استعان الرجل في إطاحته لـ”حل الدولتين” باتفاقات أبراهام. أعطاها مثالاً لما يرغب ويطمح الى أن يكون حال الشرق الأوسط بعد الحرب! وهو استعاد “صفقات أبراهام” في لحظة صعود استثنائي لترامب، راعي تلك الاتفاقات، ومدغدغ أحلام مشايخ الإمارات بانقضاء حقبة الحزب الديموقراطي في أميركا.
أشار بنيامين نتانياهو مراراً، في خطابه أمام الكونغرس الأميركي، إلى من أسماهم “أصدقاؤنا العرب”. قال ذلك في سياق عرضه تصوّره لـ”اليوم التالي للحرب”. إنها الإشارة الوحيدة في الخطاب التهريجي الى ما يمكن أن نسّميه “سياسة”. فأصدقاؤه العرب اندرجوا في خطابه في سياق تصوّره لحقبة ما بعد الحرب.
“الزمن الإبراهيمي”
تحدث نتانياهو عن ضرورة انبعاث “الزمن الإبراهيمي”. هل تذكرونه؟ إنه الزمن الذي وُلدت من رحمه “7 أكتوبر”. السلام المجاني، والمنبعث من مخيّلة يمين إسرائيلي ديني ومن طموحات مشايخ إمارات الخليج في الاستثمار، على حساب الحق الفلسطيني.
وتوّج نتانياهو خطابه بإشارة واضحة إلى ما يعنيه هذا السلام بالنسبة إليه. ففي سياق شكره وامتنانه لدونالد ترامب، ذكّر المصفّقين له أن ترامب كان أول من اعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وفي هذه اللحظة فجر قنبلته الأكبر في الكونغرس، القدس عاصمة غير قابلة للتقسيم لدولة إسرائيل. قال ذلك بالحرف الواحد.
إذاً، لا مكان لكل ما قيل في سياق الحرب، عن حلّ الدولتين. كلام السعودية وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي عن حلّ الدولتين، أطاح به نتانياهو في خطابه في الكونغرس الأميركي، وليس في الكنيست الإسرائيلي.
استعان الرجل في إطاحته لـ”حل الدولتين” باتفاقات أبراهام. أعطاها مثالاً لما يرغب ويطمح الى أن يكون حال الشرق الأوسط بعد الحرب! وهو استعاد “صفقات أبراهام” في لحظة صعود استثنائي لترامب، راعي تلك الاتفاقات، ومدغدغ أحلام مشايخ الإمارات بانقضاء حقبة الحزب الديموقراطي في أميركا.
رسم نتانياهو في خطابه صورة لما يريده لغزة بعد الحرب. سلطة أمنية مطلقة لإسرائيل، وإدارة “مدنية” للفلسطينيين، من دون أن يحدد هوية هذه السلطة. إنها الوصفة الدقيقة لـ”7 أكتوبر” أخرى. أكثر من 5 ملايين فلسطيني موزّعين بين الضفة الغربية وغزة سيكونون خارج حسابات “الزمن الإبراهيمي”. حماس ستصفق لهذا الاحتمال، وإيران سيكون هذا الزمن مخرجها من الضيق الذي سيسببه لها وصول ترامب إلى السلطة. طهران من جهة ستكون عرضة لحمق ترامب، لكنها من جهة أخرى ستكسب بيئة خصبة لخطابها الأيديولوجي.
شكّل خطاب نتانياهو إجابة عن كل أسئلة “حل الدولتين”. إذ أقفل الرجل النقاش حول حلّ الدولتين، وصفّقت له غالبية أعضاء البرلمان الأميركي بغرفتيه. لا دولة فلسطينية، ولا شركاء فلسطينيون. إذاً، الحرب هي الأفق الوحيد المتاح. خرافة القضاء على حماس، تم اختبارها على مدى تسعة أشهر، و”الزمن الإبراهيمي” سيتولى إشعال الضفة الغربية على نحو أكثر وضوحاً مما هو اليوم. والمنطقة ستكون أمام مشهد يتوزّعه يمينان دينيان لا مكان بينهما لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا للأردن، الذي كابد الأمرّين في الزمن الإبراهيمي الأول.
الحرب هي الأفق الوحيد الذي رسمه الخطاب: الحرب في غزة وفي الضفة وفي لبنان، وسيضاف إليها انسداد في العلاقة مع عمان باعتبارها “الوطن الفلسطيني البديل”، التي كانت وستبقى في وعي اليمين الإسرائيلي. كما أن مصر مرشّحة أكثر للترانسفير، على رغم ما قد يُعرض عليها من إغراءات مالية في ظل اندراج مشيخات خليجية في “الزمن الإبراهيمي”.
على إسرائيل أن تخاف من نفسها بعد خطاب بيبي أمام الكونغرس. “7 أكتوبر” ليست فشلاً أمنياً فحسب، فالأهم هو من أين وُلدت، ومن أي رحم سياسي. الإجابة إذا ما اقتصرت على حماس وإيران، تبقى ناقصة ما لم تسبقها حقيقة أن “اتفاقات أبراهام” خلفت شعوراً لدى الفلسطينيين بأن العالم تجاوز محنتهم، ولم يعودوا شرطاً للسلام بين العرب وإسرائيل.
هذه المعادلة إذا ما وضعها المرء نصب عينيه سيرتعب من فكرة أن ثمة من يعتقد أن بإمكانه أن يتجاوز حق خمسة ملايين إنسان، ومثلهم وأكثر في الشتات غير البعيد. هذا ما فعلته “اتفاقات أبراهام”، وما قدمه نتانياهو أمام الكونغرس ليلة الأربعاء الفائت.
أول من يجب أن يتعلم هذا الدرس هو إسرائيل، أما الإبراهيميون العرب فعلينا أن ننتظر يائسين ما إذا كان درس الحرب على غزة قد غيّر شيئاً من اندفاعتهم نحو نتانياهو.
الأهم من هذا كله، أن يستثمر المرء في احتمالات ألا يفوز دونالد ترامب، والملاحظ أن نتانياهو فعل عكس ذلك في خطابه. فالرجل تحدث كما لو أن صديقه صار في البيت الأبيض، وهو أمر مفهوم، ذاك أن هزيمة ترامب ستعني لنتانياهو نهاية مستقبله السياسي. وهذا ما يبدد الحيرة حيال عدم تردّد رئيس الحكومة الإسرائيلية في الرهان المطلق على ترامب، على رغم أن احتمالات خسارته تساوي احتمالات فوزه حتى الآن. في كلا الحالين، إسرائيل لن تخسر الدعم الأميركي، لكن نتانياهو سيخسر احتمالات نجاته إذا ما خسر ترامب.
تتعدّى معضلة إسرائيل معضلتنا، و”اتفاقات أبراهام” لن تجلب لها سلاماً، بل مزيداً من الحروب. أما مشهد الكونغرس بالأمس، فهو يذكرنا على ما أشار صديقنا مايكل يونغ، بمشهد البرلمان السوري عندما يقف أعضاؤه مصفّقين لبشار الأسد حين يقول إن بلده أعظم ديموقراطية في العالم. فأعضاء الكونغرس صفّقوا لنتانياهو عندما قال إن جيشه لم يقتل مدنياً واحداً في رفح!!!