مشعل السديري:اليمن الجنوبي (هدية بزبديّة)
يوم الخميس الماضي تكلمنا عن زيارة الملكة البريطانية إليزابيث لعدن، التي كانت أهم ميناء وأجمل مدينة في المنطقة.
وكانت مديرية التواهي التي كانت من توابعها حينها تبدو كقطعة مصغرة من بريطانيا حيث كان مجسم ساعة يشبه ساعة بيغ بن يقع في أعلى الجبل المطل على الميناء، بالإضافة إلى نصب ومجسمات عديدة منتشرة في المديرية، فهناك رصيف السواحي وفنادق وبنايات أخرى مبنية على الطراز المعماري البريطاني القديم، ومنها فندق كريسنت الهلال، وفندق روك الصخرة، وأخرى عديدة مثل السينمات والمسارح والملاعب والحدائق، والحياة العصرية الحديثة.
ولكن بعد خروج بريطانيا من عدن 1967، قامت الحركة التصحيحية باعتقال الرئيس قحطان الشعبي وأدخلت العامل الأيديولوجي الماركسي وغيّرت اسمها إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وبدأت بتأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد، أممت كل شيء حتى قوارب الصيادين البؤساء.
وبحلول عام 1974 كان ميناء عدن مصدر الدخل القومي الأكبر لجمهورية اليمن الجنوبي، وفي يناير (كانون الثاني) 1986 تمزقت عدن بسبب تناحر فصيلين في الحزب الاشتراكي اليمني والذي أدى لاندلاع الحرب الأهلية في 1986، وقُصفت مدينة عدن خلال الحرب من البر والجو.
وتقاتل الرفاق على كرسي الحكم، وكلما ظفر به أحدهم حتى جندلوه ومسحوا به الأرض، إلى أن رجن على ذلك الكرسي المشؤوم علي سالم البيض عام 1990، وخوفاً منه أن يأتي عليه الدور، هرب إلى اليمن الشمالي وقدم اليمن الشمالي هدية مجانية لعلي عبد الله صالح، وأصبح البيض نائباً له، وبعد أربع سنوات قامت حرب صيف 1994، وهرب البيض ولكن استعادت القوات الحكومية السيطرة على المدينة، وأعقب ذلك عمليات نهب منظمة، وظلت عدن في حالة ركود سياسي لـ25 عاماً حتى لجوء الرئيس عبد ربه منصور هادي إليها، ومباشرة أعماله منها، ونقلت بعض السفارات العربية والأجنبية إلى عدن التي أعلن الرئيس هادي أنها عاصمة مؤقتة لليمن في 7 مارس (آذار) 2015، بدلاً من صنعاء التي وصفها بالمحتلة.
ولو أردنا المقارنة بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي لوجدنا كثيرا من التناقضات والمفارقات، فمساحة الجنوبي أكبر من الشمالي بضعفين ونصف، كما أن عدد سكان الشمالي أكثر من الجنوبي بخمس مرّات، وأطوال السواحل في الجنوبي، أطول من الشمالي بثلاث مرّات، والثروات الطبيعية في الجنوبي المنبسط أكثر من الشمالي الجبلي بما لا يقل عن عشر مرّات.
وعلى هذا الأساس أريد أن أؤكد أن البيض الهارب قدّم اليمن الجنوبي لعلي عبد الله صالح: (كهدية بزبدّية).
كان سياسي لبناني من عائلة سكاف يروي أن الجامعة العربية عقدت في الأربعينات مؤتمراً في بلدة شتوره حضره وفد من اليمن. وفيما هو يتمشى ذات يوم مع مندوب اليمن، توقف المندوب فجأة وقال له: «اسمعني جيداً يا صديقي، ولا تغضب مني. إن دولتكم لن تعيش طويلاً. كل هذا الجمال، وهذه الجبال، والسهول، والأنهار، والغابات، والأمطار، والبحيرات، والمناخ والمواسم. هذا ليس بلداً. هذا مشروع خلاف دائم».
سأله النائب اللبناني، لماذا هذا الرهان؟ فقال ما معناه: «لأن أبناءه سوف يدعون إرثه وآباءه سيدعون أبوته، وجيرانه سوف يدعون ملكيته، فيحوّله النزاع الدائم من وطن إلى كابوس».
كان العرب في تلك المرحلة لا يزالون يرون في لبنان مركز مقاصدهم: هو الجامعة المتقدمة، وهو المستشفى المتقدم، وهو الصحافة المتطورة، وهو المصيف الجميل والمشتى المعتد، والمقهى المنفتح، والسفر السعيد. وفي الخمسينات أضاف لنفسه مهمة أخرى: الملاذ السياسي.
أوائل الستينات تبدل الأمر. سقطت الوحدة المصرية السورية في دمشق، فبدأ لبنان بالتساقط. المهمة أصبحت تهمة. موالاة مصر أو سوريا «البعث»، الذي أطل في بغداد، ثم دمشق، اختار بيروت حلبة ملاكمة، ومن ثم حلبة قتل.
مع سهولة العدوى وضعف الدولة اللبنانية، صارت الحلبة ساحة للجميع. انكفأت مصر، «فحكمت» منظمة التحرير. تصاعد النزاع السوري العراقي، فانضم إليه النزاع السوري – الفلسطيني. ثم تطورت الملاكمة إلى حرب مفتوحة بين جميع قوى الأرض، واللبناني الذي كان يستقبل العرب بالنسائم العليلة، صار يستقبلهم بالرشاشات.
انتهت حرب الجبهات وبدأت، دون إعلان، حرب الساحات. وإضافة إلى سائر القوى القديمة، أطلت للمرة الأولى، القوة الإيرانية. وتغيرت خريطة المنطقة من داخل ومن خارج. لبنان الذي لم يقسم بين مسيحيين ومسلمين، انقسم عملياً بين سني وشيعي، وتحوّل المسيحيون إلى شهود عرس وأدعياء أمجاد بالية، مكملين مسيرتهم الانتحارية خلف فكر انتحاري، هو مزيج من المدفعية العمياء وسوق التجارة السوداء.
قبل يومين انقسم لبنان على نحو أشد خطورة عندما أعلنت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» جمع متطوعي لبنان لحرب غزة. عارض الخطوة كثيرون، بينهم رؤساء ووزراء سابقون. أخطر لحظات المصير ولبنان بلا رئيس، وبلا حكومة، و«الممانعة» لا تلتفت حتى إلى رأيه في الحرب الدائرة على أراضيه.
ليس من يعارض أو يتجاهل دعم غزة في صمودها الملحمي سوى فاقدي الحس والعقل. أما الذين يحوّلون سيادة لبنان المريضة والمعتلة، فإنهم يفتقدون حقاً إلى الحكمة واللياقة، مهما كانت الظروف.