لم أدرك قيمة حقيبة طعامٍ ترسلها أمي إلي من سوريا، حتى فتحت أول حقيبة أرسلتها بالفعل إلى بيروت، حينها أدركت كيف يمكن وضع ثلاثين سنة من الذكريات في حقيبة صغيرة.
ظهرت فكرة هذه المادة، عندما اكتشفنا أن للحقائب المرسلة من أمهاتنا في سوريا، إلى البلاد الأخرى، طرقاً وحكايات. لكل حقيبة مسارها الخاص وأيدٍ وصناديق سيارات تنتقل بينها، وأن لها حكاية داخل سوريا وخارجها. اعتادت الأمهات داخل سوريا إرسال حقائب “الحنين” والطعام من سوريا إلى دول العالم، حيث لجأ أبناؤهن، حتى باتت عادة، إذ تنتظر الأمهات أي شخص مسافر ليرسلن معه مؤونة صنعنها بأيديهن، وقد لا تتسع كل حقائب المغادرين لهدية صغيرة، ككيس مكدوس أو علبة من عصير التوت الشامي الطازج.
في هذه المادة نتتبّع مسار حقيبة أطعمة ترسلها إحدى الأمهات في مدينة السويداء، عن طريق شاب إلى دمشق حيث يدرس، ومن دمشق باتجاه بيروت، حتى تصل إلى ابنتها. المسار لا يعني الطريق وحسب، بل أيضاً مشاعر كل الأشخاص في الحكاية، الأمهات والأبناء في الداخل والخارج.
عمر الهادي – حقيبة الأطعمة تستعدّ للخروج من سوريا
اعتدتُ أخيراً، خلال سفري إلى العاصمة دمشق، أن أقوم بمهمة توصيل حقائب أو أغراض ترسلها العائلات لأبنائها، أنقلها من قريتي وأعطيها لأصحابها في دمشق، سواء كانت ثياباً أو نقوداً أو طعاماً. تطلب جارتنا أم وليم مني إيصال حقيبة قماشية صنعتها بيديها، تحوي أطعمة أعدتها لبناتها المسافرات خارج سوريا، كاللبنة والجبنة البلدية والزيتون وأطعمة أخرى لذيذة. أنقلها بدوري لأحد المسافرين من دمشق نحو بيروت ودبي، حيث تقيم ابنتاها، مناهل وهنادي. تحاول أم وليم بهذه الطريقة تقسيم عاطفتها وتوزيعها على دفعات، أعتقد أن عاطفتها تجاههما باتت ثقيلة الى درجة لم تعد حقائبُ كبيرة من الأطعمة تتّسع لها. في آخر مرة طلبت مني نقل الأغراض، كانت حقائب القماش قد نفدت من عندها، فقد أرسلتها كلها خارج سوريا، ما اضطرها إلى وضع الأغراض في “كيس نايلون أسود” كحلّ أخير، رغم أنها أبدت امتعاضها من ذلك، فهي حريصة على إرسال الأطعمة في أفضل صورة، وداخل حقيبة قماشية صنعتها بيديها. هكذا تسافر حقيبة من قرية الهيت في محافظة السويداء إلى دمشق مروراً بأماكن أخرى حتى تصل إلى الإمارات ولبنان.
ترسل الأمهات السوريات الحقائب لأبنائهن خارج البلد، يضعن داخلها الأطعمة أو الملابس أو حوائج قد لا تتوافر في الخارج، أو قد يجدونها لكنها لن تكون بجودة تلك المرسلة من الأمهات. تغلف الأم عاطفتها وتضعها بين الأغراض أيضاً، وتحاول إرسالها نحو البلاد التي يسكنها أبناؤها، إمّا من خلال شركات الشحن أو عبر وسطاء، وهذه هي الطريقة الأكثر انتشاراً، حيث تلجأ الأمهات إلى إرسال الحقائب والأغراض عبر شخص يسافر إلى المكان المرجو، لتبدأ رحلة انتقال الأغراض من يد الى يد ومن مكان الى آخر حتى تصل إلى أيدي الأبناء البعيدة. تَعبُر هذه الحقائب رحلة طويلة بين الأماكن ونقاط التفتيش والمطارات، وقد تتعرض للتخريب أو السرقة من دون احترامٍ لخصوصيتها. لكن الأبناء لا يكترثون لما سُرِق، فالقليل من العاطفة يكفي لإعادة شحن ذاكرتهم وقلوبهم. أخبرني صديقي أن إحدى الحقائب التي أُرسِلت إلى الإمارات وصلت كاملة، الشيء الوحيد الذي فُقِدَ منها هو رسالة ورقيّة رُسم عليها قلب حُب للتعبير عن الاشتياق. هل حقاً يحتاج حرس الحدود الى القليل من الحب؟ أم أنها سقطت سهواً هناك خلال التفتيش؟!
