:
عبد الرحمن الراشد:ترمب ومشروع تغيير المنطقة
واحدٌ من أكبرِ الأخطاءِ في التَّعاملِ مع الرئيسِ المنتخَبِ دونالد ترمب هو التَّقليلُ من قدراتِه، كونُه لا يتحدَّثُ لغةَ الأكاديميين، ولا يستخدمُ عباراتِ المحلّلين، ولا تُعرفُ عنه لباقةُ السياسيين ومداورتُهم، لا يجعلُه أقلَّ فهماً ودرايةً بالقضايَا المَطروحَة.
هزأَ منه خصومُه كثيراً سواء كانوا المحليينَ، ضمنَ المماحكاتِ الانتخابيةِ والحزبية، أو المعلقِينَ الأجانب لتشويهِ سمعتِه. ترمب ليسَ مثل بيل كلينتون خريجَ ييل، ولا مثلَ بايدن بخبرةِ خمسين عاماً في دهاليزِ الكونغرس وعالَمِ السياسة، إنَّما ما فعلَه في الأربعِ سنواتٍ التي حكمَ فيها الولاياتِ المتحدةَ كانَ أكثرَ نجاحاً في التَّعاطِي مع الأحداث. عندمَا هدَّدَ بإلغاءِ الاتفاقِ الشاملِ مع إيرانَ أو تحسينِه رفضُوا وقيلَ له إنَّه اتفاقٌ دوليٌّ لا يستطيعُ الانسحابَ منه. ألغاهُ بالكَاملِ وغيَّرَ مسارَ تاريخِ المِنطقة، وأنقذَها من أخطارِ ذلك الاتفاقِ السيئ.
قد لَا يكونُ ترمب مثقفاً مثل كيسنجر، ولا متواضعاً مثل كارتر، وكونُه جاءَ من السُّوقِ والاستثمارِ والعقار، يرجِّحُ كِفَتَّه في بلدٍ رأسماليّ كالولاياتِ المتحدة يقومُ على العملِ الجادِّ والتَّنافسِ من أجلِ الكسبِ والنجاح.
بَرهنَ ترمب على قدراتِه القياديةِ وكانَ أبرزَها نجاحُه في الانتخاباتِ الرئاسيةِ الأولى، وكرَّرها في الثانية، نجاحُه يعزى له شخصياً وليسَ لشركاتِ العلاقاتِ العامَّةِ أو لحزبِه الجمهوري. بخلافِ الحالِ مع معظمِ الرؤساءِ الأميركيين السَّابقين الذين يحظوْنَ بدعمِ أحزابهم وقادةِ حملاتِهم. انتصارُه في هذه الانتخاباتِ حدثٌ فريدٌ وهو شهادةٌ له على شعبيتِه وقدرتِه على التأثيرِ، ممَّا يجعلُه قادراً على التغيير، وقيادةِ بلدٍ كبيرٍ ومهمٍ مثل الولايات المتحدة، واتخاذِ قراراتٍ لا يجرؤ كثيرون على اتخاذِها.
سيخوضُ معاركَ داخليةً متعددةً كما وعدَ ناخبيه بالتغيير في ملفاتِ الهجرةِ والاقتصادِ والتعليم، وسيثيرُ الكثيرَ من الزوابع في سنواتِ حكمِه الأربع التي على وشكِ أن تبدأ.
ماذَا عن الشرق الأوسط؟ دعونا نستذكرْ ماذا فعلَ فورَ دخولِه البيتَ الأبيض رئيساً في عام 2017. قرَّر حينَها تخطّي البروتوكول، حيث كانت بريطانيا المحطةَ الأولى عرفاً، التي يبدأ منها كلُّ رئيسٍ أميركيّ جديدٍ رحلاتِه للعالم. ترمب قرَّر أن يبدأ من الرياض وليس لندن. وكانتِ السعوديةُ محطَّ هجومٍ عنيفٍ من سياسيينَ أميركيين، وسبقَ أن عَدّ سلفُه الرئيسُ أوباما العلاقةَ بالمملكة من ماضِي العلاقات الأميركية.
ترمب بدوره كانَ قد خاضَ انتخاباتِه وسطَ عواصفَ، وأُلصقت به تهمُ العنصريةِ ضد العربِ وضد المسلمين، وفاجأ الجميعَ بقبولِه دعوةَ السعوديةِ واختارها محطتَه الأولى. رحلتُه كانت رسالةً للسياسيين المعادينَ في واشنطن، ورسالةً لدولِ المنطقة. وسارتِ العلاقةُ في الأربعِ سنواتٍ كمَا أرادَها ترمب، وعندما خلفَه بايدن تراجعَ عن وعودِه وسارَ لاحقاً على طريق ترمب.
