سمير عطا الله:جيمي وعربته
كان العميل 007 يعرّف عن نفسه بالقول: بوند، جيمس بوند. فإذا لم تعرف في المرة الأولى، أمام مَن أنت، المرة الثانية حاسمة. قبل عام تماماً فوجئ الكون وأهله بالإعلان عن إطلاق منظار فلكي جديد يدعى ويب، جيمس ويب. ومثلما كان جيمس بوند موظفاً في وزارة الدفاع البريطانية يقدم لها الخدمات في الحرب الباردة، كان جيمس ويب في الفترة نفسها موظفاً في الخارجية الأميركية يقدم لها خدمات هائلة في عالم الفضائيات. وفاء لتلك الخدمات سميت باسمه هذه العربة الفلكية التي كلفت صناعتها 10 مليارات دولار. وتستطيع كاميرتها رؤية 14 مليار سنة إلى الماضي و14 مليار سنة في المستقبل.
ماذا يعني ذلك؟ أقسم بالله أنني لا أعرف، ولا يمكن بعد مليار سنة أن أعرف. لكنني واحد من مليارات البشر الذين شاهدوا الصورة التي التقطها التلسكوب ويب «لأعمدة الخلق» وما زلت أتأمل فيها وأمجد الخالق.
سوف أكتفي، مثل المليارات، من المعرفة بالمشاهدة. ومنذ عام لم يكف ويب (جيمي للأصدقاء) عن إرسال تلك اللوحات الضوئية المذهلة فيما يدور هو حول الشمس على بعد مليون ونصف المليون كيلومتر منها، مزوداً حماية من حريقها، ووقوداً كافياً لنزهته، وطاقة على سحق كل خيالاتنا، الطفولية أو العلمية، أما ما سبقه من منظارات، وأهمها «هابل» فإلى متحف الأفلاك، وشكراً لمحاولتكم وجهودكم.
ماذا تفعل روسيا الآن بعدما كانت أول من أرسل كلبة حول الأرض، ثم أول رائد فضاء، ثم أول مائدة فضاء؟ ماذا تفعل الصين التي دخلت السباق أخيراً وهي تحدو كطفل في مسيرة القفز العالي، نحو الكواكب؟ وماذا نفعل؟ نحن الذين عندما رأينا كاميرا بولاريود تلتقط الصورة وتظهرها في أقل من دقيقة، دون حاجة إلى «غرفة عتمة»، خيل إلينا أن العلم ختم علومه. لم يفعل. ويجب أن أوضح سريعاً هنا أن مليارات وملايين السنوات المشار إليها، هي جميعاً سنوات ضوئية والسنة الضوئية حفظك الله، هي 6 تريليونات ميل إلا قليلاً. ورجاء حاول أن تراعي الدقة.
إذ يرى الإنسان 14 مليار سنة ضوئية في المستقبل تظل مشاكله على الأرض هي نفسها. فالاعتراض الوحيد على تسمية عربة الإذهال باسم ويب، جيمس ويب، جاء من جماعات المثليين، لأنه قال ذات مرة إنهم لا يصلحون للعمل في وكالة الفضاء الأميركية (ناسا). من كأس قطر إلى منظار ويب للأفلاك والمجرات وسديم الكون، الجماعة يعترضون، وعربة المستر ويب ترسل إلينا من المجرات صور نجمة في نزاعها الأخير.
حازم صاغية:في تحويلنا إلى شعوب كافكاويّة
الكافكاويّة، نسبةً إلى الأديب التشيكيّ فرانس كافكا (1883 – 1924)، تعبير تعدّى نطاق الأدب إلى الفلسفة وإلى الحياة وأحوال الدنيا وردود فعل الفرد الضعيف على تحدّياتها.
عالم الكافكاويّة كابوسيّ ومظلم، حيث تنعدم القوّة حيال قويّ، وتنعدم القدرة على فهم الأذى الذي يُنزله القويّ بضحيّته. الضحيّة لا سيطرة له على حياته. إنّه مُستضعف، أمله ضئيل في أن يتغلّب على استضعافه، وهو خائف، غريب عن وسطه، ينتابه خجل عميق بنفسه، وقد يكون عُرضة لسخرية أو لتجاهل لا يرحمان.
هناك قدر من الكافكاويّة كامن فينا جميعاً: في هذا الطور من حياتنا أو ذاك، وفي سلوكٍ ما سلكناه أو موقف ما لم ننجح في تفاديه.
من درسوا كافكا نسبوه إلى أسباب مختلفة، أغلب الظنّ أنّها كلّها، وبنسبة أو أخرى، أسهمت في صنعه وفي صنع الكافكاويّة: عالم بيروقراطيّ لا يفكّر ولا يكترث، وعمليّات معقّدة غير قابلة للاستيعاب، وحسّ قويّ بالاغتراب حضّ عليه العصر الحديث، وصراع قد يكون ميؤوساً منه ضدّ سلطة غير عاقلة أو عقلانيّة، ومواجهة دائمة مع العبثيّ في محاولةٍ لحلّ ما لا يُحلّ، عطفاً على الضياع الذي سبّبه تراجع الدين في المجتمع قبل أن تحلّ قيم وروابط جديدة.