تُعدّ الأمهات أنفسهن لرحيل أبنائهن منذ انتقالهم إلى الجامعة، تقول أمي بينما توضب حقيبتي قبل الذهاب إلى دمشق: “ليش الأم بتحبل وبتخلف طالما ولادها رح يفلوا من عندها”، تشبّه أمي شعورها بابتعادي المستمر عنها بانقطاع الحبل السريّ بيننا حين ولادتي، “رح نضل لحالنا بس تسافروا وتتركونا” تغلق الحقيبة بإحكام، تمسح دموعها وتودعني، فأقول لها دمشق ليست بعيدة، لكني أعتقد أن دموع أمي هي تحضيرٌ لحقيبة قد أحملها أبعد من دمشق أو سوريا!
هكذا امتهنت أمهاتنا توضيب حقائب من الأطعمة والذكريات والحب، وإرسالها لأبنائهن المهاجرين الذين اضطروا للهرب وبدء حياتهم في مكان أفضل. أمهات اعتدن الوحدة وفراغ الأماكن حولهن. تقول أم وليم بينما تناولني الكيس الذي سأعطيه لشخص آخر ذاهب إلى بيروت ليوصله في النهاية إلى ابنتها مناهل: “من بعد ما فلوا هالبنات، المكان صار فاضي حولي”، وبينما أحمل هذه الأغراض معي خلال سفري، أسأل نفسي في كل مرة: “عندما أصبح خارج البلاد، من سيرسل لي حقائب الأطعمة من أمي!”.
“ليش الأم بتحبل وبتخلف طالما ولادها رح يفلوا من عندها”، تشبّه أمي شعورها بابتعادي المستمر عنها بانقطاع الحبل السريّ بيننا حين ولادتي.
مناهل السهوي – أجرُّ حقيبة ذكرياتنا
أنتظر حقيبة أمي القادمة من سوريا لتصل الى بيروت بفارغ الصبر. ففي كل مرة، تحتوي الحقيبة أنواعاً جديدة من الأطعمة، تتركز غالباً على المؤونة التي تعدها بنفسها، مثل الكشك والشنكليش واللبنة والجبنة والسمنة البلدية والزيتون. تتغير محتويات الحقيبة تبعاً للتوقيت، ففي الأعياد تمتلئ الحقيبة بالحلويات التي أعدتها أمي وزوجة أخي، مثل المعمول والكعك ولفائف التمر، أما في الصيف فتكون أمي أكثر حذراً في إرسال أطعمة قد تفسد خلال رحلةٍ قد تستغرق ست ساعات من سوريا إلى لبنان، وقد تضع قنينة مياه مجمدة لضمان برودة الحقيبة. في موسم الحمّص الأخضر، قطفت أمي أجراس الحمص ووضعتها في أكياس وأرسلتها لي، لم تنسَ إرسال باقة من حشائش حديقتها، مكوّنة من النعنع والعطرة وإكليل الجبل والزعتر، وحين فتحتُ الحقيبة فاحت رائحة منزلنا.
منحتني فرصة السكن في بلد قريب من سوريا، خيطاً لم ينقطع مع البلاد، لكنه سينقطع شيئاً فشيئاً حين أرحل إلى بلد أبعد. تُرسل أمي الحقائب إما عن طريق أصدقاء قادمين من دمشق أو عبر مكاتب سفر متخصصة، وهي تفضّل الطريقة الأولى، إذ تطمئن أن الأصدقاء يعتنون بالحقيبة.