عندمَا يقولُ الرئيسُ المنتخب إنَّه قادرٌ على حلّ أزماتٍ خطيرة مثل أوكرانيا، وحربي غزةَ ولبنان، وغيرِها من القضايا التي وعدَ بالتعامل معها خلالَ حملتِه الانتخابية، نتوقَّعُ أنَّه يعنيها. لديه أغلبيةٌ في مجلسي الكونغرس، وقد باشرَ اتصالاتِه ولم ينتظر حتى يبدأ وظيفتَه رسمياً في العشرينَ من يناير (كانون الثاني) المقبل.
النقطةُ الأخيرةُ التي تستحقُّ الإشارة، هي: ليس كيفَ يرى ترمب العالمَ، بل كيف يرَى العالمُ ترمب. الصورةُ التي رُسِّختْ دولياً أنَّه ذو شخصيةٍ قوية، سريعُ التَّحرك، ويفعلُ ما يقول. هذه الصُّورةُ تجعلُ خصومَ الولاياتِ المتحدة يفكّرون مرتين قبل التَّورطِ معه في قضايا كبرى، وأكثرُهم سيفضّلُ إبرامَ اتفاقاتٍ وصفقاتٍ سياسيةٍ معه، ما دام أنَّه يملك الإرادةَ ولديه الأدواتُ مثل مجلسَيْ الكونغرس.
أعتقدُ أنَّه ينوي أن يغيِّرَ مِنطقةَ الشرقِ الأوسط، وسنشهدُ ذلك من خلالِ الاتفاقاتِ والعقوباتِ وليس عبرَ الحروب. فعلاً، كما يردّدُ، حَكمَ أربعَ سنواتٍ ولم يخضْ حرباً واحدة، لكنَّه كانَ صارماً في تطبيقِ العقوبات؛ لهذَا على المِنطقةِ أن تستعدَّ وتستوعبَ التَّغييراتِ المقبلة.
ليس من لا يعرف في عالم الآداب جورج أورويل ورائعتَيه «مزرعة الحيوان» و«1984». من خلال السرد الرمزي، يصور عالماً سوف يعيش في ظل الرقيب والديكتاتور، متخذاً من ستالين وموسوليني نموذجاً. قلائل يعرفون أن أورويل لم يكن الرائد في هذا النوع من التخيل الواقعي. هو، والبريطاني الآخر، هـ. ج. ويلز، وسواهما، قلدا، إلى حد بعيد، السوفياتي يفغيني زامياتين، الذي أصدر عام 1920 رواية «نحن».
لم يكن التلفزيون قد عُرف بعد. ولذلك، تخيّل زامياتين «الدولة الواحدة» مبنية كلها من زجاج، بحيث يمكن مراقبة جميع السكان، في كل حركة يأتون بها، إلا ساعة واحدة في اليوم، يمكن للمواطن فيها أن يخلو بنفسه.
بعد التلفزيون وكاميرات المراقبة في كل مكان، أصبح العالم أجمع يعيش في الدولة التي تخيلها زامياتين، خصوصاً المشاهير. اللقاء بين الرئيسين الأميركيين، بايدن وترمب، كان في بيت من زجاج. الرئيس المقيم يستقبل الضيف بسيل من الابتسامات المرسومة، والرئيس الآتي يبذل جهداً فائقاً في تصنع الاكْفِهْرَار لكيلا تنزلق منه ابتسامة، أو طرف ابتسامة، للرجل الذي أخّر وصوله إلى البيت الأبيض أربع سنوات!
أعتذر من جنابكم في فتح قوسين كي أعود إلى مصطلح «لغة الجسد» المنقول عن خطأ في الأساس. الجسد لا لغة له. الذي ينفعل، ويغضب، ويفرح، ويدمع، ويحمرّ، ويصفرّ، وينفرج، ويضيق، ويتبرم، هو الوجه من الجسد. أحياناً تساعده حركة من ذراع، أو شيء من هذا، لكن «النطق الصامت» أو «اللغة الإضافية» هما تعابير الوجوه. وأرجو ألا يصحّح لي أحد بـ: «ماذا عن لغة البكم؟»، رعاهم الله، فهي ليست لغة مولودة، بل إشارات متعارف عليها. والإشارات شيء والأمائر شيء. فتلك لغة يتعلمها البعض، وتلك لغة يتحدثها الجميع.
في أي حال، وقد قلنا قولنا هذا، ووضعنا المسألة بين يدي أعرافكم ومعارفكم وجليل عدالتكم، وبهذا الالتماس، نلفت انتباهكم أيضاً إلى أن عالمنا سوف يعيش السنوات الأربع المقبلة مع أكثر الوجوه بلاغة وتعبيراً: إذا حكى وإذا اكتفى. ولن يكتفي.