ولكنْ أيضاً هناك والده هيرمان كافكا، المخيف والمتجبّر الذي يسيء التعامل مع الآخرين ويمارس نوعاً من السحق المتواصل لنجله الضعيف. وهناك حدّة الرغبة الجنسيّة لدى كافكا، المصحوبة بعدم القدرة على الالتزام بأيّ علاقة مستقرّة مع امرأة. لقد خطب كافكا مرّتين وعُرف بعلاقات عدّة لكنّ أيّاً منها لم يثمر. وهناك مشاكله الصحّيّة، هو الذي توفّي في الواحدة والأربعين بداء السلّ. وأخيراً، هناك يهوديّته: ففيما كانت تتشكّل دولة تشيكوسلوفاكيا، بعد الحرب العالميّة الأولى، حصلت بضعة بوغرومات، خصوصاً في إقليمي بوهيميا ومورافيا. كافكا، في سنواته الأخيرة، درس العبريّة وتفهّم الصهيونيّة من دون أن يصبح صهيونيّاً، وتعليقاً على بوغروم حصل في 1920 كتب: «قبل أيّام سمعت تسمية لليهود هي أنّهم (الجنس الأجرب). أليس طبيعيّاً أن يغادر المرء مكاناً تواجهه فيه كلّ هذه الكراهية؟». لاحقاً، بعد عقد على وفاته، منع النازيّون كتبه، وبعد قرابة عقدين أبادوا عائلته بالكامل في أوشفيتز.
والبشر، في الكافكاويّة، لا يُفهم ما الذي يحصل لهم، ولماذا يحصل ما يحصل. في «المحاكمة»، أهمّ رواياته، يُعتقل بطله جوزيف. ك في صباح يوم عيد ميلاده الثلاثين، وهو لا يعرف السبب وراء اعتقاله، كما لا يُخبره به من اعتقلوه. في قصّته القصيرة «المسخ»، يستيقظ غريغور سامزا ليجد أنّه تحوّل إلى حشرة. في «الحكم» أو «الحساب» (Judgement)، وهي قصّة قصيرة أخرى، يتّهم الوالدُ المسنّ والمريض نجلَه غيورغ بِندِمانّ بمحاولة قتله وبخيانة أصدقائه وأبيه وذكرى أمّه، كما يُصدر عليه حكماً بالموت غرقاً. أمّا «السبب» فلا يتعدّى معرفته بأنّ نجله عقد خطوبته على فتاة.
لكنْ كيف رسم الإنسان المعاصر ردّه على تلك التحدّيات والأسئلة؟
لقد استوطن الانسحاقُ كافكا، أو استوطن أبطاله، بحيث تصرّفوا كما لو أنّ وجودهم نفسه هو المشكلة التي لا حلّ لها سوى موتهم واندثارهم. ذاك أنّ الخطأ لم ينجم عن أفعال سلطة ما، أو وضع ما، ولا حتّى عن أفعال أدّاها المسحوقون أنفسهم. لقد نشأ عن وجودهم حصراً. هكذا تغدو كراهية الذات حتّى إماتتها أو تحوّلها إلى حشرة علاجاً مرغوباً ومُرجّحاً.
في «الحكم»، يكتفي غيورغ، ردّاً على القرار الظالم لأبيه بموته غرقاً، بأن يطلق اعتراضات ضعيفة، ثمّ يستجيب بأن يُغرق نفسه في أقرب نهر.
في «المسخ»، يخاف غريغور سامزا، وقد صار حشرة، من أن يدهسه أبوه حين يسير على أرض الغرفة. عائلته، التي تستمرّ في حياتها مكتفيةً بنفي أن تكون الحشرة هي غريغور، تحبس الحشرة وتطمرها بالقمامة، ثمّ تقرّر ضرورة التخلّص منها. غريغور، الذي سمع قرار العائلة، اختار أن يُميت نفسه بتجويعها.
في «المحاكمة» لم يبذل جوزيف. ك إلاّ جهوداً قليلة كي يعرف سبب اعتقاله، إذ يشعر في داخله بأنّه مذنب يستحقّ العقاب. محاولاته إعلان براءته وتكليفه محامياً لهذا الغرض انهارت كلّها: المحاكمة الطويلة والعبثيّة التي لا توضح شيئاً ولا تحمل معنى، فيما يشوبها الفساد والفوضى، لم تُفقده الثقة بنفسه فحسب، بل جعلت الكلمات تتبخّر من رأسه وفي فمه. في النهاية، ساقَه موظّفان كريهان إلى مقلع حجارة خارج المدينة وقتلاه بغرز سكّين في قلبه.
في «فنّان الجوع»، وهي قصّة قصيرة أخرى من قصصه، تناول كافكا مؤدّياً مسرحيّاً أعجب الجمهور بصيامه وامتناعه عن الطعام. لكنّ المؤدّي هذا ردّ على انفضاض جمهوره عنه وحبسه في قفص قذر وعتيق، بأن طلب الصفح عن أيّام نجاحه السابق. ذاك أنّ سبب شعبيّته حينذاك، أي الصيام الطويل، لم يكن يستحقّ استحسان الجمهور أصلاً، لأنّ السبب وراءه لم يكن سوى الافتقار إلى طعام يحبّه.
بدورها، فإنّ حياة فرنس كافكا نفسها كان فيها الكثير من تعابير عدم رضاه عن وجوده. أعماله الأدبيّة كلّها لم يُكملها، ظانّاً أنّها لا تستحقّ الإكمال. وقبيل وفاته، أوصى صديق عمره الحميم وربما الوحيد، الكاتب ماكس برود، بإحراق أعماله. لكنْ لحسن حظّنا، وحظّ الأدب العالميّ، أنّ برود لم ينفّذ الوصيّة.
إنّ أكثريّات كبرى من اللبنانيّين والسوريّين والفلسطينيّين، وشعوب عربيّة أخرى، تُدفع الآن إلى القناعة الكافكاويّة التي تفيد بأنّ المآسي التي تنزل بها ليس من سبب لها سوى وجودها نفسه – وجودها الذي ينبغي أن تعتذر عنه قبل أن تضع حدّاً له إن أمكن.
هذا كثير. هذا فظيع. هذا وحشيّ.