونا” في مخيمات اللاجئين في اليونان والأردن ولبنان وكذلك في مخيمات النازحين شمال سوريا، وهو أمر بغاية الخطورة، ويحتاج إلى وسائل وقاية هائلة، قد لا تستطيع البلدان تحمّل تكاليفها.
إنها مشاهد لم نكن لنفكّر بأنها ستحدث حقاً، على الأقل بسبب وباء.
وإذ لا تتعدّى نسبة الوفاة في “كورونا” عتبة الـ2 أو 3 في المئة، وفق الإحصاءات، وهي نسبة أقل من نسبة الوفاة في الإنفلوانزا العادية أو النزلات الصدرية، إلا أنّ القياس هنا ينطبق على تجربة الصين حيث مستوى العناية الطبية والصحية في أحسن أحواله. أما في بلدان تعاني أصلاً من الفساد الصحي وضعف الإمكانات العلاجية كلبنان ومصر والعراق وإيران، فلا يمكن توقّع نسب الوفاة أو نسب الإصابة.
ومع اقتحام “كورونا” العالم بهذه الوقاحة غير المتوقعة، بلا أن يلحظ الحدود بين الدول أو الفروق الطبقية بين الناس، إذ أصاب وزراء ونواباً، كما أصاب مواطنين وأطباء، أصبح الحديث عن أي مسألة أخرى ساذجاً وغير مهمّ، ولا يستأهل سوى التأجيل.
ومذ أصبحت حياتنا تدور حول “كورونا” ومناطق انتشاره والشائعات تملأ صفحات “السوشيل ميديا” والجلسات العائلية وغير العائلية. فهناك من أكّد أن الفايروس سيختفي مع اقتراب الصيف وارتفاع درجات الحرارة، ثمّ أتى من نفى الأمر. هناك من تحدّث عن العلاج باليانسون والصلاة. وآخرون نصحوا بالعسل والثوم والزنجبيل. هذا الهرج والمرج أثبت أن الفايروس ما زال غير واضح المعالم، ولا يملك البشر حتى الآن معلومات كافية عنه وعن طريقة مجابهته.
أسلحة بيولوجية؟
في جلبة الأخبار والإشاعات، يعتقد البعض أن “كورونا” مؤامرة أميركية أو سلاح بيولوجي فتّاك للقضاء على الصين واقتصادها المزدهر. هذه النظرية تشبه ما حصل في نكبات أخرى في التاريخ البشري. وربما يمكن نفيها بالنظر إلى انتشار المرض في الولايات المتّحدة، حتى أن بعض الأخبار تحدّث عن إصابة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. كما أن أكثر من جهة طبية أكّدت أن فايروس “كورونا” وفق تركيبته الجينية لا يمكن أن يكون مصنّعاً.
يوم اجتاح الطاعون أوروبا في القرن الـ14، تم اتهام اليهود بـ”الجريمة”. وكذلك “الإنفلونزا” الإسبانية التي ظهرت بين عامي 1918 و1920، وسقط بسببها ملايين الأوروبيين، سمّيت “السم الألماني”.
كما أن آفة خنفس البطاطس التي كادت عام 1950 تدمّر محصول البطاطس الإلماني، روّجته الاشتراكية بأنه “سلاح أميركي” لتدمير الشرق الألماني.
وامتدّ التضليل الإعلامي إلى “الإيدز”، إذ روّج جهاز المخابرات السوفياتي السابق “كي جي بي” عام 1983، شائعة تفيد بأن الولايات المتحدة الأميركية طورت الإيدز كسلاح بيولوجي وجربته على سجناء وأبناء أقليات ومثليين جنسياً وألقت بالمسؤولية في ذلك على أفريقيا كأصل للمرض.
وسط ذلك كلّه، ستبقى الآن حياتنا معطّلة، ستبقى سلاماتنا باردة، وسنكتفي بإرسال قبلات هوائية للّذين نحبّهم، سنبقي أطفالنا وأهلنا في حجر البيوت، خوفاً من حجر المستشفيات، سنستمر بوضع كمامات وقفّازات وسنستمر برش المعقّمات والمطهّرات والتباحث في أفضلها… فحتّى الآن “كورونا” أقوى منّا.